بناء السلام في سوريا انطلاقًا من القرار 2250
- updated: 30 أبريل 2025
- |
*هناء الخضر
منذ أن صدر القرار الأممي 2250 عن مجلس الأمن في كانون الأول 2015، بوصفه أول وثيقة أممية تعترف بدور الشباب/ات في حفظ السلام والأمن، ظلّ هذا القرار بعيدًا عن حيز التفعيل الحقيقي في مختلف الدول التي ما زالت ترزح تحت النزاعات أو الدول التي تمر بمرحلة انتقالية كسوريا، التي شهدت سقوطًا وانهيارًا لنظام حكم البلاد لعقود خلت، وحكومة جديدة قامت على أنقاضه في مشهد سياسي واجتماعي بالغ التعقيد، مما يُبرز الحاجة الملحة للنظر في هذا القرار والبدء بترجمته إلى أدوات عملية تحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الشباب/ات خاصة في هذه المرحلة الحساسة التي تعيشها سوريا، إذ أنه يمثل إطارًا متكاملًا ولبنةً أساسيةً في تحقيق السلام المستدام بعد مرحلة النزاع من خلال خمسة محاور وردت في نص القرار بهذا التسلسل وهي: المشاركة، الحماية، الوقاية، بناء الشراكات، فك الارتباط وإعادة الإدماج، ويدعو القرار الحكومات إلى إيجاد الآليات التي تدعم زيادة نسبة تمثيل الشباب/ات في عمليات صنع القرار وتفعيل دورهم/ن في عمليات بناء السلام وحل النزاعات، ورسم السياسات التي تسهم في تمكينهم/ن وتعزز من مساهمتهم/ن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشاركتهم/ن السياسية والمدنية، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لحمايتهم/ن من العنف بكافة أشكاله، كما يحث القرار على بناء شراكات قوية بين الشباب/ات ومختلف الجهات الفاعلة في مجال السلام والأمن، ويسلط الضوء على أهمية مراعاة المتضررين/ات من النزاعات المسلحة ودعمهم/ن وتسهيل إعادة إدماجهم/ن في المجتمع خلال مرحلة ما بعد النزاع.
فرصة لا تُعوّض
اليوم، وبعد سقوط النظام الذي خلق أسوأ الكوارث الإنسانية والسياسية في المنطقة، تعيش سوريا لحظة تحوّل فارقة ما بين الانتقال من عصر الاستبداد إلى عصر المواطنة المتساوية، وبين حكومة جديدة ومجتمع أنهكته الحرب وطاقات شبابية تطمح إلى التغيير في جميع المجالات، من هنا تبرز أهمية القرار/2250/، كونه يقدم رؤية واضحة يمكن البناء عليها في حال تم تطبيقه بروح وطنية تُراعي السياق السوري المعقد وتعترف بأن سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى إلا من خلال شبابها وشاباتها.
ولأن جوهر هذا القرار قائم على خمسة محاور مترابطة، يصبح من الضروري النظر إليها كأدوات مرنة يُعاد ترتيبها بحسب متطلبات الواقع الحالي وظروف السياق حيث تبدو الحاجة ملحّة للانطلاق من المحور الذي يلامس الجذر، وتتكثف فيه آثار الماضي ويفتح إمكانيات التغيير. وهنا يظهر محور فك الارتباط كمقدمة لا بد منها لتفعيل بقية المحاور والوصول إلى النتائج المرضية.
البداية فك الارتباط
غالبًا ما يُفهم هذا المصطلح على نحو ضيق، فيُحصر في إجراءات تقنيّة تتعلق بنزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية، وكأنه عملية تنحصر بمرحلة ما بعد النزاع المباشر فقط. في السياق السوري لا يمكن فصل هذا المفهوم عن بنيته الأعمق التي شكّلت النسيج الذهني والسياسي والاجتماعي للأجيال، قبل وأثناء وبعد الثورة.
لقد نشأت أجيال كاملة في ظل حكم الفرد، ولم يكن الانتماء إلى الدولة خيارًا حرًّا، بل كان خضوعًا مفروضًا عبر التربية والتعليم والإعلام والمؤسسات الأمنية، حتى في لحظات الثورة التي وُلدت من رحم الكرامة، أعادت سلطات الأمر الواقع على اختلاف مشاربها إنتاج جزء من هذه البنية السلطوية، سواءً عبر احتكار القرار، أو فرض الولاء السياسي والديني، أو عسكرة الشباب/ات الذين لم يتحرر الكثير منهم لا في ظل النظام البائد ولا في ظل القوى البديلة التي نشأت لاحقًا. وإن فك الارتباط بهذا المعنى هو فعل تحرر جماعي من ثقافة الاستبداد مهما كان شكلها أو حاملها، عبر اصلاح التعليم ونشر قيم العدالة والسلام وحقوق الإنسان والتفكير النقدي وحل النزاعات سلميًا وبناء حوار مجتمعي، فهو ليس تمردًا على الدولة بل استعادة للانتماء الحقيقي لها على أساس الحرية والمواطنة المتساوية، وبالتالي الانتقال من ثقافة انتظار الأوامر والتعليمات إلى ثقافة المبادرة والتأثير. ولا يتحقق هذا التحوّل إلا عندما يُفتح المجال أمام الشباب/ات لتفكيك علاقاتهم/ن القديمة بأنماط السلطة القسرية سواءً تمثلت في الأجهزة الأمنية السابقة، أو في سلطة الفصائل والسلاح. هذا يتطلب توجيه الشباب/ات واستقطابهم/ن، من خلال التركيز على أهمية دور التعليم والمشاركة السياسية كمسارين بديلين عن العسكرة بما يحقق فاعليتهم/ن ضمن الحيز العام عبر دعم المبادرات الشبابية المستقلة، وتوسيع مساحات التعبير والحوار، وتطوير مناهج تعليمية تنمّي التفكير النقدي وتعزز القيم الديمقراطية.
كل ذلك يصبح أكثر إلحاحًا في ظل تركيز السلطة الحالية على إعادة عسكرة فئة الشباب، خصوصًا عبر دمجهم في أجهزة الأمن العام، الأمر الذي يجعل تفعيل فك الارتباط لا كإجراء وقائي فحسب، بل كمسار تحويلي طويل الأمد يُعيد تعريف العلاقة بين الشباب/ات والمجتمع والدولة على أسس جديدة من الوعي، والمشاركة، والمواطنة الفاعلة.
الوقاية تبدأ من الاعتراف
إن النزاعات لا تندلع فجأة، بل غالبًا ما تكون نتيجة تراكم طويل من الظلم، والتهميش والتمييز، وغياب العدالة. في الحالة السورية، لا يمكن النظر إلى ما جرى خلال السنوات الماضية من الثورة إلى الحرب، وما حدث خلالهما من انقسامات وتفكك مجتمعي بوصفه حدثًا عارضًا أو أزمة طارئة؛ بل هو حصيلة عقود من الاستبداد وانسداد الأفق السياسي وغياب المساواة، وتراكم الشعور بالحرمان من الكرامة والحقوق، وبالتالي لا يمكن تحقيق محور الوقاية عبر استراتيجيات أمنية أو برامج توعية سطحية؛ بل يتحقق بداية من الاعتراف المسؤول بحجم الألم، الاعتراف بالضحايا وحقوقهم/ن، وبالنساء اللواتي تعرضن لمختلف أشكال العنف، وبالمناطق التي عاشت التمييز بسبب طائفتها أو موقعها الجغرافي. هذا الاعتراف يقتضي تحقيق العدالة الانتقالية بوصفها الآلية التي من خلالها يتم إعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة، وبين جميع مكونات المجتمع، وتحقيقها يكون عبر محاسبة المجرمين والمتورطين من جميع جهات النزاع وعبر إشراك المتضررين/ات أنفسهم/ن، وخصوصًا الشباب/ات، في تصميم مساراتها وتنفيذها لا بوصفهم/ن ضحايا تجب مساعدتهم/ن، بل بوصفهم/ن قادة محليين ومجتمعيين لديهم/ن القدرة على قيادة السلم الأهلي داخل مجتمعاتهم/ن.
ثقافة الحماية
التحول العميق في فهم أدوار الدولة ومؤسساتها يتجسد من خلال شعور مواطنيها ومواطناتها لا سيما الشباب/ات بأنها تحميهم/ن وتصونهم/ن من مختلف أشكال العنف المرتبط بالنوع الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الديني، ويتحقق ذلك عبر استقلال القضاء وإصلاح المؤسسات الأمنية وتحويلها من أدوات سيطرة إلى مؤسسات تحمي الحقوق والحريات، ومن خلال إتاحة مساحات حقيقية للمساءلة والرقابة المجتمعية، فحين يُتاح للشباب/ات التعبير عن آرائهم/ن دون خوف من الاعتقال أو الإخفاء القسري، وحين يصبح اختلاف الرأي جزءًا من طبيعة المجتمع لا تهديدًا له، تبدأ الحماية الحقيقية بالتشكّل وتصبح حماية الشباب/ات مسؤولية جماعية باعتبارهم/ن قيمة وطنية يجب صونها.
من الإقصاء إلى المشاركة
على مدار العقود الماضية، لم يُمنح الشباب/ات في سوريا أدوارًا حقيقية في الحياة السياسية أو العامة، وحتى بعد اندلاع الثورة التي شهدت مشاركتهم/ن الفاعلة، فقد استمرت أنماط التهميش في الظهور من جديد، إذ أعادت سلطات الأمر الواقع إنتاج نفس آليات الإقصاء التي مارسها النظام السابق، من خلال تغييب الشباب/ات عن مواقع التأثير داخل المجالس والمؤسسات، أو حصر مشاركتهم/ن في أطر شكلية غير فاعلة.
في السياق السوري الحالي تبرز الحاجة إلى مشاركة الشباب/ات كونهم/ن الفئة الأكثر تعدادًا والأكثر طاقة، هذا يتطلب العمل على دعم قدراتهم/ن وتمكينهم/ن للانخراط في الشأن العام، والعمل على زيادة نسب تمثيلهم/ن وإعدادهم/ن في مواقع صنع القرار ووضع الدساتير والحوار السياسي وعملية إعادة الإعمار ليكونوا ويكنَّ قادة سياسيين ومجتمعيين. ومما يدعو للتفاؤل أن الحكومة السورية الجديدة ضمت بعض من الوزراء ممن هم في عمر الشباب، لكنها في الوقت ذاته أقصت النساء بشكل واضح فمن أصل 23 حقيبة وزارية لم تحظى النساء سوى بحقيبة وزارية واحدة مما يدل على أن طريق المشاركة السياسية بالنسبة للنساء والشابات منهن ما يزال وعراً.
عقبات تواجه تفعيل القرار 2250
رغم وضوح الحاجة المُلحّة لتفعيل القرار 2250 في سوريا، ووضوح المحاور التي يقدمها كأدوات بناء ما بعد الحرب، إلا أن تطبيق هذه المحاور يواجه عقبات عديدة كغياب الرؤية والخطط الواضحة التي تستهدف تمكين الشباب/ات إلى جانب هيمنة أدوات السيطرة التقليدية مثل العقلية الأبوية والتمييز بين الجنسين مما يؤدي إلى تهميش مضاعف للشابات.
فعلى الرغم من تشكُّل حكومة جديدة بعد سقوط النظام، وتأسيس وزارة تعنى بالشباب/ات، لم تظهر حتى الآن أي رؤية وطنية واضحة تتبنّى فعليًا مفاهيم القرار 2250، حتى كلمة وزير وزارة الرياضة والشباب/ات لم يكن فيها أي إشارة إلى آليات إشراك الشباب/ات في السياسات العامة أو التصورات الجديدة للدولة.
إضافة إلى ذلك، ما تزال النظرة النمطية إلى الشباب/ات حاضرة بعمق، فهم إما يُعتبرون غير ناضجين سياسيًا أو فاقدي الخبرة، أو يجتذبون ويُستغلون ضمن أجهزة أمنية وعسكرية لإعادة إنتاج هياكل القمع القديمة، وهكذا يجد كثير من الشباب/ات أنفسهم/ن عالقين/ات بين خيارين، إما الانسحاب من الحيز العام حمايةً لذواتهم/ن من التهميش أو الاستغلال، أو التورط في مسارات لا تمثلهم/ن ولا تعكس رؤاهم/ن.
والنتيجة: إهدار ممنهج لطاقات الشباب/ات، وتكريس الإقصاء كسياسة مؤسسية، وخلق حالة من اليأس الجماعي الذي يدفع آلاف الشباب/ات إلى الانسحاب أو الهجرة أو السلبية القسرية.
توصيات عملية لتفعيل القرار 2250 في السياق السوري:
- إطلاق خطة وطنية متكاملة لتطبيق القرار 2250، تُشرف عليها لجنة مختلطة تضم ممثلين عن الشباب/ات، والمجتمع المدني، والجهات الحكومية، بدعم من شركاء دوليين. هذه الخطة يجب أن تتضمن أهدافًا واضحة، ومؤشرات قابلة للقياس، وخططًا زمنية تنفيذية.
- تمويل مبادرات فك الارتباط وبناء الشراكات على المستوى المحلي من خلال منح صغيرة ومتوسطة تُخصص لمشاريع يقودها شباب/ات في مجالات الحوار والتعليم والتثقيف السياسي والإعلام المجتمعي والمساءلة المحلية.
- هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية على أسس جديدة تضمن الاستقلالية والنزاهة والشفافية، مع خلق آليات رقابة مدنية فعالة.
- إطلاق برامج تشغيل وتدريب موجهة للشباب/ات في المجتمعات المتضررة تُمكّنهم/ن من الاندماج الاقتصادي والسياسي، وتعزز من تواجدهم في المجالس المحلية والبلديات والإدارات العامة، كمشاركين حقيقيين لا واجهة تمثيلية.
- إنشاء مراكز مجتمعية شاملة تعمل كبنية حاضنة للشباب/ات، خصوصًا من خاضوا تجارب الحرب أو النزوح أو فقد التعليم، وتُعيد إدماجهم/ن في الحياة العامة من خلال التعليم غير الرسمي، والدعم النفسي، والمساحات الحرة للتعبير والعمل.
ختامًا:
إن القرار 2250 فرصة لصياغة مستقبل لا يشبه الماضي، وإذا كانت هذه المرحلة المفصلية التي تعيشها سوريا تحمل في طيّاتها فرصة للتغيير، فهي لن تتحقق إلا إذا آمنت الدولة والمجتمع معًا بأن الاستثمار الحقيقي ليس في إعادة الإعمار المادي فقط، بل في إعادة الإعمار الإنساني والمعنوي الذي يقوده جيل جديد، نجا من الموت لكنه لم ينجُ من التهميش والإقصاء بعد.