نبال زيتونة، رحلة لجوء قسريّة في منتصف العمر

نبال زيتونة من مواليد السويداء 1962، مقيمة حاليّاً في فيينا، النمسا منذ عام 2018. حاصلة على إجازة جامعيّة في اللغة العربيّة من كليّة الآداب، جامعة دمشق. عملت في مجالات عدّة منها؛ محرّرة في هيئة الموسوعة العربيّة، كما في مركز البحوث الأثريّة التابع لوزارة الثقافة. ومنذ عام 2000، عملت مدرّسة للغة العربيّة في الغوطة الشرقيّة، ريف دمشق، إضافة إلى عملها مدقّقة لغويّة لنشرات الأخبار في التلفزيون الرسمي السوري، في الفترة نفسها، إلى أن فصلت من العملين بعد اعتقالها على يد السلطات السورية، في نهاية عام 2013. نبال متفرغة حالياً لتعلم اللغة الألمانية. وهي عضوة في الحركة السياسية النسوية السورية.

بعد الانتهاء من دراستها الجامعية استقرّت نبال في جرمانا، ريف دمشق، تقول: كان لي في هذه المدينة حياة وعمل وأصدقاء، قبل أن أُقتلع منها، حيث اضطررتُ لمغادرة سوريا بعد خروجي من المعتقل.

بالرجوع إلى بدايات انطلاق الثورة السورية عام 2011 تقول نبال: مع بداية الربيع العربي، كبر الأمل في الشارع السوريّ، واقترب الحلم بالتغيير، وكان لابدّ من تلقّفه بكلّ ما أوتينا من شغف وحماس، بالانضمام إلى التظاهرات والاعتصامات، والتنسيق لها، إلى جانب المشاركة في التجمّعات والتنظيمات النسويّة، التي كانت حاضرة من البداية. على الصعيد الشخصي تضيف نبال: أستطيع أن أصنّف نفسي، من ذلك الجيل الذي تفتّح وعيه على حلم التغيير، في وسط توفّرت فيه مكتبة متنوّعة من الثقافة والفكر والسياسة، حيثُ كان والدي من جيل المعلّمين الأوائل في محافظة السويداء. أمضى جلّ سنواته في التعليم خارج بلدته، عقاباً له لأنه لم يكن من المصفّقين أو المنتمين للحزب الحاكم آنذاك (حزب البعث). وأمّي لبنانيّة المنبت، عاشت طفولتها متنقّلة في البلاد مع أسرتها، حيث كان والدها مع الثوار ملاحقاً من قبل المستعمر الفرنسيّ. في مثل هذه البيئة، كانت مناقشة السياسة متاحة في الوسط الضيّق للأسرة وبعض المقرّبين، تحسّباً لأيّ أذى يمكن أن يطالنا. وكان لنا حريّة الانتماء السياسيّ ذكوراً وإناثاً، وبالنسبة لي كنتُ أميلُ إلى الأدب أكثر من السياسة. كبرتُ وكبر معي حلم التغيير؛ التغيير من أجل العدالة وحريّة التعبير الموءودة، وتغوّل المؤسسة الأمنيّة وفرض رقابة أمنيّة مشدّدة على السوريات/ين.


ترى نبال أنه عند قيام الثورة كانت الحاجة للتغيير قد بلغت ذروتها وباتت ملحة لأسباب عدة منها: التغيير من أجل التعدديّة السياسيّة، التي جفّف منابعها نظام الحزب الواحد، بعزل المجتمع السوريّ عن العمل السياسيّ والمدنيّ. التغيير من أجل العدالة الاجتماعيّة، والتفاوت الطبقيّ، وتهالك مؤسّسات الدولة، الذي خلّفته سلطة الاستبداد ناهبة موارد الشعب. التغيير من أجل المواطنة المتساوية دون تمييز، من أجل حقوق النساء المسلوبة، تحت مسميات قانونيّة خاضعة للعرف الاجتماعيّ والدينيّ.

“رحلة لجوء قسريّة في منتصف العمر، وما يترتّب عليها من بداية جديدة، وبناء حياة جديدة في مجتمع جديد بلغة وثقافة وقوانين جديدة. فلا عجب أن تستهلك حياة اللجوء جلّ طاقاتنا وأيامنا، ومن جهة أخرى، فقد حصلت على الأمان الذي افتقدته في بلدي، ما أعطاني مساحة تليق بإنسانيّتي في حريّة التعبير والكتابة وإبداء الرأي.”

اضطرت نبال لمغادرة سوريا بعد خروجها من المعتقل مباشرة، حيث تمّ اعتقالها بتاريخ 28/11/2013، وخرجتُ بصفقة تبادل “راهبات معلولا” بين النظام والمعارضة، حيث “كان من الصعب العودة إلى حياتي الطبيعيّة، وقد سلك النظام مسلك العصابة التي لا ترعى العهود والمواثيق، بأن يعود لاعتقال المُفرج عنهن/م بهذه الطريقة. وكنت قد فُصلت من عملي، ومُنعتُ من استصدار قرار الفصل”، وفق وصفها. في لبنان كانت لنبال تجربة بالعمل في مخيّمات اللجوء في البقاع، حيث عملت في تعليم الأطفال مع مؤسسة “كياني”، كما عملت على إلقاء الضوء على واقع النساء اللاجئات والأطفال في المخيمات وخارجها، على شكل مواد صحفيّة، وتحقيقات تُنشر على موقع “شبكة المرأة السوريّة”، التي هي عضوة فيها.

وعن انتقالها من لبنان إلى النمسا تقول نبال: رحلة لجوء قسريّة في منتصف العمر، وما يترتّب عليها من بداية جديدة، وبناء حياة جديدة في مجتمع جديد بلغة وثقافة وقوانين جديدة. فلا عجب أن تستهلك حياة اللجوء جلّ طاقاتنا وأيامنا، ومن جهة أخرى، فقد حصلت على الأمان الذي افتقدته في بلدي، ما أعطاني مساحة تليق بإنسانيّتي في حريّة التعبير والكتابة وإبداء الرأي.

عند سؤالها عن بدايات تشكل وعيها السياسي أجابت نبال: وعيتُ مبكّراً أساليب القمع، التي كان ينتهجها النظام، وأدركتُ زيف الشعارات التي كانوا يتغنون بها. وقد تمثّل بداية في الإكراه على الانتساب للحزب الحاكم، وتلا ذلك إلزامي بتوقيع تعهّد على نفسي، بعدم مراسلة الإذاعات الأجنبيّة، على خلفية مشاركتي بقصيدة شعريّة عن الأمّ، بعيداً عن السياسة، في برنامج “أقلام واعدة”، الذي كان يُبثّ من الإذاعة الأردنيّة آنذاك، إلا أنّني بقيت بعيدة عن ميادين العمل السياسي حتى بدأت الثورة، وأصبح العمل السياسيّ أمراً واقعاً، تحت ضغط التحوّلات المفصليّة والعسكرة، التي أقصت النساء عن الساحة. فكان لابدّ من استعادة زمام المبادرة، لتثبيت صوتنا في صياغة مستقبلنا، الذي يفترض مشاركة الجميع. واستشعرنا خطورة الوضع على مستقبلنا كنساء، فكان لابدّ من إعادة صياغة التمثيل الرسمي، ومن هنا جاءت ضرورة تواجدنا في الحركة السياسية النسوية السورية.

تختصر نبال أهم التحديات التي كانت تواجه العمل السياسي في سوريا قبل عام 2011، بالقول: أستطيع أن أوجز ذلك بانعدام الحياة السياسيّة في سوريا في تلك المرحلة، فقد استفرد نظام الأسد بالسلطة، من خلال حزب شمولي، لا يقبل التعدّدية، ويستحوذ بنصّ دستوريّ على جميع السلطات، تدعمه المؤسسة الأمنية، التي تدير مفاصل السياسة في سوريا، وقد تراوحت عقوبات من خاض/ت ميادين العمل السرّي، بين سنة إلى عشرين سنة اعتقال.

كما كان العمل السياسيّ وصمة في تلك المرحلة، حيث واجه/ت العاملون/ات بالسياسة تحديات مجتمعيّة، وعقوبات جماعيّة على العائلة والأصدقاء بالتهديد والانتقام، ومنع من العمل والسفر.

لم يختلف الأمر اليوم في الداخل السوريّ، فما زالت الدولة الأمنية تحكم قبضتها على الحياة السياسيّة هناك. أمّا عن السوريّات/ين في الخارج، فقد خرجن/وا عن ذلك الطوق لتغصّ الساحة بعدد من الأحزاب والتجمّعات والتنظيمات، في حالة تعطّش حقيقيّ للعمل السياسيّ.

أما عن التحديات التي تواجه المرأة السورية بشكل خاص في العمل السياسي، تقول: ضعف آليات الممارسة الديمقراطيّة في العمل السياسي، تشكّل عائقاً أمام المرأة السوريّة، تضاف إليها عوامل أخرى، تتعلق بالهيمنة الذكوريّة على مفاصل الحياة العامة، التي مازالت تنظر لقدرة المرأة في العمل السياسي بعين الشكّ وعدم الثقة، ومازالت ترى في “الكوتا”، التي تعدّ تمييزاً إيجابيّاً مؤقتاً تتطلّبه الضرورة في مرحلة النزاعات وصولاً للمناصفة، تجنياً على الديمقراطيّة.

انضمّت نبال إلى الحركة السياسية النسوية السورية إيماناً منها بأهدافها ومبادئها وبقدرتها على أن تأخذ مكانها في الساحة السورية، ففي غمرة التهميش وتحييد النساء عن المشاركة الفاعلة في منصّات المعارضة، كان لابدّ من جسم سياسيّ يدعم الحضور النسويّ في الحلّ السوريّ، ويواجه كلّ أشكال الاستبداد وسيطرة قوى الأمر الواقع على امتداد الساحة السوريّة، ومن إيمانها بضرورة وجود جسم سياسيّ تقوده النساء، ويعبّر عن تطلعاتهن، إذ لا يمكن ملء الفجوة الجندريّة بين الجنسين إلا بحضور فاعل للنساء للمشاركة بصياغة مستقبل سوريا.


تقول نبال: أعتقد أنّ الحركة السياسية النسوية السورية بعضواتها وأعضائها الفاعلات/ين على الساحة السوريّة وخارجها، يمكنها الوصول لأماكن صنع القرار، فقوّة حضور المرأة ترجّح كفّة التوصل إلى اتفاقيات السلام وتنفيذها، ولها تأثير قويّ على عمليات التفاوض، بممارستها الضغط من أجل حلّ سياسيّ عادل وفق القرارات الدوليّة، وأخصّ بالذكر القرار 1325، وتضيف: كما تقوم الحركة السياسية النسوية السورية أيضاً بمشاوراتها الوطنية، على كامل الجغرافيا السوريّة، وفي بلاد اللجوء بجميع الملفات المهمة، بتحديد القضايا والمطالب والتوصيات الرئيسة، التي تعني السوريين بشكل عام والنساء بشكل خاص، لتضمينها في التسوية السياسيّة، ووضع استراتيجيات واضحة وفعالة في وثائقنا، لجندرة العمليّة السياسيّة، والمشاركة في صناعة القرار على الصعيد العام، بدءاً من حضورها على طاولة المفاوضات، وصولاً لصياغة دستور يضمن حقوق النساء. والأساس في كلّ شيء التأكيد على العدالة الانتقالية، التي تؤسس لدولة القانون والمواطنة المتساوية والسلام المستدام.

بالمقابل تقرّ نبال بوجود بعض المعيقات التي تواجه نشاط الحركة السياسية النسوية السورية أو تحدّ من تحقيق رؤيتها: “رغم توفّر تقنيات التواصل، يبقى موضوع الشتات، أحد أهم التحديات التي تواجهنا، فوجود النظام وقوى سيطرة الأمر الواقع عائق أمام نشاط الحركة وانتشارها، إضافة إلى الضعف العدديّ بتمثيل النساء على طاولة المفاوضات، وفي اللجنة الدستورية، ما يزيد تخوّفنا بالإقصاء عن المشاورات الرسمية، وتمثيلنا باللجان الشاملة ما بعد اتفاقية التسوية السياسيّة، لأن هذا التمثيل يشكّل قوة ضاغطة لضمان حقوقنا وتنفيذ رؤيتنا السياسية النسوية”.

بالنسبة لما تشهده الساحة السياسية السورية من أزمات، سألنا نبال، أين نحن اليوم من مبادئ الثورة الأساسية، وكيف بالإمكان إعادة توجيه بوصلة السوريات والسوريين في العمل الثوري؟ أجابت: بعد عشر سنوات، ومع تدخلات القوى الإقليمية والدوليّة، بدءاً من التدويل في مجلس الأمن، وصولاً لتواجد عسكريّ تمثّل بخمس احتلالات تتقاسم مناطق النفوذ في سوريا، إضافة لإغراقنا بالصراع الهوياتي، وتشظي الهويّة السوريّة الجامعة، التي كان يجب أن تكون المآل للوصول إلى وحدة مؤتلفة بعيداً عن خطاب الكراهية، ومع زيادة العقوبات الاقتصاديّة على النظام، كوسيلة ضغط لانخراطه بالعملية السياسية، بينما يقوم بإدارة الأزمة، ويزيد بثقلها على المدنيات\يين، يزداد الوضع تعقيداً لتصبح سوريا جزءاً من ملفات عالقة، تتنازع عليها هذه الدول خارج أراضيها، إذ تحوّلت لورقة مقايضة، وساحة تصفية لهذه النزاعات بالوكالة أولاً، ثم بالأصالة داخلها، ما قوّض قدرة السوريات/ين على إنتاج حلّ سياسي عادل، يتضمّن مطالبنا التي أطلقناها مع بداية حراكنا السلمي. إضافة إلى عوامل وتحديات أخرى ساهمت في هذا التقويض، كارتهان القوى السياسيّة لإرادة الخارج لتحقيق مصالحه كأولوية، على حساب معاناة السوريّات/ين بالتجويع والتشريد والاعتقال. ومازاد في تدهور الوضع ظهور قوى الثورة المضادة، وتذرّع المجتمع الدوليّ بمحاربة الإرهاب، فكان مؤدّاه عطالة مجلس الأمن الدوليّ، وضعف آليات الأمم المتحدة في تنفيذ القرارات الدوليّة، حيث تمّ حصرنا بين متلازمتين؛ النظام والقوى المتطرفة، للاختيار بينهما، وعزلنا عن دائرة صنع القرار. لكن لم تتوقّف جهود السوريات والسوريين  للعمل على صياغة استراتيجيات للمقاومة.

“نناضل من أجل حقوق النساء، كلّ النساء، حتى اللواتي لا يتوافقن مع رؤانا، والتعريف بأهمية حقوقهن، وهذا لن يكون إلا بصياغة دستور يراعي الحساسيّة الجندريّة، دستور غير قابل للنقض بالقوانين الفرعيّة، ولا يحتمل التفسيرات التي تفرغه من محتواه.” 

من المحطات الإيجابية التي تستحضرها نبال خلال العشر سنوات الماضية: في مرحلة مبكّرة من عمر الثورة، كان لي تجربة العمل مع شابات وشبان، وقد لمست لديهم وعي الثورة من أجل الحقوق، الثورة التي لا تنحصر باستبدال نظام استبداديّ بنظام استبداديّ آخر، حيث لمستُ نزوع الشابات للتحرّر من الهيمنة الذكوريّة في التخطيط والتنسيق للتظاهر والاعتصام، كما في مفهوم الوصاية التي يعتقد الذكور بأنّها من مهامهم.

من جهة أخرى تصف نبال تجربة الاعتقال بأنها “الأقسى في تلك المرحلة قد أكون خرجتُ منهكة الجسد، وأحمل وجعاً في الذاكرة، لكنّ ذلك يدفعني للاستمرار في العمل من أجل بناء سوريا المواطنة المتساوية لكلّ بناتها وأبنائها”.

تصف نبال سوريا المستقبل بـ: بلد المؤسسات الديمقراطيّة والحريّات. أراها دولة علمانيّة، على مسافة واحدة من كلّ مكوّناتها القوميّة والإثنيّة والدينيّة. وهذا لن يتحقق، ولن نصل لأي حلّ سياسيّ ترعاه الدول باسمنا، إلا بإيجاد آلية لحوار سوريّ سوريّ، يستوجب التوصل إلى توافقات في القضايا الخلافية المفصلية، وأخصّ بالذكر الحوار العربي الكردي، حيث لا يمكن الوصول لحلّ سياسيّ بدون التوافق على حلّ القضية الكرديّة بشكل عادل. ويعدّ فصل الدين عن الدولة، الضامن الأساسي لحقوقنا كسوريات/ين، والاتفاق على العلمانية التي تستوجب الاتفاق على شكل اللامركزية المتنازع عليها، إلى نظام حكم يرتكز على صياغة سوريّة جامعة تمثّل مصالح الجميع، بعيداً عن استحواذ ما يسمى، الأكثرية على الأقلية في تصميم المشروع السوري، وصمام أمانه الدستور، الذي تسمو فيه الاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة على القوانين الوطنية كآلية حمائيّة للوصول إلى ما نريد.

ولنساء سوريا تقول نبال: نناضل من أجل حقوق النساء، كلّ النساء، حتى اللواتي لا يتوافقن مع رؤانا، والتعريف بأهمية حقوقهن، وهذا لن يكون إلا بصياغة دستور يراعي الحساسيّة الجندريّة، دستور غير قابل للنقض بالقوانين الفرعيّة، ولا يحتمل التفسيرات التي تفرغه من محتواه، فالعدالة الجندريّة لجميع الفئات المهمّشة، ولا تختصّ بها النساء فقط.