العدالة الانتقالية السورية بطيئة
- updated: 17 أكتوبر 2025
- |
*بسام سفر
إذا كان مطلب تحقيق العدالة الانتقالية قبل مجازر الساحل والسويداء مطلب حق وإحقاق للشعب والإنسان السوري، فإنه بعد مجازر الساحل والسويداء أصبح مسألة حياة أو موت للوطن السوري، لأنه عبر تحقيق العدالة الانتقالية عن مرحلة الأسدين، فإن المرحلة الجديدة التي غمست أصابعها وأيديها بالدم السوري من جديد تحتاج إلى لجان تحقيق حيادية ونزيهة، وعدالة انتقالية شاملة لا تقتصر على انتهاكات الأسد بل تضم مجازر الساحل والسويداء إلى مجازر وانتهاكات النظام السابق الذي ما زال على أعتاب حياة السوريين والسوريات (الجديدة بقفازات قديمة).
خطوات بطيئة:
أصدر الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع المرسوم رقم (20) القاضي بإنشاء “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” بتاريخ 17/5/2025، وجاء فيه “تشكيل هيئة مستقلة باسم (الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية)، تعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين منها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية”.
إن العدالة الانتقالية المطلوبة للسوريين والسوريات في المرحلة الانتقالية لا تسير بالمراسيم، فالمراسيم بوابة عبور لإصلاح منظومة العدالة الحالية في سوريا من خلال آلية حقيقية وواقعية، تتطلب العمل عليها ويكون مفتاحها وجود إرادة سياسية لدى الحكومة لإنجاز خطوات واضحة تحت المجهر الرقابي الشعبي والمدني والسياسي والسوري، بإشراف قضائي وحكومي واضح المعالم، منها: إنشاء هيئات قضائية، محاكم خاصة لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات، وهيئات غير قضائية (لجان متعددة، مثل: لجان كشف الحقيقة، لجان تعويض الضحايا وتقديم خدمات صحية وطبية لهم). وتشكيل لجان الإصلاح مهمتها، إصلاح الأنظمة القانونية والسياسية والمؤسسات التي تحكم المجتمع، وخاصة الجيش والأمن والشرطة وتحويلها من مؤسسات قمعية إلى مؤسسات تخدم الإنسان والمجتمع السوري.
فالمنظومة القانونية السورية تحتاج إلى تعديلات، وقانون العقوبات السوري يحتاج إلى تعديل في “جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة، لكي يحاكم مجرمين من هذا النوع”. العدالة الانتقالية تحتاج لدمج المواد القانونية الخاصة بجرائم الحرب والإبادة وضد الإنسانية الواردة في ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، لتصبح جزء من قانون العقوبات السوري.
وللتأسيس لمرحلة العدالة الانتقالية، يجب إنشاء هيئة وطنية لتوثيق الجرائم من جميع الأطراف لضمان الشفافية وإشراك عائلات الشهداء وأهالي الضحايا، وتأسيس صندوق مالي لتعويض الضحايا وأسرهم، ودعم برنامج التأهيل النفسي والاجتماعي للمتضررين والمتضررات، وتطهير المؤسسات الأمنية والعسكرية من العناصر المتورطة، ووضع ضمانات قانونية لمنع عودة القمع وتنظيم حوارات تجمع مختلف السوريين والسوريات، لبناء الهوية الوطنية وتعزيز التعايش المشترك.
إن تطبيق العدالة الانتقالية يعد خطوة لبناء مستقبل مستدام لسوريا، يعتمد في نجاحه على دعم المجتمع الدولي والتزام الحكومة السورية والسوريين والسوريات في بناء الدولة القائمة على الحقوق والمساواة.
العدالة الانتقالية تفتح بوابة لكسر العنف والجرائم الوحشية التي حصلت في نظام الأسدين، والانتهاكات والجرائم التي حصلت في مجازر الساحل والسويداء، وإقرار سيادة القانون والثقة في المؤسسات، وبناء مجتمع قوي وقادر على التعاطي مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قبل وقوعها، ومنع النزاعات في المستقبل، وتمكين السلام الدائم، والعدالة الحقيقية والمصالحة.
إن المرسوم وما يجري على الأرض خطوة أساسية لكنها غير كافية، ما لم تتوفر الإدارة السياسية لسير خطوات واسعة في هذا الملف، خصيصاً إذ ما لحظنا أن هناك تدوير لبعض الشخصيات التي لعبت دوراً عسكرياً وأمنياً في زمن النظام البائد مثل “فادي صقر” إلى بعض ضباط الجيش المنحل. كان الرد الشعبي على ذلك خروج أهالي من حي التضامن، مطالبين السلطات المسؤولة بالقبض على مرتكبي مجزرة حي التضامن الطلقاء في الحي، وأكدوا على ضرورة محاسبتهم بالآليات القانونية التي تخدم وتحافظ على السلم الأهلي عبر تشكيل المحاكم الخاصة التي توصل إلى العدالة الانتقالية وتمنعها من الانزلاق إلى عدالة انتقامية.
فالاستمرار ضمن القواعد التي رسمها الإعلان الدستوري يفتح الأفق لعدم محاسبة مرتكبي الجرائم في الساحل والسويداء، لذلك يتطلب الواقع الحالي العمل على تعديل الإعلان الدستوري، لكي يفتح المجال القانوني والواقعي نحو إطلاق يد العدالة الانتقالية لكي تطال كل من شارك في جرائم الساحل والسويداء من كلا الطرفين.
نوعية العدالة الانتقالية المطلوبة:
في البلدان التي خاضت حرب أهلية وطائفية حادة جداً، إذ وصل بها الاحتراب الطائفي إلى القتل على الانتماء الطائفي لزمن طويل جداً، لبس أحياناً كل أشكال التشوه دون التسمية المباشرة (قتل المواطن/ة على هويته الطائفية)، فالصراعات الدموية تترك ندوبها وجراحها العميقة تحت جلد كامل المجتمع الذي تجري ضمنه.
إن وظيفة العدالة الانتقالية ليست الذهاب إلى كل منفذي الجرائم صغار الأدوات، بل وضع برنامج العدل والإنصاف لتحقيق عدالة نوعية خاصة بمراحل استثنائية، ومحاسبة الجناة ومرتكبي الجرائم وصولاً إلى مصدري هذه الأوامر، ورد المظالم إلى أهلها، وجبر الضرر للضحايا.
فالعملية تتضمن معالجة الندوب والكشف عنها وتقديم التعويضات المادية والمعنوية لضحايا الانتهاكات وأسرهم، من النساء اللواتي تعرضن للعنف والاغتصاب والأطفال المعاقين والمشردين الذين فقدوا أسرهم وعائلاتهم، وأسر الشهداء، والذين شردوا عن ديارهم، لنرمم جزء من الذاكرة الوطنية للمجتمع المكلوم. وكشف الحقائق كاملة أمام الجميع لتشكيل فهم جماعي للأحداث، ما يخفف النقمه المجتمعية بغية تكريس وحفظ هذه الندوب كجزء من الذاكرة الوطنية للمجتمع لتبقى شاهداً مستمراً على المأساة. يترافق ذلك مع إصلاح المنظومة القانونية والمؤسساتية، في مقدمتها السلطة القضائية، عبر خطة وطنية عامة تعمل على عدم قسم السوريين والسوريات على أساس القومية والطائفية والدينية، فالتصنيف على أساس ذلك يعزز جريان الدم والخراب العام.
إن كل ذلك يحافظ على البلاد ووحدتها وعدم تشتت أطرافها واتجاهاتها وتياراتها، ويمنع الاستعانة بالأطراف الخارجية إلى جانب أي قسم من السوريين والسوريات ضد القسم الآخر، وقد يمنع المزيد من التدخلات الخارجية من أطراف ودول متعددة ومتناقضة تحول البلد إلى ساحة صراع وتصفية حسابات دولية وإقليمية، ويغرقها في حجم خسائر بشرية ومادية كبيرة جداً خارجة عن طاقتها وطاقة أبنائها وبناتها. ويفتح بوابة العمل السلمي الذي يقوم على نشاط المجتمع الاجتماعي والسياسي، وهو الطريق الأقصر والأقل تكلفة نحو التغيير، والوصول إلى الحقوق، وحصر استخدام العنف في إطار الدفاع عن النفس، ولا يكون ذريعة لسفك دماء جديدة.
إن وظيفة العدالة الانتقالية الاعتراف بالجرائم والمجازر والانتهاكات التي ارتكبتها كل الأطراف وكشفها وتسليط الضوء عليها، والمصارحة تمهيداً لوضعها بين المواطنين والمواطنات وأهالي الضحايا بغرض عقد العديد من المصالحات الأهلية والوطنية في سبيل الوصول إلى المسامحة، وجعل المحاسبة أسلوباً لتعزيز الوحدة الوطنية عبر محاكمة الشخصيات القيادية والنافذة وصاحبة المسؤولية التي أجرمت بحق السوريين والسوريات جميعاً، ومن كل الأطراف.
إن التجارب الدولية التي جرت بعد الحروب الأهلية في العالم، مثل الحرب الأهلية اللبنانية ورواندا والعراق ويوغوسلافيا وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان، تشترك في أنها لم تقدم كل مرتكبي الجرائم والانتهاكات إلى المحاكم، وإنما اقتصرت المحاسبة على عدد قليل من الشخصيات النافذة، وحتى محاكمات نورنبرغ الشهيرة ضد مجرمو النظام النازي اقتصرت على (177) شخصاً، حكم بالإعدام على (24)، وبالسجن المؤبد (20)، ولمدد مختلفة (98)، وتمت تبرئة (35).
أخيراً، العدالة الانتقالية درس من دروس الوطنية السورية، التي ستلعب دوراً كبيراً في إعادة الوحدة السورية للشعب السوري بكل ما فيها من أبعاد إنسانية ووطنية.