الإعلان الدستوري: لحظة مفصلية أم إعادة إنتاج للاستبداد؟
- updated: 16 أبريل 2025
- |
بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول لعام 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة وحاسمة من تاريخها السياسي، حيث بدأت ملامح مرحلة انتقالية تتشكل بقرارات جوهرية يُفترض أن تمهّد الطريق نحو مستقبل ديمقراطي، تعددي، وعادل. في التاسع والعشرين من كانون الثاني لعام 2025، عُيّن أحمد الشرع رئيسًا للمرحلة الانتقالية من قبل قادة الفصائل العسكرية المعارضة، وأُتبعت تلك الخطوة بحزمة من القرارات المصيرية شملت إلغاء دستور 2012، وحلّ مجلس الشعب، والفصائل المسلحة، والأجهزة الأمنية، وكذلك حلّ الجبهة الوطنية التقدمية، بما يعني إنهاء سيطرة حزب البعث على الحياة السياسية في البلاد.
في هذا السياق، وبتاريخ الثالث عشر من آذار/مارس لعام 2025، تم إصدار “الإعلان الدستوري” الذي يُفترض أن يُشكل الإطار الناظم للمرحلة الانتقالية، بعد أن صاغته لجنة قانونية مكوّنة من سبعة أعضاء وعضوات. ورغم الترحيب الأولي الذي حظي به هذا الإعلان بوصفه خطوة ضرورية لتنظيم شؤون الدولة مؤقتًا، إلا أن قراءة دقيقة لمضامينه تثير العديد من الأسئلة والقلق بشأن مستقبل العملية الانتقالية، ومدى قدرة هذا الإعلان على أن يكون أساسًا لبناء سوريا الجديدة التي طالما حلم بها السوريون والسوريات.
عند تحليل الإعلان الدستوري ومقارنته بالدساتير السابقة التي اعتمدتها اللجنة التي صاغته، وكذلك بالأخذ بعين الاعتبار الظروف والتحديات الحالية التي يعيشها الشعب السوري، والعقبات الحالية في بناء الدولة، وبالأخذ بعين الاعتبار الآثار الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية التي خلفتها سنوات الحرب والصراع، يمكن التوقف عند بعض النقاط الهامة والتي تشكل قلقاً وتوجساً للسوريين والسوريات حول المستقبل، وهذه أهمها:
منح الإعلان الدستوري لرئيس الدولة صلاحيات شبه مطلقة، دون وجود آليات واضحة للمساءلة أو الرقابة. هذا يثير مخاوف حقيقية من تكرار نماذج الحكم الفردي الذي شكّل جوهر الاستبداد السياسي في سوريا لعقود. فبدلًا من أن يؤسس الإعلان لحوكمة تشاركية، نجد أنفسنا أمام نص يعيد إنتاج المركزية المفرطة التي لطالما كانت منبعًا للفساد السياسي وتهميش الفئات المختلفة في المجتمع. هذا التركيز للسلطة ليس بسبب طبيعته السياسية، بل لما يرافقه من تغييب شبه تام للأدوار المجتمعية والمدنية في صياغة القرار، ما يعني استمرار نفي تمثيل النساء، والمكونات العرقية والدينية، والفئات المهمشة في قلب المرحلة الانتقالية.
ينص الإعلان الدستوري على احترام الحقوق والحريات وفق المواثيق الدولية، من جانب آخر، يمكن ملاحظة أن هذه الحقوق مقيدة من خلال نصوص، تُفرَض عليها قيود بحجج مثل (مالا يتعارض مع الأمن القومي – مالا يتعارض مع الآداب العامة) دون أن يتم تقديم تعريف دقيق أو محدد لهذه المفاهيم. وهو ما يجعل هذه العبارات فضفاضة يمكن تأويلها وتفسيرها حسب الجهة التي تستخدمها، مما يثير القلق من احتمال استخدامها كأداة لتبرير التضييق على الحريات أو القمع السياسي، كما حدث في تجارب سابقة. كما لم يُحدد موقفه من التحفظات السورية السابقة على اتفاقيات حقوق الإنسان، خاصة تلك المتعلقة بحقوق المرأة والطفل.
واعتبار الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع، بدل أن يكون أحد مصادر التشريع خاصة وأن الفقه الإسلامي واسع جداً، ودون تحديد طبيعة هذا المصدر أو آلية التوفيق بينه وبين التزامات الدولة المدنية، مما لا يتناسب مع مبدأ المواطنة المتساوية، ومما يؤسس لقوانين تمييزية ضد النساء، والأقليات الدينية، والفئات الخارجة عن النمط الاجتماعي السائد.
رغم تضمين بند لتشكيل “هيئة للعدالة الانتقالية”، إلا أن الإعلان لم يوضح الإطار الزمني لإنشائها أو المعايير التي ستقوم عليها أو نطاق عملها. وهو ما يعكس غياب إرادة سياسية واضحة للانخراط الجاد في عملية العدالة الانتقالية كمسار شامل يُعنى بالحقيقة والمحاسبة، وجبر الضرر، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. لا يمكن الحديث عن انتقال حقيقي في سوريا دون الإقرار بجميع الانتهاكات التي وقعت خلال العقود الماضية والحالية، وعلى وجه الخصوص التي تعرضت لها النساء. إن غياب أي رؤية نسوية أو ضمانات واضحة للمساواة بين الجنسين في هذا الإعلان يشير إلى استمرار الذهنية الذكورية في صياغة المستقبل.
رغم تأكيد الإعلان الدستوري على ضرورة إخضاع الجيش للسلطة المدنية وإعادة هيكلته، إلا أنه يفتقر إلى آليات محددة لضمان حياده السياسي وفرض الرقابة المدنية عليه. هذا الوضع يثير المخاوف من استمرار دور الجيش كأداة لحماية النظام بدلًا من الدولة، مما يؤدي إلى عسكرة الحياة العامة وعدم محاسبة المتورطين في الانتهاكات. علاوة على ذلك، تم تجاهل الاتفاقات الوطنية الجارية، مثل الاتفاق بين الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية، التي تؤكد على وحدة الأراضي السورية وترفض الانفصال. لم يتبنَ الإعلان الدستوري هوية وطنية شاملة تعترف بتعددية المجتمع السوري، بل تم التمسك باسم الجمهورية العربية السورية، مما يُقصي المكونات غير العربية. هذا الخيار يُضعف فرص بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة المتساوية، ويهدد بتكرار مشكلات الماضي. وعليه، فإن الالتزام الحقيقي بوحدة سوريا يبدأ بتحييد الجيش سياسيًا، وتوحيده كمؤسسة وطنية خاضعة للدولة، إضافة إلى الاعتراف بكافة المبادرات الوطنية القائمة على الحوار والتمثيل المتوازن لكافة مكونات الشعب السوري.
إن المرحلة الانتقالية يجب أن تكون لحظة تأسيسية، لا مجرد إدارة مؤقتة. ومن هنا، فإننا في الحركة السياسية النسوية السورية نرى إن الإعلان الدستوري – بوضعه الحالي – يُخفق في أن يكون عقدًا اجتماعيًا جامعًا، حيث يفتقر إلى آليات فعالة لضمان التمثيل العادل والشامل لجميع مكونات المجتمع السوري، ويبدو أقرب إلى إعادة إنتاج لبُنى الحكم القديمة بواجهة جديدة.
كما أن مسألة تعيين ثلث مجلس الشعب من قبل رئيس الدولة بعد تشكيله لجنة عليا للإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة تتولى انتخاب ثلثي أعضاء المجلس، يجعل هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر لمساهمتها على مصادرة صوت الشعب.
ولكي يتحول هذا الإعلان إلى أداة تُمكّن الشعب السوري من الانتقال نحو دولة ديمقراطية مدنية، فإننا في الحركة السياسية النسوية السورية نوصي بالتالي:
- ينبغي تعديل الإعلان الدستوري بحيث يكرّس مبدأ الفصل بين السلطات، مع وضع آليات رقابة فعالة على السلطة التنفيذية، وعلى رأسها منصب رئيس الدولة.
- ضرورة تحديد الحقوق والحريات بشكل لا يقبل التأويل، دون ربطها بقيود فضفاضة وضمان عدم استخدام هذه القيود كذريعة لتقويض الحريات الفردية والعامة. وضمان عدم استخدام الشريعة كمصدر أساسي وحيد للتشريع لتبرير التمييز، ووضع آليات تضمن التوافق بين الفقه وأسس المواطنة المدنية والحقوق المتساوية.
- ضرورة إنشاء هيئة عدالة انتقالية مستقلة، بتمثيل حقيقي للنساء والضحايا، مع صلاحيات واضحة لمعالجة الانتهاكات وتحقيق الإنصاف، بما يساهم في المصالحة الوطنية.
- إصلاح المؤسسة العسكرية وربطها بالسلطة المدنية المنتخبة، من خلال تقديم تصور تفصيلي لإعادة هيكلة الجيش وجميع القوى المنضوية تحت لوائه، بما في ذلك إلغاء المسميات الفصائلية، وضمان خضوعه التام للسلطة المدنية الديمقراطية، تمهيدًا لتحوله إلى جيش وطني موحد يعكس التعددية السورية ويحمي الدولة لا النظام.
- تعديل هوية الدولة ونص الإعلان بما يعكس التعدد القومي والديني والثقافي للمجتمع السوري، والاعتراف بجميع المكونات كشركاء متساوين.
- ضمان مشاركة النساء بشكل متكافئ في جميع لجان المرحلة الانتقالية، لا سيما تلك المعنية بصياغة الدستور القادم، العدالة الانتقالية، والمشاركة السياسية بنسبة لا تقل عن 30%.
إن ما تنتظره الحركة السياسية النسوية السورية من هذا المسار لا يقتصر على مراجعة مواد أو إعادة صياغة بنود، بل هو فعل تأسيسي يُراد له أن يُنهي منطق الغلبة ويؤسس لمنطق الشراكة. الدستور القادم يجب ألا يكون وثيقة فوقية تُفرض من جهة على أخرى، بل عقدًا اجتماعيًا حيًا، يتنفس من واقع السوريين والسوريات وآمالهم، ويُبنى بإرادتهم الجامعة، لا بتفاهمات مؤقتة. وفي لحظة كهذه، حيث تُصاغ ملامح الجمهورية الجديدة، لا يمكن تجاهل عمق التصدعات التي أصابت المجتمع، ولا حجم التضحيات التي قُدّمت على طريق التغيير. فلا استقرار دون عدالة، ولا سلم دون مساواة، ولا بناء دون الاعتراف المتبادل والإنصات لصوت كل من كُتم صوته طويلًا.
إن الحركة السياسية النسوية السورية، إذ تضع هذه الرؤية أمام الحكومة وعلى رأسها السيد أحمد الشرع، فإنها تفعل ذلك من موقع الشراكة في صياغة المستقبل، لا من موقع المزايدة أو المواجهة. فالوطن الذي أنهكته العقوبات والانقسامات والحروب، لن تُعيده إلى الحياة سوى إرادة جامعة تضع كرامة الإنسان، كل إنسان، في صميم التعاقد الجديد.
اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية