السلم الأهلي بعد سقوط الأسد المعادلة الصعبة أم الحل المستحيل
- updated: 4 مارس 2025
- |
سقط نظام الأسد بكل أركانه في 8 كانون الأول 2024، وهو ما شكل مفاجأة كبيرة سواء للسوريات والسوريين أم للمنطقة ودول العالم التي كانت تحاول إعادة تأهيله وإنتاجه مجدداً ليكون مقبولاً على علّاته، بعد استمراره طيلة هذه السنوات التي دمرت سوريا بالكامل وأثقلتها بأعباء لا يمكن الفكاك منها إلا بعد سنوات طويلة. وقد يكون ما يشكل المعادلة الأصعب بالنسبة للسوريات والسوريين، هو كيف يمكن إنتاج عيش مشترك، وقبول للجميع تجاه الجميع، بعد كل الجهود التي قُدمت لتقسيم البلد وتفكيكه مجتمعياً ومناطقياً.
الجملة الأكثر تداولاً اليوم هي تحقيق السلم الأهلي، لكن وعلى الرغم من استسهال طرحها في أي نقاش أو عنوان لندوة أو ورشة، فإن الأصعب هو تجاوز إرث الماضي المثقل بالدماء والدمار والنزوح واللجوء، فالقوى التي حاولت فرض وجودها بما فيها النظام السابق والفصائل المسلحة، ومن ورائها الدول الداعمة لها، عملت على استنهاض إرث الماضي الذي يساهم في التفكيك المجتمعي والديني والمناطقي والقومي والعشائري، وكل ما قد يساهم في زيادة الكراهية والتعصب وتكريس التقسيم المصطنع والهش الذي عمَّ كافة المناطق وجعلها مفصولة عن بعضها البعض وخاضعة لقوى أمر واقع فرضت سيطرتها وأيديولوجيتها بقوة السلاح والقمع. وتكرس هذا التقسيم مع أجيال جديدة لم تعرف سوى الحرب والفقر والجوع، فتراجع مستوى التعليم والصحة والاقتصاد لصالح المهنة الأكثر انتشاراً وشبه الوحيدة في كافة أرجاء سوريا، ألا وهي حمل السلاح والقتال لصالح هذه الجهة أو تلك.
فهل يمكن العمل على تحقيق السلم الأهلي في هذه البيئات المشرذمة والمتباعدة والكارهة وغير العارفة ببعضها البعض؟
مع دخول قوات ردع العدوان إلى دمشق، أعلن أحمد الشرع شعار “نصر لا انتقام فيه”، وهو الشعار الذي على الرغم من مضامينه الداعية إلى السلام وتجاوز الماضي والطمأنة للشريحة الأوسع التي كانت تحت سيطرة النظام، غير أنه شعار مشكوك فيه، سواء من قِبل هذه الشريحة نفسها، أم من قبل السوريات والسوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الساقط، فجرح الماضي ما زال هشاً، مفتوحاً ونازفاً تشهد عليه السجون والمعتقلات والمفقودات والمفقودين، والمدن والبلدات المهدمة، كما مخيمات اللاجئات واللاجئين، وكما الوضع الاقتصادي المتردي. وسريعاً تمَّ استبداله بشعار “محاسبة كل من تلطخت أيديهم بالدماء”، لكنه لم يكن كافياً كذلك، فهل تصنيف من تلطخت أيديهم بالدماء متعلق بالمنتصرين أم بالخاسرين فقط؟ وهل يشمل من قاموا بالتشبيح والسرقة وتجار الحرب والعفيشة ومن استغلوا الناس في أشد الظروف قسوة وضراوة؟ وهل يشمل من قاموا بالتدمير الممنهج والاعتقال والخطف والاستغلال المادي، والجسدي، والجنسي، والمعنوي؟ وهل يشمل من ساوموا الناس في المخيمات على لقمة عيشهم، ومن أطلقوا النار على النساء والأطفال الذين كانوا يحاولون تحصيل لقمة الخبز عن طريق تهريب أشياء بسيطة على المعابر؟
إن غياب المعايير الواضحة والخطة التي ستتم المحاسبة على أساسها، ومَن يجب أن يُحاسَب، وكذلك من الذي سيقوم بالمحاسبة وكيف، جعل الأمور في كثير من الأحيان تخرج عن السيطرة في مناطق شهدت أعمالاً طائفية وانتقامية واسعة في السابق، فشهدنا اليوم انتهاكات ضد الطوائف في مناطق الاحتكاك السابقة مثل مدينة حمص وريفها، كما في الساحل السوري وكذلك في الجنوب السوري المتنوع طائفياً، وميلشياوياً، وكذلك في شرق سوريا سواءً بين العشائر في دير الزور أو في المواجهات مع قسد.
هذا ما جعل حالة عدم الثقة بالخطاب الرسمي الموجه، هي السائدة في كثير من المناطق، فما يزال الجنوب السوري في درعا والسويداء غير منضوٍ فعلياً تحت مظلة الدولة الجديدة مع محاولات شد وجذب غير واضحة المعالم حتى الآن، وما زالت المعارك في شمال شرق سوريا تقودها فصائل الجيش الوطني (سابقاً) وبدعم تركي، مع مفاوضات لم تصل حتى الآن إلى نتيجة مع دمشق.
بينما أطراف إقليمية ودولية ما تزال تتدخل سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر في رسم السياسات ووضع الاشتراطات على الحكومة الوليدة بهدف فرض أجنداتها عليها.
في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد يبدو أن الانتصار الوحيد كان بسقوط الأسد وفراره، وتحقيق سوريا للحلم المستحيل، ألا وهو التخلص من النظام الديكتاتوري الغاشم الذي دمر سوريا وشعبها وأرضها، غير أن تجاوز الماضي ليس بالأمر السهل أو الهين.
وضعت الحكومة لنفسها ثلاثة أشهر لتحقيق نوع من الاستقرار، فبدأت تسابق الوقت لكسب الثقة إقليمياً ودولياً، مهملة إلى حد كبير الوضع الداخلي المتذمّر، فجاءت الحلول منقوصة وغير باعثة على الثقة، ولعل أكثر مثالين عكسا هذا هما التسريح الواسع للموظفات والموظفين والعمال وهي الخطوة غير المدروسة وغير المعيارية كذلك، في ظل ظروف اقتصادية كانت سيئة وأصبحت أكثر سوءاً، مما حوّل غالبية من كانوا تحت مظلة النظام السابق إلى ناقمين على الحكم الجديد، وهم الذين كانوا يستبشرون خيراً بالتحول والخلاص وتقبلوه بدون مقاومة تذكر. أما المثال الثاني فهو (سلق) مؤتمر الحوار الوطني خلال أسبوع واحد فقط؛ أشعر غالبية من تابعه بأن الهدف منه هو إضفاء الشرعية على الحكم الجديد، وليس تحقيق السلم الأهلي أو نقل سوريا إلى مرحلة جديدة، فالبدايات السيئة تعطي نتائج سيئة، كما عبّرت غالبية السوريات والسوريين، فكيف إذا أضفنا لذلك أنه ما تزال مناطق واسعة من سوريا خارج السيطرة، ولا يمكن أن يكون هناك إجماع وطني إن لم يشارك جميع السوريات والسوريين في رسم معالم مستقبل بلدهم، ولم تُسمع كلمتهم بعد غياب عن السياسة والمشاركة لعشرات السنين!
إن تحقيق السلم الأهلي يتطلب، من جهة، معرفة عميقة بالواقع ومشكلاته والإرث الذي خلفته الحرب، ومن جهة أخرى وضع خطة وطنية حقيقية وحريصة على استيعاب هذه المشكلات وإشراك الجميع في تنفيذها، فالسلم الأهلي يبدأ من الجذور ومن الأرض ومن الناس الذين عانوا وما زالوا يعانون.
وهو ما يعني كذلك ضرورة إشراك النساء السوريات في إبداء الرأي وصنع القرار على كافة المستويات من الأدنى إلى الأعلى لتحقيق السلم الأهلي، فالمرأة هي القادرة على تفعيل آليات مجتمعية وتربوية تساهم في تحقيق السلم الأهلي، لذلك فالدور الأكبر لها، خاصة وأن النساء السوريات على مدى السنوات الماضية، لم تنقطع صلتهن ببعضهن البعض وكن قادرات على حمل أعباء الوضع الاقتصادي والسياسي والتربوي بفعالية تشهد لهن.
وهو ما حاول المؤتمر الوطني تطويعه ولو بشكل صوري من خلال إشراك عدد كبير من النساء فيه، وإن بآليات ونسب تمثيل لم تصل إلى المرجو منها، وبشرائح لم تعبر عن واقع النساء السوريات الحقيقي وهمومهن ومخاوفهن.
كما من الضروري العمل على إعادة تفعيل كل قطاعات الاستقرار المجتمعي، وأهمها التعليم والصحة والغذاء، كي يمكن العمل على الجيل السوري الضائع الذي دفع الثمن الأكبر من خلال الحرمان من هذه الأساسيات وتحويله إلى العسكرة والأعمال الهامشية التي لا تبني أوطانًا.
والأهم هو تحقيق الاستقرار المناطقي، والبدء بعملية إعادة الإعمار، فمن حق اللاجئات واللاجئين والنازحات والنازحين العودة إلى مناطق سكناهم الأصلية، عودة كريمة وآمنة وغير إجبارية، كي يستعيدوا سبل عيشهم واستقرارهم وأمنهم.
كل هذه النقاط هي الأساس في تحقيق السلم الأهلي، وليس فقط الاكتفاء بجمع الناس من طوائف ومناطق مختلفة على طاولة واحدة والطلب منهم أن يحبوا بعضهم البعض. فمن المهم اليوم تكريس قيم المواطنة والمشاركة لصنع مستقبل سوريا التي نحلم بها.
وإذ تؤكد الحركة السياسية النسوية السورية على هذه الأسس في تناول موضوع السلم الأهلي، فإننا نرى بناءً على عملنا في إنجاز أوراق سياساتية بمشاركة مجموعات كبيرة من النساء من مناطق متنوعة ومختلفة من سوريا خلال السنوات الماضية، ومن خلال التصورات التي تمَّ استخلاصها منهن حول مستقبل سوريا، والمستمدة من الاطلاع على المشاكل التي يعانين منها، أنه لا يمكن تحقيق السلام المستدام، والبدء بعملية إعمار حقيقية وفعلية ما لم يتم إشراك النساء وبقوة وبنسب لا تقل عن 30%، إن لم يكن مناصفة، بوضع تصورات لمستقبل سوريا، أو صياغة دستورها، وكذلك في كل اللجان المعنية بتجاوز إرث الماضي والبدء بصناعة المستقبل.
فلا مستقبلَ لسوريا دون نسائها، ولا سلمًا أهليًا دون العودة إلى جذور المشاكل والعمل على حلها.
اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية