العملة السورية بعد الأسد؛ من الرمزية إلى الاستقلال المالي 

 

*نضال جوجك

 

لماذا إزالة الأصفار؟

فقدت الليرة السورية أكثر من 99% من قيمتها منذ العام 2011، مما أدى إلى تدهور كبير في القدرة الشرائية للمواطنين والمواطنات، إذ بات السوريون والسوريات يحملون كميات ضخمة من الأوراق النقدية، تزن أحيانًا كيلوغرامات، لتلبية احتياجاتهم اليومية من المواد الغذائية والمستلزمات الأساسية. وفي ظل هذا الانهيار، ساهمت عدة سياقات في بقاء الوضع الاقتصادي والمعيشي للبلد تحت خط الفقر، مثل العقوبات الاقتصادية المفروضة على العديد من مؤسسات الدولة قبل سقوط نظام الطاغية بشارالأسد، و حتى اللحظة لم ترفع العقوبات بعد، حسب تصريح وزير الخارجية الأميركي الذي أشار إلى أن تخفيف العقوبات مرتبط بتقدم ملموس في الإصلاحات السياسية. مما أدى إلى انهيار الليرة السورية، وارتفاع التضخم، وتراجع الاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى تضرر قطاعات حيوية مثل النفط والغاز

في مساعي الحكومة السورية الانتقالية إلى استعادة الثقة بالعملة الوطنية السورية، وذلك في خطوة جريئة بحذف صفرين لتصبح 10,000 ل.س مثلاً، بقيمة 100 ل. س جديدة. لا تعد تلك الإجراءات مجرد تدابير مالية تقنية، بل تمثل خطوة سياسية واستراتيجية تهدف إلى ترسيخ الثقة الوطنية، وإعادة تشكيل الهوية الجمعية من خلال التحرر الرمزي من إرث الماضي، أي لن تتضمن الأوراق النقدية الجديدة رموزاً تاريخية مثيرة للجدل، بل ستعكس رؤى معاصرة لتعزيز الانتماء الوطني وتدعم سردية مستقبلية أكثر شمولاً وتنوعاً.

هل تعد تلك تجربة فريدة في تاريخ الشعوب؟

  

تجارب دولية مشابهة

ليست سوريا الدولة الوحيدة التي لجأت إلى إصلاح عملتها الوطنية، إذ شهدت دول أخرى تجارب مماثلة في سياقات مختلفة.  

في كوسوفو، تم اعتماد المارك الألماني عام 1999 عقب انتهاء الحرب، ثم جرى التحول إلى اليورو لاحقًا، رغم أن كوسوفو ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي. إذ جاء هذا القرار لتفادي تقلبات الدينار اليوغوسلافي وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في مرحلة ما بعد النزاع. أما زيمبابوي، فقد اضطرت إلى التخلي عن عملتها المحلية عام 2009 بعد موجة تضخم مفرطة، غير مسبوقة واعتمدت الدولار الأمريكي والراند الجنوب إفريقي كعملات بديلة

على الرغم من أن هذه الإجراءات لم تؤد إلى نتائج مثالية، إلا أنها ساهمت في استعادة بعض الاستقرار المالي.

بالمقارنة مع تجارب تلك الدول، تواجه الحكومة الانتقالية الحالية تحديات كبيرة في إصلاح العملة النقدية السورية؛ تحديات تتعلق بعوامل عديدة منها الخارجية وأخرى داخلية.

على الصعيد الداخلي يواجه المواطنون السوريون والمواطنات السوريات واقعاً اقتصادياً متدهوراً، يتمثل في فقدان فرص العمل نتيجة تداعيات الحرب، وما ترتب عليها من تراجع القدرة الشرائية. وتفاقم هذا الوضع نتيجة حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، إلى جانب الأحداث المأساوية الأخيرة في الساحل السوري والسويداء، مما يعكس استمرار النزاعات المسلحة التي تضعف الثقة بالاقتصاد الوطني، وتساهم في تدهور قيمة العملة المحلية. وفي ظل هذا السياق من الممكن أن يستمر وضع العملة في التراجع ما لم يتحقق الاستقرار الأمني والسياسي. 

غير أن العامل الحاسم في حماية العملة واستعادة التوازن الاقتصادي يكمن في بناء اقتصاد إنتاجي قادر على توليد قيمة مضافة حقيقية. يتطلب ذلك التركيز على تطوير مستلزمات الإنتاج، وتعزيز الصناعات المحلية، وزيادة الصادرات، مما سيؤدي إلى تحسين الأداء الاقتصادي العام ويمنح العملة الوطنية دعامة حقيقية قائمة على الإنتاج لا على المضاربات أو الدعم الخارجي. 

أما على المستوى الخارجي، يعد قانونقيصر” الأمريكي الذي دخل حيَ التنفيذ عام 2020 وما يزال سارياً، أحد أبرز العوامل المؤثرة في تفاقم الأزمة الاقتصادية السورية حيث فرض هذا القانون مجموعة من العقوبات الواسعة التي طالت قطاعات حيوية وأسهم في تراجع الاستثمار الأجنبي وصعوبة في التعامل مع التجارة الدولية بسبب القيود على الموانئ والبنوك المصرفية.

فماذا فعلت الإدارة في دمشق حيال ذلك؟ 

 

 الاتفاق مع روسيا وطباعة العملة الجديدة:

في إطار التحديات الاقتصادية التي تواجهها سوريا داخلياً، برز الاتفاق مع روسيا بشأن طباعة العملة الجديدة كخطوة استراتيجية مثيرة للجدل! ففي زيارة رسمية لوفد سوري رفيع المستوى إلى موسكو، ناقش الطرفان سبل التعاون الاقتصادي وإعادة الإعمار. وبعد فترة وجيزة، وقّعت الحكومة السورية المؤقتة اتفاقية مع شركةغوزناكالروسية، المملوكة للدولة، لطباعة العملة الجديدة. ورغم أن هذه الخطوة جاءت في ظل غياب البدائل الغربية، خاصة بعد منع الشركات الأوروبية من التعامل مع البنك المركزي السوري منذ عام 2011، فإنها أثارت جدلاً واسعاً نظراً للعقوبات المفروضة على “غوزناك” و دلالاتها السياسية، حيث تعد هذه الاتفاقية امتداداً للعلاقة التاريخية بين دمشق وموسكو، إذ كانت روسيا من أبرز الداعمين السياسيين والعسكريين للنظام السوري السابق، ومع ذلك اتسمت المواقف الروسية الأخيرة بالغموض، لا سيما بعد تقدم المعارضة في أواخر 2024، حيث لم تبد موسكو دعماً واضحاً لأي طرف من الأطراف، واكتفت بتصريحات رسمية تشير إلى عدم امتلاكها خطة لإنقاذ الرئيس الأسد. 

من الناحية السياسية، يحمل الاتفاق مخاطر رمزية، قد يفسر على أنه استمرار للارتباط بالنفوذ الروسي، الأمر الذي سيضعف شرعية الحكومة أمام بعض الفصائل والشعب السوري بنسبة كبيرة، وكذلك أمام المجتمع الدولي، الأمر الذي يتطلب من الحكومة السورية الانتقالية حلولاً عملية دون تبعية للأطراف الخارجية، وكذلك ضرورة الشفافية في الخطاب الحكومي مع السوريين والسوريات، لتوضيح أن هذا الاتفاق حل مؤقت وليس تحالفًا سياسيًا، ضمن مساعي الحكومة لتوسيع خياراتها بمجرد توفر البدائل. كما أن السعي لتأسيس علاقات مع دول أكثر حيادية من شأنه فتح آفاق لتأسيس علاقات مع مؤسسات مالية ليس بالضرورة أن تكون غربية مثل الهند وباكستان. 

على الرغم من تبني الحكومة نموذج السوق المفتوح، إلا أنها لم تقدم رؤية اقتصادية متكاملة، بسبب نقص الكفاءات وضعف البنية الأمنية وسط غياب الإجراءات الوقائية وجهاز شرطي محترف، الأمر الذي غيب الانضباط وزعزع الثقة الشعبية، مما يستدعي تشكيل لجنة اقتصادية تضم ممثلين وممثلات من المجتمع المدني لمراقبة تنفيذ الاتفاق وبذلك يكتسب شرعية داخلية ويخفف من الشكوك حول نوايا الحكومة. كما أن مكافحة الفساد واستقلالية البنك المركزي وإصلاح النظام الضريبي من شأنه أن يربط الاتفاق بخطة إصلاح أوسع

من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل البعد المالي والسياسي للاتفاق المبرم مع روسيا بشأن طباعة العملة الجديدة، إذ لا تقدم روسيا هذه الخدمة بالمجان، بل من المتوقع أن تحصل على مكاسب مالية كبيرة من هذه الصفقة، وقد تتجاوز هذه المكاسب الجانب الاقتصادي، لتعكس مصالح استراتيجية أوسع ترتبط بإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي وتعزيز الحضور الروسي في البنية الاقتصادية السورية. 

 

بين الرمزية والواقعية

إن إزالة الأصفار من العملة السورية ليست مجرد إجراء مالي، بل خطوة سياسية واستراتيجية تهدف إلى إعادة بناء الثقة، وتحرير الهوية الوطنية من رموز الماضي. وبين الحاجة إلى السيولة، والرغبة في الاستقلال السياسي، تقف الحكومة أمام تحدٍ كبير: فهل تنجح في تحويل هذه الخطوة إلى بداية جديدة؟ أم تبقى رهينة التحالفات المفروضة والواقع الأمني والسياسي الاقتصادي المعقد؟

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية

 

مراجع:
محاولة فهم الموقف الروسي من تقدم المعارضة السورية
 خمس دول عربية تعاني من انهيار قيمة عملتها… ومخاوف من المجاعة وتدهور الأمن الغذائي – Elqalamcenter.com
هل تسقط العقوبات الدولية على سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد؟ : CNN الاقتصادية