أصوات نسوية، مقابلة مع الحقوقية ياسمين مشعان

“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”
مقابلة مع الحقوقية ياسمين مشعان
إعداد: كبرياء الساعور

 

أهلاً بكِ ياسمين،

 

– ياسمين مشعان؛ حقوقية سورية تركت بصمتها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وإحدى العضوات المؤسسات لرابطة عائلات قيصر التي تعمل على كشف مصير المعتقلين والمعتقلات والمفقودين والمفقودات ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، هل يمكنك مشاركتنا قصة رحلتك منذ بدايات الثورة ونضالك الحقوقي وصولاً إلى انضمامك للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية؟
أحيانًا كثيرة يصعب على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، عن شخصه، وأن يقول “أنا” و”أنا”، لكن يمكنني أن أشاركك جزءًا من رحلتي، منذ ما قبل الثورة السورية، لكي تتعرفي قليلًا على خلفيتي، وربما تفهمين سبب انخراطي في العمل الحقوقي.
ولدتُ في مدينة دير الزور، وهي مدينة مهمشة إلى حد كبير. كنتُ الفتاة الوحيدة بين ستة إخوة، وكنتُ في الوسط: ثلاثة أكبر مني وثلاثة أصغر. كان والدي ووالدتي من الطبقة المتوسطة؛ والدي يعمل معلمًا، ووالدتي أمينة صندوق في مديرية مالية دير الزور. لكن العائلتين، عائلة والدي وعائلة والدتي، كانتا من المثقفين الذين كانوا يشترون الكتب بأي ثمن ويقرؤونها بشغف. كانوا من أولئك الذين يحبون القراءة، وقد انعكس هذا الأمر علينا لاحقًا.
عائلتا والدي ووالدتي تنقلوا كثيرًا بين الدول العربية؛ ذهبوا إلى السعودية، العراق، الأردن، وكذلك تنقلوا داخل سوريا بحكم عمل آبائهم في سلك الدرك، فزاروا معظم المناطق السورية: من اللاذقية إلى الحسكة، السويداء، الميادين، وكل مناطق سوريا تقريبًا. كانوا ينقلون لنا القصص عن تلك الأماكن، ويحكون لنا عنها، فكنا نرى هذا التنوع السوري منذ زمن، ونلمس جماله منذ وقت طويل.
ونتيجة لهذه البيئة التي نشأنا فيها، كنا من المعارضين لنظام الأسد الأب، ثم الابن لاحقًا. فقد اعتُقل والدي في الثمانينات بعد عودته من العراق، لمدة ستة أشهر، بعد أحداث حماة، ولم تكن فترة طويلة، لكن مفهوم الاعتقال بدأ يترسخ في العائلة. وكان ذلك في العام الذي وُلدت فيه، عام 1980، والذي كان من أصعب الأعوام.
ثم اعتُقل خالي في التسعينات، وبقي أربع سنوات ونصف في معتقل صيدنايا، فكان واقع الاعتقال حاضرًا في بيتنا منذ زمن. لاحقًا، في عام 2001، اعتُقل أخي تشرين مرتين؛ الأولى لمدة سنة وثلاثة أشهر، والثانية لمدة سنتين ونصف، وكلها بتهم سياسية. لذلك، لم يكن واقع النضال ضد نظام الأسد غريبًا عني. حتى في فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، كنا من الأشخاص الذين قدموا الدعم والمساعدات، وعملتُ مع إخوتي في جمع المساعدات الطبية والعينية لإغاثة اللاجئين/ات العراقيين/ات في ذلك الوقت. فكان من الأمور التي غُرست في داخلي منذ الصغر أن ننخرط في أعمال إنسانية أكثر.
مع انطلاق الثورة، كنا من أوائل الناس في الحراك، ننظم المظاهرات، ونساعد في دعم الحراك ونشر التوعية حول أهميته، وذلك في العام الأول. وكانت السنة الأولى بالنسبة لإخوتي هي سنة الاعتقال، إذ اعتقلهم النظام لمدة شهر ثم أُفرج عنهم.
وتبدلت المرحلة في عام 2012، عندما قابل النظام المظاهرات بالعنف، وفتح النار على إحدى المظاهرات، واستشهد أول إخوتي، زهير، وكان عمره 19 سنة. ووقتها تغيرت الأمور بالنسبة لنا.
بعد زهير، اعتُقل عقبة واختفى كل أثر له. وبعد عدة أشهر، اعتُقل والدي وبقي 70 يومًا. ثم في شهر تشرين الأول/أكتوبر، استشهد أخي عبيدة، وبعده بعشرة أيام استشهد أخي تشرين.
أصبح من الضروري أن نغادر المدينة المحاصرة، فانتقلنا إلى الريف، وهناك دخل تنظيم داعش. حاولنا مقاومة وجود التنظيم بمختلف الوسائل، لكنهم خطفوا أخي بشار واختفى، ثم خطفوا ابن أخي، عبد الرحمن، وبقي لديهم نحو ثلاثة أسابيع، ثم أفرجوا عنه تحت ضغطنا.
بعدها قررنا المغادرة إلى تركيا، فغادرنا في شباط 2015. من خيمة النزوح في ماردين، وفي ليلة 15 آذار، وصلتني صورة لأخي عقبة، وعرفت أنه استشهد في المعتقل تحت التعذيب، وكانت إحدى صور قيصر.
كانت تلك بداية التغيير في كل شيء كنت أراه. طوال الفترة الماضية مرت سلسلة من المآسي، لكن النهاية كانت معرفتي بوفاته، وكانت لحظة فارقة بالنسبة لي. وأول ما فعلته هو أنني تواصلت مع منظمة “هيومن رايتس ووتش” ووثقت قصتي مع أهلي، وكان لا بد أن أفعل شيئًا.
صحيح أن الأمر لم يكن سهلاً، من مجرد امرأة في خيمة نزوحها القسري في تركيا، إلى اليوم، مشوار استمر لعشر سنوات، وكان حافلاً بالتحديات. لكن شيئًا واحدًا بقي معي: ذكرى إخوتي، ودلالهم لي، ومحبتهم لي. هذا ما جعلني لا أيأس، ويجب أن أواصل حتى آخر العمر.
الحزن دفعني للبحث عن الحقيقة، والرغبة في إنصاف نفسي وإخوتي منحتني الدافع لمعرفة مصيرهم وتحقيق العدالة لهم. ومن خلال هذا الطريق، التقيت بأسر أخرى، تشاركنا الألم ذاته، فبدأنا معًا بتأسيس رابطة عائلات قيصر، وكان الهدف توحيد أصواتنا والمطالبة بالعدالة وكشف مصير أحبائنا.
ومع مرور الوقت، أدركنا أن الجهد الفردي لا يكفي، فكان لا بد من توحيد الطاقات مع روابط أخرى للضحايا. وهكذا وُلد ميثاق الحقيقة والعدالة، الذي يجمع روابط تمثل مختلف أبعاد ملف الإخفاء القسري في سوريا. سعينا من خلاله إلى بناء استراتيجية مناصرة شاملة، وضمان أن يكون صوت الضحايا وأسرهم حاضرًا وبقوة في المسارات السياسية والقانونية. وقد تلقينا الدعم من العديد من الشركاء الذين لعبوا أيضًا دورًا محوريًا في توفير وسائل الدعم والتمكين المعرفي.
انضممت إلى “انوفاس”، وهي الشبكة الدولية للضحايا والناجين/ات من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، حيث تجتمع روابط ضحايا من مختلف أنحاء العالم، وكان ذلك فرصة للتعلم وتبادل الخبرات. عبر الانفتاح على تجارب الضحايا في دول أخرى، اكتشفنا أهمية تعزيز مبدأ مشاركة الضحايا، وأهمية أن يكونوا جزءًا فاعلًا في صياغة سياسات مستدامة لتحقيق العدالة الانتقالية. تعلمنا من النجاحات كما من الإخفاقات، وكان ذلك حافزًا لنضالنا من أجل إنشاء المؤسسة المعنية بالمفقودين/ات في سوريا، من خلال بناء حراك شمل روابط الضحايا والمجتمع المدني، وتعداه ليشمل منظمات دولية أيضًا. كان جهدًا جماعيًا قادته روابط الضحايا، وجاءت المؤسسة استجابة لهذا الحراك، وقد ضمنت مشاركة هيكلية وحقيقية للضحايا أنفسهم.
الجدير بالذكر أن روابط الضحايا حول العالم تضامنت معنا، وقدموا كل الدعم، إيمانًا منهم بأن ذلك سوف ينعكس عليهم أيضًا. هذه الجهود ساهمت، بشكل أو بآخر، في أن يكون لي دور في هيئة العدالة الانتقالية، حيث كانت الخبرة التي اكتسبتها خلال السنوات الماضية، والتعلم من تجارب الدول الأخرى، ذات أثر بالغ في هذا المسار.

 

– متى نشأت فكرة العمل على تأسيس رابطة عائلات قيصر، وما الدافع لذلك، وما هو الدور الذي تلعبه الرابطة في تمثيل ذوي الضحايا وإيصال أصواتهم ومناصرة حقوقهم؟
كان هناك حاجة داخلية ورغبة بالعمل، حيث التقيت مع مريم الحلاق وهي والدة الشهيد أيهم غزول، هذا اللقاء مع مجموعة أخرى من العائلات التي كان لها دور في تشكيل نواة الرابطة. ومن هنا انطلقت الرابطة حاملة رغباتنا في الإنصاف والعدالة واستعادة رفاة أحبتنا لتكون أهدافنا التي انطلقنا بها للعالم بمطالب واضحة. ولكي نستطيع التأثير كان لابد من التعلم والتمكين وبناء المعرفة الحقوقية المناسبة لتشكل أدواتنا.

 

– بعد التحرير عدتِ إلى دمشق ما الذي تعنيه لك تلك العودة على الصعيد الشخصي وعلى صعيد عمل رابطة عائلات قيصر، وكيف انعكس ذلك على نشاطها مع بدء العمل من داخل سوريا؟
رحلة العودة مليئة بالمشاعر والأمل.
قبل سقوط النظام بفترة ما كنت أتخيل في يوم من الأيام أنه من الممكن أن أرجع إلى سوريا. سوريا كانت بالنسبة لي مصدر ألم وقهر، وكانت شيئاً مخيفاً، لأنها كانت تحت حكم بشار الأسد. كنت أشعر فعلاً أنه حتى لو سقط النظام في يوم من الأيام، فلن أتمكن من العودة. لكن بمجرد سقوطه، انقلبت الصورة تماماً، وأصبحت سوريا بلدي الذي أتوق للعودة إليه في أول فرصة للعودة، ولم أُخبر أحداً، صعدت إلى الطائرة، وطوال الرحلة لم تجف دموعي، كنت خائفة بطريقة أو بأخرى، من أن يكون من المستحيل أن أعود إلى سوريا في يوم من الأيام. والآن بدأ الحلم يتحقق، وكان الطريق كله مليئاً بالدموع. اللحظة التي وصلت فيها إلى مطار الحريري في لبنان وخرجت منه، كانت أول ضحكة لي. المفارقة أنني لم أكن أتوقع أو أتخيل هذه الحالة إطلاقاً. لا يوجد كلام يمكنه وصف ما كنت أشعر به، خصوصاً عند الحدود السورية وما واجهته من اتهامات.
من أجمل اللحظات التي عشتها في تلك الفترة كانت عندما قمنا بوقفة في ساحة المرجة بتنظيم من رابطة عائلات قيصر، وكان ذلك أول ظهور علني للرابطة في سوريا بعد سقوط النظام. حضر الكثير من الإعلاميين/ات، وكانت فرصة للقاء العديد من العائلات التي كنت قد تواصلت معها سابقاً عبر الإنترنت. وكانت لحظة فارقة جداً، خاصة عندما غنينا “زينوا المرجة والمرجة لينا، شامنا فرجة وهي مزينة” شعرت حينها أننا نلنا جزءاً من العدالة.
أما اللحظة الثانية الفارقة، فكانت عندما أعلن قيصر عن هويته في أول ظهور له، كنت حينها في دمشق، وظهرت على الهواء مباشرة بعده على شاشة تلفزيون الجزيرة الذي كان يبث وخلفنا ساحة الأمويين. كانت لحظة مؤثرة جداً، حملت فيها رسائل العائلات جميعها، ونقلت آمالهم وطموحاتهم وأوجاعهم، وكان ذلك بحق جزءاً من العدالة.

 

– في مقال لك على الشرق نيوز بمناسبة يوم المرأة العالمي، تناولت معاناة المعتقلات والناجيات من الاعتقال، بما فيها الوصمة الاجتماعية والاستغلال الذي يتعرضن له من بعض المنظمات التي ادعت تمثيلهن، كيف ترين واقع الناجيات بعد سقوط النظام وهل تغيرت التحديات التي يواجهنها؟
بعد سقوط النظام، عملنا بشكل مكثف مع الناجيات ومع العائلات من ذوي المفقودين/ات. وقد بقي هذا الملف عرضة للاستغلال من قبل العديد من الجهات، وكنا نواجه هذه المحاولات بجميع الوسائل. لكنني أتصور اليوم، وبعد تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين/ات، ومع وجود اهتمام خاص بالناجيات من قبلها، الأمر الذي أتاح الفرصة للمنظمات وروابط الضحايا التي تعمل بضمير حي لأن تعمل على هذا الملف بشكل صحيح.
للأسف، لا أستطيع الإضافة كثيراً في هذا الموضوع، لأن تركيزي انتقل ليتمحور حول ملف العدالة الانتقالية بشكل عام. لكننا سنعمل على هذا الملف بشكل مكثف من خلال الهيئة نفسها، وسيكون حاضراً بقوة، لأن بعض أعضاء وعضوات الهيئة لديهم حساسية جندرية عالية، وقد سبق لهم العمل على هذا الملف.

 

– انتقل الحراك النسوي في سوريا مع بدايات الثورة من نضالات فردية أو مجموعات صغيرة إلى فكرة التغيير الاجتماعي والسياسي، كيف تقيمين دور وفاعلية النضال والعمل النسوي في سوريا بعد مرور أكثر من عقد؟
لقد تقدم الحراك النسوي في سوريا بشكل كبير، وهناك أيضًا قراءة واقعية لقدرته على تقديم نفسه في الواقع الثقافي المعقد في سوريا، لكن بنفس الوقت هناك تحديات كبيرة انبثقت مؤخرًا، وهناك حرب حقيقية وهجوم ومحاولة لتشويه الحراك النسوي، ونتيجة لذلك كان هناك صعوبة في تعزيزه داخل سوريا، لذا من الأفضل أن يتم تغيير التكتيكات التي تتبعها الحركات النسوية. ومؤخرًا، ونتيجة هذا التكيف نجحت النسويات بتوسيع مشاركتهن داخل سوريا.

 

– في مقابلتك مع المفكرة القانونية ذكرتِ؛ أن مبدأ مشاركة الضحايا يضعف، وهو غير واضح بالنسبة للسلطة الجديدة وحتى بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني، ما هو تأثير ذلك التهميش والإقصاء على قضية المفقودين والمفقودات وقدرة الناجين والناجيات في المطالبة بالحق والعدالة؟
لقد تغيّر الواقع مؤخرًا، ولا يسعني إلا أن أعبر عن سعادتي بالتغيرات التي طرأت. فعلى سبيل المثال، بات المجلس الاستشاري في الهيئة الوطنية للمفقودين/ات يضم في عضويته نصف عدد الضحايا الذين عملوا على هذا الملف خلال السنوات الماضية. كما شملت هذه التغيرات أيضًا الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية.

 

– بصفتك ممثلة لعائلات المعتقلين/ات والمغيبين/ات قسرًا، كيف تنظرين إلى مسار تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، حيث تعيش عائلات الضحايا ألم الفقد والانتظار، ولماذا تعد مشاركة ذوي الضحايا أمرًا جوهريًا في بناء عدالة حقيقية في سوريا؟
ذوو الضحايا الذين تعرضوا للانتهاك بحاجة إلى إنصاف، وهذا الإنصاف لا يبدأ إلا من خلال مشاركتهم الفاعلة في سياسات واستراتيجيات العدالة. وهي مبادئ أساسية يجب أن تحكم عمل أي مؤسسة وطنية أو دولية أو أممية معنية بالعدالة الانتقالية أو تقدم الدعم. ويأتي في مقدمة هذه المبادئ الاعتراف بوكالة الضحايا، أي الاعتراف بنا وضمان سماعنا والأخذ برأينا، وليس أن نكون مجرد ديكور. وينبغي إشراكنا على نحو مستدام من مرحلة توليد الأفكار والتصميم إلى مرحلة اتخاذ القرارات وتنفيذها.
كما يتطلب احترام إرادة الضحايا وحدودهم، وأن تكون المشاركة فعالة ومحورها الضحايا بالفعل، ويجب خلق الظروف التي تتيح لكل فرد أو جماعة الإسهام على نحو جاد وفعال في أي عملية، سواءً أكانت رسمية أم غير رسمية. ومن الضروري بناء المعرفة واحترام الفضاء الخاص واستقلاليتهم، إذ سنكون قادرين كضحايا على تحقيق أهدافنا إذا تمكنا من الاستعداد والتنظيم وتحديد الأولويات والعمل بصورة جماعية. إن تنظيم الضحايا لأنفسهم بصفتهم جهات فاعلة مستقلة هو عمل تمكيني بحد ذاته، ويتوجب على الناجين والناجيات أن يفهموا عمليات صنع القرار وأن يطوروا مهارات التعبير عن الذات بفاعلية.
ولا يجوز الافتراض بأن جميع الضحايا يرغبون في الشيء نفسه، فقد يكونون قد عانوا وتعرضوا لأنواع مختلفة من الأذى. وينبغي العمل على ضمان حصول كافة أفراد المجتمع المتأثر على فرص متكافئة للمشاركة، بغض النظر عن العمر، أو النوع الاجتماعي أو الإثنية أو الدين أو الإعاقة أو القدرة على القراءة والكتابة أو المكانة الاجتماعية والاقتصادية أو الانتماء السياسي أو التورط في النزاع. كما ينبغي استشارة الناجين والناجيات بشأن التعامل مع هذه القضايا المعقدة.
وينبغي اعتماد نهج لمراعاة النوع الاجتماعي، إذ يؤثر النوع الاجتماعي في مسألة الإيذاء والمشاركة بطرق متعددة. وعليه، يتعين النظر في اتخاذ تدابير مختلفة لضمان مشاركة الفتيات والنساء والأولاد والرجال، كما ينبغي معالجة التحديات التي تؤثر في المشاركة، مثل مسؤوليات رعاية الأطفال ومشكلات المواصلات، مع ضرورة التأكد من إيلاء أهمية حقيقية لمشاركة النساء، وألا تكون مشاركتهن شكلية.
وتشكل المشاركة في عمليات العدالة جانبًا واحدًا فقط من الرغبة في معالجة قضايا أوسع، مثل التمييز والتهميش والاضطهاد السياسي، والتي قد تكون هي السبب في الإيذاء في المقام الأول. لذا، يتعين فهم الكيفية التي ينظر بها الضحايا والناجون والناجيات إلى الأذى الذي لحق بهم، وكذلك إلى أهدافهم وتوقعاتهم وأولوياتهم المختلفة، ومن ثم استخدام هذه المعرفة في تصميم وتنفيذ آليات العدالة التي ينبغي اعتمادها.
ويجب عدم التعامل مع الضحايا على أنهم مجرد مستفيدين غير فاعلين. ويمكن للمنظمات غير الحكومية وغيرها أن تقدم دعماً حيوياً للضحايا، لكن يجب ألا تحاول أبدًا التحدث نيابة عنهم أو إضعاف قدرتهم على الفعل. ويتعين الحرص على حصول كل موظف/ة يعمل مع الضحايا على التدريب المناسب، بما في ذلك التدريب على التعامل مع الصدمة، حماية البيانات، والإصغاء الإيجابي. كما يجب منح الناجين والناجيات مساحة في المجالات الخاصة والعامة، وإتاحة المجال لهم لصياغة جداول الأعمال الخاصة بهم.
ويجب تصميم استراتيجيات اتصال تتيح التواصل مع جميع الضحايا، وتستخدم لغة سهلة الفهم بالنسبة لهم، وقنوات تُمكّن فعلياً من الوصول إليهم. وينبغي أن يكون الاتصال متاحاً في الاتجاهين، بحيث يستطيع جميع الضحايا الاستيضاح عن الأمور، وطلب المزيد من المعلومات، وتقديم آرائهم ومقترحاتهم. وبالرغم من إمكانية الاستفادة من الوسائل الإعلامية والتقنيات الحديثة، يجب أن يؤخذ في الحسبان أن الناجين والناجيات الذين يقطنون في مناطق يصعب الوصول إليها قد يحتاجون إلى وسائل بديلة.
وأخيراً، من الممكن أن تتسبب مشاركة الضحايا في إلحاق أذى عقلي أو بدني أو اجتماعي بهم. لذلك، يتعين دائمًا إجراء تقييم شامل للمخاطر المتعلقة بالعافية البدنية والنفسية للضحايا، وتطبيق تدابير خاصة لصونها، بما في ذلك عدم الكشف عن هوياتهم وتوفير الدعم المناسب لهم. كما ينبغي تصميم أنماط المشاركة بحيث تحول دون كشف هوية الضحايا أو إعادة تعرّضهم للصدمة أو الوصم.

 

– بعد تكليفك مؤخرًا بمنصب عضوة لجنة الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية كونك ممثلة عن عائلات الضحايا، ما هي آفاق إنصاف الضحايا بعد سقوط النظام في ظل التحديات السياسية وتعقيدات المرحلة الانتقالية؟
بصراحة، أنا متفائلة جدًا بهيئة العدالة الانتقالية، لأن معي في الهيئة أشخاص، نساء ورجال، عندهم خبرة كبيرة جداً، وأشخاص لهم مكانتهم في الحراك المدني، وبصراحة أنا فخورة أني جزء من هذا الفريق، الذي نأمل أنه يضع رؤية حقيقية لإنصاف الضحايا، كل الضحايا، دون استثناء.
هذا ما أكدنا عليه في أكثر من مناسبة، أن المرسوم الذي ركز على الجرائم التي تسبب بها نظام الأسد خلق علاقة سببية بأنه الأسد كان سببًا لوجود داعش وكل الفصائل الأخرى التي ارتكبت انتهاكات، وبالتالي بالعودة السببية لهذه الجرائم يكون الكل مدانًا. لذا ركزنا أكثر على مبدأ إنصاف كل الضحايا دون استثناء. قد يكون من الصعب جدًا محاسبة كل المنتهكين، لكن رغبتنا حقيقية كهيئة عدالة انتقالية بإنصاف كل الضحايا وجبر ضررهم، وبالتالي من أهم الأدوات لجبر الضرر هي ضمان عدم تكرار الانتهاكات، تركيزنا الأساسي على عدم التكرار كأداة حقيقية لإنصاف جميع الضحايا. اليوم لا يمكن أن نقول عدالة من دون ضمانات، وأن هذه الجرائم لن تتكرر في سوريا بعد اليوم.

 

– تتمة للسؤال: كيف تنظرين إلى مشاركة النساء في مسار العدالة الانتقالية في سوريا على مستوى تصميم البرامج وتنفيذها، وكيف يسهم حضور النساء في بناء عدالة أكثر شمولاً؟
برأيي، أول ما ينبغي قوله هو أنه لولا حراك النساء، لما كانت هناك قدرة على التأثير بالشكل الحالي. إن حراك النساء ضمن روابط الضحايا مذهل للغاية، ولا أتحدث هنا عن نفسي، بل عن جميع روابط الضحايا التي ساهمت بشكل فعلي في قضية المفقودين/ات، وكان لها دور في تأسيس المؤسسة المعنية بالمفقودين/ات، كما كان لها دور في إبقاء هذا الملف حيًّا رغم كل التحديات السياسية التي سبقت سقوط النظام، والتي كانت في معظمها تشير إلى رغبة بعض الدول في طيّ هذا الملف لصالح المسار السياسي.
لقد خضنا نضالًا حقيقيًا وشرسًا من أجل إبقاء ملف المفقودين/ات خارج نطاق التفاوض، ونجحنا في ذلك من خلال تأسيس المؤسسة.

 

– من موقعك كمناضلة في مجال حقوق الإنسان، كيف تسهم العدالة الانتقالية في بناء السلم الأهلي في سوريا، وكيف يمكن العمل على بناء سردية مشتركة بين الضحايا تساعد على رأب الصدع وترميم النسيج المجتمعي؟
الحقيقة دائمًا كنت أقول إن الضحايا وروابط الضحايا هم القادرون على التجسير بين المجتمعات السورية، وهم القادرون على تعزيز التضامن فيما بينهم، لكي يتم خلق حالة من التفاهم والتصالح مع الآخر. فاليوم عندما نسمع السرديات الأخرى نستمع بشكل حقيقي، وتوفر هذه البيئة لسماع بعضنا البعض هي أول خطوة بمد الجسور. اليوم، الكثير من الناس لا يعرفون ما مررت به خلال الأربع عشرة سنة الماضية، وأنا أيضًا قد لا أعرف ما الذي مروا به خلال السنوات الفائتة، فمن الضروري أن تكون اللبنة الأولى أن نستمع للآخر، ومن الضروري أن يساند بعضنا بعضاً، وندائنا ومطلبنا الأساسي أننا نريد ونطالب بجميع المفقودين/ات عند كل الأطراف، حتى لو كان هذا الشخص منتهك ومفقود، فمن حق أمه أن تعرف مكانه، وبعدها تجري محاسبته محاسبة عادلة كونه شارك في الانتهاكات. إن بناء المجتمع والوصول إلى السلم الأهلي وترميم أنفسنا يبدأ بالتعاطف والتضامن مع الضحايا، كل الضحايا من مختلف الفئات السورية.

 

*كل ما ذكر في المقابلة يعبر عن رأي من أجريت معهن/م المقابلة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية