حقوق النساء ليست ‘ترندًا’: دعوة للتفكير في الأولويات

 

*رويدة كنعان

 

استيقظت في اليوم السابع عشر بعد سقوط النظام السوري وكالعادة أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي لأعرف ما هو “ترند” اليوم. لفت انتباهي مقطع فيديو لشابة تسخر من حقوق النساء، معتبرةً أنها ليست أولوية في المرحلة الحالية، وتربط الحرية بالعري. وفي منشور آخر، ظهرت لافتة تحملها شابة أخرى كتب عليها: “ما بدي مساواة بدي اتدلل”. قد يبدو غريبًا أن تصدر هذه الأفكار من نساء، ولكن بالنسبة لنا كنسويات ونسويين، ندرك أن المشكلة ليست في الرجال بحد ذاتهم، بل في النظام الأبوي، هذه المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تقوم على فكرة تفوّق الرجال على النساء وسيطرتهم عليهن، وهو يعيد إنتاج علاقات الهيمنة وعدم المساواة عبر مؤسسات اجتماعية وثقافية واقتصادية.

وفقًا لكريستين ديلفي، عالمة الاجتماع الفرنسية، فإن النظام الأبوي لا يقوم على مجرد أفعال فردية للرجال ضد النساء، بل هو نظام اجتماعي معقد يدعم الهيمنة من خلال تنشئة اجتماعية تستهدف النساء منذ الصغر. الشابة التي تريد “أن تتدلل” وصاحبة الفيديو وغيرهما، منذ الطفولة، تم تعليمهن أن أدوارهن كأمهات، زوجات، ومقدمات رعاية هي جزء من “هويتهن الطبيعية”. وقد صُوِّرت لهن العادات والتقاليد هذه الأدوار على أنها مسؤوليتهن الأساسية. وربما يخشين من النبذ الاجتماعي، فالنساء اللواتي يخرجن عن المعايير الأبوية يتعرضن للنقد أو التهميش، أو يسعين للحفاظ على القبول الاجتماعي. وربما يكون هذا ما تعلمنه من خلال بعض وسائل الإعلام الإعلام والمناهج التعليمية، اللذين يعززان الأدوار الأبوية عبر تصوير النساء المثاليات كمن يلتزمن بهذه الأدوار.

عندما أتحدث عن النساء اللواتي يتبنين هذه الأفكار، لا اتهمهنّ بدعم القمع، بل اعتبرهنّ ضحايا لآليات ثقافية واجتماعية معقدة تجعل الأدوار التقليدية تبدو حتمية. التقسيم الجنسي للعمل، مثلاً، هو أحد أهم أدوات النظام الأبوي، وهنا أقول للشابة التي تريد “أن تتدلل” في منزلها بوجود رجل ينفق عليها ويحميها: لك الحرية في اختيار العمل داخل المنزل أو خارجه، لكن المهم أن يكون قرارك نابعًا من إرادتك الحرة ودون ضغوط اجتماعية. ومع ذلك، العمل داخل المنزل قد لا يضمن “الدلال” الذي تتصورينه؛ لأنك ستكونين مسؤولة عن مهام شاقة، مثل التنظيف، الطبخ، ورعاية الأطفال، دون تحديد لوقت العمل أو فترات الراحة أو الإجازات. هذا الجهد الكبير، رغم أهميته، لا يُعترف به اقتصاديًا أو اجتماعيًا. وفي حال كنتِ في علاقة زوجية متوترة أو سامة، وعندما تصلين إلى مرحلة الطلاق، ستجدين نفسك بلا أي تعويض عن سنوات من العمل المتواصل في المنزل، لأن النظام الأبوي المدعوم قانونيًا ودستوريًا لا يعتبر العمل المنزلي ذا قيمة. في هذا السياق، تصبح هويتك مرتبطة بالرجل، سواء كـ«ابنة فلان» أو «زوجة فلان»، وتُحدد مكانتك الاجتماعية بناءً على هذه الأدوار، ما يجعلك مجرد انعكاس لدوره دون اعتراف بشخصيتكِ الفردية ومساهماتكِ القيّمة. ما أتمناه هو أن يكون لديكِ الحرية الكاملة في تحديد مساركِ، سواء اخترتِ أن تكوني وزيرة دفاع، قاضية، جندية، أو حتى ربة منزل، أو أي دور آخر ترغبين فيه. المهم أن ينبع هذا الاختيار من إرادتكِ الحرة، وأن يحظى أي دور تؤدينه بالتقدير والمساواة التي تستحقينها.

وبشكل عام أقول للشابة التي تريد “أن تتدلل”، معكِ حق، إلى حد ما. أتفهم شعورك بالإرهاق، فمعظم السوريات عشن مرارة الحياة اليومية، سواء قبل الثورة أو خلالها، في ظل نظام يكرس عدم المساواة ويتركهن يواجهن العنف، التحرش، الاستغلال، والأعباء الاقتصادية والاجتماعية. هذه التحديات تفاقمت بفعل سنوات من النزوح، اللجوء، الاعتقال، انتظار الأحبة المختفين والمختفيات قسراً والبحث عنهم، ما جعلهن يتحملن أعباء تفوق طاقتهن. 

لكن الدلال الحقيقي الذي تتحدثين عنه لا يعني الهروب من هذه التحديات، بل السعي نحو مجتمع يوفر للنساء بيئة تحميهن وتعزز حقوقهن. هذا الدلال يكمن في وجود قوانين تُنصف النساء، تصون كرامتهنّ، وتضمن حمايتهنّ من العنف بجميع أشكاله: العنف المنزلي الذي الذي يتجاهله القانون ويدرج ضمن الأمور الخاصة، العنف الاقتصادي الذي يحرمهن من الاستقلال المالي، والعنف السياسي والمجتمعي الذي يُقصيهن من صنع القرار ويقيد خياراتهن. قوانين تضع حقوق النساء في صلب عملية بناء المجتمع، وتضمن لهن العدالة والمساواة. 

ما تحتاجه النساء هو مجتمع يعترف بمساهماتهنّ ودورهن المحوري، لا أن يختزلهنّ في أدوار تقليدية تُقيد إمكانياتهنّ. الدلال الحقيقي يعني الحرية في اختيار المسار الشخصي والمهني، العيش بأمان دون خوف من التحرش أو الاستغلال، والمساهمة بفعالية في الحياة السياسية والاقتصادية دون إقصاء أو تهميش. حيث يستطعن العيش بكرامة وإنسانية. وحقوق النساء تبدأ بالاعتراف بمكانتهن كجزء لا يتجزأ من بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا، حيث يُنظر إليهن كقوة رئيسية في إحداث التغيير الذي يحتاجه الجميع.  

بالنسبة للشابة صاحبة الفيديو على “تيك توك”، أقول: الحرية ليست مرتبطة باللباس بحد ذاته، بل بقدرتك على اختيار ما ترغبين فيه بحرية دون ضغوط أو قيود. حقوق النساء ترتبط بشكل أساسي بحقوقهن في المساواة، الاستقلال الاقتصادي، حرية اتخاذ القرار، المشاركة السياسية والاقتصادية، وحمايتهن من العنف والتمييز. حين يُركَّز النقاش على موضوعات مثل التعري أو المساكنة  التي تندرج ضمن إطار الحريات الفردية التي يجب احترامها، فإن ذلك يُحوِّل الأنظار عن القضايا التي تمس حقوق النساء الأساسية، لا أتفق لكن أتفهم تمامًا أن النقاش حول القضايا الجوهرية أقل جاذبية إعلاميًا مقارنة بالقضايا السطحية أو المثيرة للجدل، وهو ما قد يحقق لك متابعة جماهيرية ومكاسب مادية سريعة، وربما هذا هو الهدف من وجودك على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن هذا الخطاب، حتى لو دون قصد، يخدم النظام الأبوي الذي يستغل هذه القضايا السطحية لتقليل أهمية المطالبة بحقوق النساء في المجالات الحيوية والأساسية.

أنت تعتقدين أن قضايا النساء ليست ذات أولوية لعدم مشاركتهن في الثورة أو لوجود قضايا أخرى ترينها أكثر أهمية. لكن من المفيد أن تعلمي أن الكثيرات لعبن دورًا محوريًا خلال الحرب، سواء في النشاط السياسي أو في تحمل أعباء الأسرة في ظل غياب الرجال. تعرضت النساء للاعتقال، النزوح، واللجوء، ودفعنّ ثمنًا باهظًا في سبيل البقاء. لا يمكن تجاهل هذا الدور أو تهميش حقوقهن في عملية إعادة البناء.

أدعوكِ للتفكير في فكرة الأولويات؛ حقوقك كامرأة ليست رفاهية أو قضية جانبية. نحن في مرحلة بناء دولة جديدة، وأهم ما في البناء هو الأساس. إذا لم تُؤخذ حقوق النساء بعين الاعتبار الآن، سيكون من الصعب لاحقًا تضمينها بشكل عادل ومنصف. بناء دولة عادلة يتطلب تحقيق العدالة للجميع.

هذه الرسالة ليست موجهة لكِ شخصيًا، ولكنها رد على الفكرة الشائعة التي تعتبر أن حقوق النساء قضية “ثانوية” يمكن تأجيلها حتى يتحقق الاستقرار السياسي. في الواقع، العديد من الأحزاب والجماعات السياسية تفضل تجنب قضايا حقوق النساء لتجنب الصدام مع القوى المحافظة، ولكن هذا النهج يُغفل حقيقة أساسية: حقوق النساء ليست منفصلة عن حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، بل هي شرط أساسي لتحقيق العدالة والسلام. تجاهل حقوق النساء في المراحل الانتقالية أدى إلى استمرار تهميشهنّ، كما حدث في العراق ودول أخرى. لذلك، المطالبة بحقوق النساء والمساواة القانونية، مثل حقهن في الميراث، العمل، والتمثيل السياسي، ليست رفاهية أو قضية هامشية.

في النهاية، الحرية الحقيقية تكمن في توفير الخيارات المتساوية للجميع، رجالًا ونساءً، وضمان أن يكون كل اختيار مبنيًا على الإرادة الحرة والكرامة، لا على ضغوط اجتماعية أو قيود اقتصادية. مستقبل سوريا يعتمد على عدالة شاملة تشمل جميع أفراد المجتمع، وبناء هذا المستقبل يبدأ الآن.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية