أصوات نسوية، مقابلة مع ماريا عباس
- updated: 26 سبتمبر 2024
- |
“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”
مقابلة مع الكاتبة والصحفية ماريا عباس
إعداد: أمل السلامات
أهلاً بكِ ماريا،
– من هي ماريا عباس؟
ماريا عباس كاتبة صحفية، خريجة معهد التربية والتعليم، متخصصة في الدعم النفسي الاجتماعي، وحاصلة على ماجستير من المدرسة العليا للصحافة والتواصل-باريس. من مواليد منطقة القامشلي، مقيمة في النمسا منذ عام 2017.
مارست مهنتي كمعلمة في مرحلة التعليم الأساسي لخمسة عشر عاماً. في عام 2010 قررت البحث عن طرق أخرى للتعلم وتغيير المهنة، كنت أحب مجال الدراسات الاجتماعية، لكن أمورا أعاقتني من متابعة الدراسة الأكاديمية. لاحقاً في 2011 تغير كلُّ شيء حتى على مستوى القرارات الشخصية. خضت تجربة التعلم الذاتي، والتعليم المفتوح عبر الانترنت في الصحافة والتواصل.
في عام 2014، وتحديداً بعد افتتاح مخيمات النزوح للاجئين/ات الفارين/ات من اجتياح تنظيم داعش في مناطق من العراق وسوريا، ساعدتني خبرتي في مجال العمل الاجتماعي بالحصول على وظيفة في منظمة دولية للعمل الإغاثي IRC وكنت من أوائل النساء في المنطقة. عملت ضمن برنامج متخصص في تقديم الدعم والتمكين للنساء والفتيات “حماية المرأة”. البداية كانت مع نساء إيزديات في مخيم نوروز في المالكية الذي خُصص لاستقبال اللاجئين/ات الأيزديين/ات الفارين/ات من تنظيم داعش الإرهابي على منطقة سنجار، وكذلك مخيم روج، ومع نساء مخيم الهول في الحسكة من النازحات السوريات والناجيات العراقيات من منطقة الموصل، ولاحقاً أصبح عملي مع النساء في المجتمع المحلي بلدات القامشلي وقراها.
هذا ملخص عن نشاطي حين كنت في سوريا، أحب ذكره دوماً لأهمية المشاهدات التي عشتها وخاصة حياة النساء، بالإضافة إلى كوني ربة منزل وأم لأربعة أبناء وبنات وهذا شأن آخر.
كان عملي مع النساء فرصة للتعرف عن قرب شديد على واقع سيء تعيشه النساء في مجتمعاتهن المحلية في سوريا والعراق، وواقع أسوأ مما هو متخيل تعيشه النساء في الحروب والنزاعات المسلحة.
كانت تجربة العمل في المجال الإغاثي والمدني مرهقة لكنها مدتني بذخيرة من الخبرة وأهمية العمل الميداني والتواصل مع الناس، وسيلة حقيقية لكسب المعرفة والدقة في اختيار أدوات جديدة لأكون أكثر وعياً بذاتي، وبما يدور حولي من أحداث. كتجربة شخصية وكوني امرأة عاشت الكثير من التجارب التي تتقاطع مع تجارب الأخريات، هذا ما جعلني لأكون اليوم صوتاً نسوياً.
– ” لماذا علينا كنساء أن نكتب؟” سأبدأ في رحلتي الحوارية معك ماريا من هذا العنوان لواحدة من مقالات عديدة كتبتها في مواقع صحفية وإعلامية مختلفة. وسؤالي هنا لكِ عن بداياتك ككاتبة، متى بدأت، ولماذا على ماريا أن تكتب؟
هذا سؤال يمكنني اختصاره بفكرة واحدة، لنعد لاكتشاف الكتابات البشرية الأولى، حين لم تعد لغة الإشارات والحركات كافية للتواصل والتعبير عما يجول في داخل البشر من خواطر ومشاعر وتساؤلات، لجأ الكائن البشري لطرق جديدة، وكانت الكتابة من أسمى إبداعات الإنسان، لاحقاً أصبحت وسيلته للتواصل العميق ولحفظ النتاج الفكري والتراث الإنساني من الاندثار، وربما الأهم كان إرضاءً لرغبة عظيمة سعى إليها الإنسان جاهداً لتثري حلماً صعب المنال، ألا وهي الخلود. الكتابة هذا الفعل الإنساني العظيم تاريخياً بقي نشاطاً محصوراً بفئة حظيت بامتيازات كالسلطة والقوة والمال، واستبعدت النساء، وهمش ما ساهمن به تاريخياً، من العمل الرعائي والاقتصادي والإبداعي والسياسي، وتفاصيل حياتهن الخاصة. كيف عاشت النساء دون أن يكون لهن صوتهن الذي يروي حياتهن ويوثق أدق تفاصيلها من منظورهن؟
الكتابة ليست وليدة لحظة مفاجئة، إنما رغبة داخلية عميقة تثير قلقاً لا مفهوماً، قد نتحدث لساعات طويلة مع أنفسنا حتى تضيق بنا نفوسنا، ثم تأتي الكتابة لتساعدنا وتحررنا من الصمت والقلق، تجعلنا نطرح التساؤلات العديدة، وتخرج الأفكار من أقفاصها، تلك التي لا نستطيع التحدث عنها بصوت مسموع، وليس الخوف وحده من يخنق أصواتنا بسبب القمع المتراكم، لكن ألا نجد من يصغي لما نقوله ويؤخذ على محمل الجدّ.
شخصياً الكتابة بالنسبة لي شكل عظيم من الحرية.
كتبت بشكل مثير لاهتمام معلمي في مادة اللغة العربية وأنا في المرحلة الابتدائية، كنتُ أتنقل بين الصفوف حاملة دفتري الصغير وأقرأ أمام زملائي وزميلاتي المواضيع التي كتبتها، كانت السعادة تغمرني حين يصفقون.
بدأت النشر متأخرة في 2014 في صحف محلية كردية باللغة العربية، وبعض المواقع الالكترونية لاحقاً، أتذكر بأني أعددت تقريراً صحفياً ميدانياً للمرة الأولى عن النساء اللاجئات في أحد المخيمات في جنوب تركيا، كان عملاً مثيراً رغم صعوبته.
في عام 2017 نُشرت لي أول مجموعة قصصية بعنوان “حفنة من اللافندر” وأقمت حفلة توقيع للكتاب في مدينة القامشلي. كتبت قصصها كنوع من الوفاء للنساء اللواتي التقيت بهنَّ، أردتُّ توثيق حكايات روتها لي نساء عاصرنَّ مرحلة صعبة في سوريا، القصص هي أصواتهن الحقيقية.
الكتابة بالنسبة لي نوع من الوفاء لذاتي، واجب إنساني، ومهمة شاقة لابد منها للبقاء على قيد الحياة، خلود رمزي لأصواتنا وتوثيق تاريخنا من منظورنا النسوي، الكثير من الحقائق والحكايات الشفهية ماتت إلا تلك التي كُتبت.
– تعلمين أننا كنساء صحفيات أو كاتبات ربما لا نتمكن من كتابة أو قول ما نريده بحرية مطلقة في مجتمعاتنا الأبوية. إن اتفقت معي في هذا الطرح، أين شعرت ماريا بأن حريتها في الكتابة، أو التعبير مقيدة، أو ما هو الكلام، أو المواضيع التي تتجنبها ماريا أو تحتال عليها ربما خوفاً من الإرث المجتمعي المعقد؟
كما قلتِ، نحن نعيش في “مجتمعاتنا الأبوية” وهذا الإرث الثقيل يحتاج لقوة عظيمة لنحرر أنفسنا منه، ولعل الخوف من الكتابة أو الهروب إليها وجهان لرد فعلٍ تلجأ إليه الكثيرات ممن ترفضنَّ قوانين هذا المجتمع الذكوري بامتياز، واتفق معكِ تماماً بطرحك، ليس من السهل تجاوز هذه الحواجز الوهمية، وإعلان الحرية الأولى تأتي بكتابتنا عن كل الأشياء التي كانت يوماً سبباً لخوفنا وقمعنا، كل التفاصيل التي أثارت فينا مشاعر الاشمئزاز والخوف والضعف، أو شعرنا بالحرج فتجنبنا التحدث عنها، العادات السائدة كانت تقمع حتى مشاعرنا الداخلية، تمنعنا من إنسانيتا، التي ستبقى منقوصة ما دمنا نخاف خوض تجاربنا بشجاعة، التجارب تمنحنا شهادة خبرة ، حتى لو كانت تجربة فاشلة.
في الكتابة الذاتية تحديداً تصبح الكتابة عملاً شاقاً، ولا أعتقد أن أي نوع من الكتابة هي خارج ذواتنا حتى وإن كنا نكتب عن الآخرين، أو نلجأ إلى الخيال والتصور. دعيني اعترف لكِ شخصياً أحاول التخلص من كل قيد سيعيق كتابتي، ولن أشعر بالحرية ونشوة الإنجاز إن لم أكتب ما أريد الكتابة عنه بصدق وما عشته فعلاً. لم أنشر بعد تجارب روائية، ولا كتابة ذاتية كاملة، سوى بعض المشاركات الجماعية تناولت بعض الجوانب عموماً، سرديات حول أعباء الأمومة وخسارات الحرب وتجربة اللجوء، لكن إذا قررت يوماً نشر رواية أو سيرة ذاتية يجب أن أكون متمكنة من أدواتي ومتحررة تماماً من قيود الرقابة الذاتية والمجتمعية.
يعتقد الغالبية بأن السير الذاتية حصر بالشخصيات العامة والمؤثرة أو الشخصيات المشهورة، وهذه فكرة ذكورية، عادة يهتم الناس بمعرفة مجريات حيواتهم، لكن احتكار هذا النوع من الكتابة ليس صحيحاً.
هناك مواضيع كثيرة يصعب الكتابة عنها خوفاً من ردود أفعال مجتمعنا، الكتابة عن الحب وعن التجارب العاطفية التي مررنا بها، عن الصراعات النفسية التي نخوضها في دواخلنا، عن الجنسانية والأجساد، وهرموناتنا الأنثوية، عن الجنس والحمل والولادة، عن الإجهاض والميراث، عن الحياة والموت وعن وجهات نظرنا في آبائنا وأمهاتنا وزعمائنا، وعن حوادث التحرش بأجسادنا، عن كل الممنوعات والأصوات المخنوقة فينا، وعن السياسة بعيوننا كنساء.
للكتابة حقوقها، يجب أن أرى الأشياء والتقط تفاصيلها، وكأني وحيدة في هذا العالم أكتب وأوثق، ببساطة لا تابوهات في ممارسة الكتابة لتكون إبداعاً، أنا أحاول التدرب على فعله الآن ” أن أكتب بصدق عن كل ما عشته”.
– مازلت في موضوع النساء الصحفيات أو الكاتبات، وسؤالي هنا تحديداً عن النساء السوريات، من وجهة نظرك هل كان لما حدث في سوريا بعد عام 2011 دوراً في ظهور الصحفيات والكاتبات السوريات بصورة أكبر وأكثر فاعلية، وإن كان فهل أحدث فرقاً واضحاً؟
إن ما حدث بعد 2011 لم يكن فقط مجرد ثورة على النظام السياسي، بل كانت ثورة اجتماعية، وإلا لماذا ظهرت النساء في المشهد بزخم رغم كل القيود الاجتماعية والأنماط التي كانت تحصر تحركاتهن ضمن فضاء ضيق، وتعيق من ممارستهن حرية التعبير ومناهضة كل أشكال العنف بحقهن وبحق المجتمع والمطالبة بتغييرها، مرة بسبب النظام السياسي الاستبدادي، ومرة متأثرة بالأعراف والقوانين المجتمعية الأبوية السائدة والتي ما زالت أكثر إجحافا بحق النساء رغم كل ما قدمنه.
ورداً على هذا التهميش للقضايا الحياتية، انفجرت ثورة 2011 فرصة لإعلاء الصوت النسوي إلى جانب أصوات عديدة مهمشة، والمطالبة بالتغيير والحقوق والحريات، وكان للتقنيات الحديثة ووسائل الاتصال والتواصل دوراً في غاية الأهمية، مما ساعد الناشطات والصحفيات والكاتبات من الانطلاق وتحرير الإمكانات وتمكين أنفسهنَّ للعب أدواراً جديدة وجدية ومؤثرة في الحياة الخاصة والعامة. حقيقة وعلى المستوى الشخصي، كنتُ واحدة من اللواتي شهدن فرقاً واضحاً من تطوير إمكانياتهن وتمكين أنفسهن من خلال النشاطات المدنية والتعلم والكتابة، أن أترك أثراً، وما زلت أسعى كامرأة سورية مثل الكثيرات للأفضل وللحظات فارقة تنقلني لمحطات أخرى. زادت أعداد النساء السوريات في مجال العمل الصحفي والكتابة الإبداعية والمجالات الأخرى خارج الشكل النمطي المعتاد، والكثيرات في الطريق لتحقيق طموحاتهنَّ، والكثيرات بانتظار تلك اللحظة الفارقة التي ستحدث فرقاً في حياتهنَّ أيضاً، إنه مشوار طويل وشائك.
– سأنتقل معك الآن إلى محور آخر وهو النسوية. أغلب كتابات ماريا تدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة الخط والحراك النسوي، فمثلاً، في مقالة “كيف تمنعنا، نحن النساء، الممنوعات والمحرمات والتابوهات من الاستمتاع بالحياة؟“ تقول ماريا: “نحن نعيش حياتنا كنساء، في محاولات كثيرة للخروج من قفص التابوهات، واختلاس الفرص للتهرب من ملاحقة الكم الهائل من الممنوعات التي تنهال علينا من كل المحيطين بنا بذريعة الوصاية، وتحت مسميات عديدة، وسوط العنف المتشدق يجلدنا، وهم لا يزالون يتفاخرون به ويمارسونه ليلاً ونهاراً“. وسؤالي، متى بدأت ماريا ثورتها النسوية، أي تابوهات قصدتها ماريا، ولماذا تريد كسرها؟
حين كتبت عن هذه المواضيع لم أتعمد أن تُصنف المواد كمحتوى نسوي تحديداً، أو حتى لأصنف واحدة ضمن قائمة من هنَّ النسويات السوريات بالرغم من أنه شيء يسرني، وأنا ممتنة بذلك للفكر النسوي الذي قرأته عبر كتب عالمية ترجمت للعربية، الفكر الذي تسرب أخيراً صوب بلداننا ولم يعدّ حكراً على أحد. لكن الحقيقة بأنني أكتب عما يجول في خاطري من أسئلة، عما أشعر به، عما يؤذينا وينغص علينا عيشنا، عن مدى حاجتنا للأمان والهدوء، أكتب عن الإرث الثقيل الذي حبسنا في المطابخ نعدّ الطعام، وذاك الذي سيلتهمه مستمتعاً، وهو ذاته سيكتب تاريخ عالمنا ويتناسى متعمداً بأن لولا هذا الطبق الذي تمَّ تحضيره بمجهود جماعي، واستهلك وقتاً خاصاً لامرأة، امرأة تفكر وتريد وتقدر، من حقها أيضاً أن تكتب وتتحدث وتقود، من حقنا أن يعترف الجميع بأن لجانب كل صانع تقف شريكة ما ليكتمل تكوين هذا العالم، فأين الإنصاف والعدل؟
ثقي تماماً بأن ميلاد كل أنثى هو إعلان لثورة جديدة، وأنا أعلنت لنفسي ثورتي كنسوية حين قررت أن أسمع الصوت الأنثوي الفطري الوحشي القابع في داخلي، حين أصبحت أماً لفتاتين من حقهما عليَّ أن تعيشا حياة أفضل من حياة أمهاتنا وجداتنا وحياتنا، الحق الطبيعي للإنسان، حتى وإن كانت تحمل تجارب صعبة يجب خوضها بكل تفاصيلها. الممنوعات والمحرمات كثيرة وكلنا نعرفها، بدءاً من الجسد الصغير الذي يُصبح عورة حين تُولد بجسد أنثى، ومروراً باحتكار الأشياء، كركوب دراجة هوائية للذكور دون الإناث، وانتهاءً بحرية الجسد في شكله ومضمونه. رغباتنا، ملابسنا، أوشامنا، ميولنا الجنسية، شركاؤنا الذين نعيش معهم أدق تفاصيل حياتنا وأسرارنا، وقضايا أخرى لعب القانون الذكوري دوراً كبيراً فيها من قضايا الميراث والأحوال الشخصية وعقود الزواج وأمور أخرى تهدد حياة النساء وأمنهن.
– حضرت المرأة السورية الكوردية في مقال لك تحت عنوان “لماذا نكتب عن العنف ضد النساء عامّة والسوريات والكورديات خاصّة؟ وسنواصل ذلك…”، وهو ما يقودني إلى “التقاطعية النسوية” التي تصر عليها وتتبناها العديد من المنظمات والحركات النسوية السورية اليوم، وهنا أريد أن أسمع منك ماريا ككوردية أولاً وكنسوية ثانياً عن معاناة المرأة الكوردية إن كانت مضاعفة أو مختلفة أو ربما تحتاج منا كنسويات سوريات التركيز على جزئيات أو مطالب خاصة بالمرأة الكوردية في سوريا، بحيث نطبق التقاطعية نظرياً وعملياً؟
هذه هي النقطة الحساسة أو النقطة العمياء التي قد يغفل الآخرون/الأخريات عن رؤيتها، لذلك تحديداً عندما أتحدث أو أكتب أو أعرف عن نفسي أذكر بأني كوردية سورية، قضيتنا كنساء كورديات في سوريا تُصنف تحت اسم “التقاطعية النسوية” وبعيداً عن تعقيدات المصطلحات التي لم تأتي عبثاً، حين يكون لنا صوت نسوي يخصنا نحن السوريات ضمن المكون الكوردي هذا بحد ذاته تحدِّ لقيم المجتمع الكوردي الأبوية الذي لا يختلف كثيراً عن المجتمع الشرقي بأكمله، لن يصبح الصوت صارخاً وملفتاً يحقق أثره إن لم يحمل هويتنا، نحن أيضاً غير راضيات عن الموروث الاجتماعي الأبوي الذكوري عندنا، يدافعون عنه مخافة تسرب هذه السلطة من بين أيديهم أو حتى تقاسمها مع النساء بالتساوي، المناداة بحرية المرأة تأخذ منحى آخر ويتم تركها جانباً وتبرير ذلك لصالح قضية أسمى تخص الهوية والوجود الكوردي، فالنضال النسوي الكوردي هو جزء من نضالنا الإنساني ضد الاستبداد والظلم على الشعب السوري بكل مكوناته عموماً، ونضال إنساني قومي مناهض للاستبداد والتهميش والتمييز الحاصل بحق الشعب الكوردي خصوصاً، اليوم نحن مطالبات بإثبات حقوقنا النسوية والقومية كمدافعات في ظل غياب الديمقراطية والعدالة والهجوم علينا وانتهاك إنسانيتنا، نواجه قيم مجتمعنا الكوردي الأبوية من جهة، ونُشارك هذا المجتمع ذاته في صفّ واحد، وملتزمات أيضاً بقضيتنا القومية ومدافعات عن هويتنا الجنسية ولغتنا وتاريخنا الإنساني، الأمر بالغ التعقيد يحتاج لحوار خاص، ولا أعرف ما المشكلة في هوية نتمسك بها، المسألة مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في هذه المرحلة تحديداً.
دعيني أطرح مثالاً، ما وقع على النساء الكورديات في مسألة الحرمان من الجنسية السورية لعقود طويلة “مسألة الإحصاء الجائر في 1962 ومشكلة الأجانب ومكتومات القيد” كارثة لن تستطيع إلا الكورديات اللواتي عشنَّ ودفعنَّ ثمن هذه التجربة المريرة من أن يروينَّ تفاصيلها المهمشة، الصفح عن هذه الكارثة الإنسانية لست أنا من تقررها. ومثال آخر كنا نصطدم في المدارس كأطفال حين نكتشف بأن لغتنا الأم ستصبح سبباً في التنمر وممنوعات من التحدث والتعلم بها، أو حتى سبباً للزج بك في سجون النظام والحرمان من فرص كثيرة.
أعتقد بأن النسوية منهج حياة أكثر منها مجرد نظريات في قوالب جاهزة، هكذا أفهم النسوية أن نتقبل أنفسنا ونتقبل اختلاف الآخرين/الأخريات وحرياتهم/ن بعيداً عن التسبب بالأذى. جوهر النسوية الإنساني في تحقيق العدالة والمساواة وحقوق النساء واضح ومتفق عليه حتى وإن اختلفت أدواتنا ومطالبنا.
– قلتِ في المقالة السابقة: “قد يناقشنا البعض بمكر، موجهاً لنا تهمة النسوية، أو التأثر بالفكر الغربي الذي يعتبرونه دخيلاً على قيم مجتمعاتنا المتهالكة…” إذاً تعرضت ماريا لتهمة النسوية! كيف واجهتِ ذلك، وما هو ردكِ النظري أو العملي؟
من وجهة نظري أن النساء السوريات حتى وإن لم يقرأن كتباً عن المساواة أو النسوية تمكنَّ من مواجهة العنف والمطالبة بحقوقهن، فمثلاً، حين خرجت النساء في سوريا والعراق وأفغانستان في مظاهرات بوجه الاستعمار أو حين طالبنَّ المجتمع بتحسين معيشتهنَّ أغلبهن لم يقرأن لماركس أو فرجيينا وولف أو تعرفنَّ على المدارس النسوية، أو سربت لهن كتب فكرية غربية فتأثرن بها وخرجن مطالبات بحقوقهن في التعليم وشؤون الحياة العامة.
بعيداً عن نظرية التأثر بالفكر الغربي أو الشرقي، الخير والشر مفهومان مرتبطان بوجود البشرية، فإن كان سعي النساء السوريات للعيش بمنأى عن الشر في دولنا المتمثلة بقوانين الأنظمة الدكتاتورية وتشريعات الأديان وقيم المجتمع الأبوية هو تأثر بالفكر الغربي، إذا فليكن كذلك، وإن كانت النسوية تدعو للاستمتاع بحقوقنا نحن النساء بكل الخير الموجود في العالم ورفض احتكاره من جنس معين على حساب الجنس الآخر، إذاً فليكن. وما العيب بالتأثر فرضاً بالفكر الغربي إذا كان سيعيد للنساء حقوقها المشروعة والمسلوبة منها. وما العيب أن تكون تهمتي هي التأثر بالفكر الغربي، طالما أسعى لنيل حقي كإنسان أولاً، واسترداد حقوقي كامرأة ثانياً. هناك الكثير من المواقف التي حدثت معي بسبب آرائي المنحازة لصالح النساء وكانت سبباً في كثير من الأحيان من استبعادي أو تهميش ما كنت أسعى له في مؤسسات كوردية تحديداً.
للأسف النسوية أصبحت تهمة لأنها مرتبطة بأشياء كثيرة هي حقوقنا الطبيعية التي ما زلنا في أمس الحاجة لها، وأصبحت مسؤولية يتم محاسبتنا عليها من أقرب المحيطين بنا، بالرغم من أن النسويات السوريات ما زلن مبعدات فعلياً عن مراكز السلطة وصنع القرار، وما زلن في مواجهة شخصية للدفاع عن أنفسهن وحياتهن المهددة بالخطر في كل مكان.
– متابعة للسؤال السابق، تشاهدين وتقرأين اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي هذا الهجوم الكبير علينا كنسويات، برأيكِ ماريا كيف يمكننا التصدي له على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي والمنظماتي؟
كما حدث ويحدث دائماً أثناء نشوب أحداث كبيرة، تظهر قضية المرأة وحقوقها وبين ما يجوز ولا يجوز لها، يتم إقرار قوانين وتغييرها وتضيع جوهرية القضايا وتنفصل عن بعضها وأولها قضايا المرأة التي يرمى بها لأجل غير مسمى، تسطيح مطالب النساء من غالبية الناس والمشرعين، وهذا الترويج السلبي للنسوية تحت تأثير الإعلام الممنهج، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت لساحة حرب حقيقية لبث خطاب العنصرية والكراهية والترويج لأفكار مغلوطة، ينسى العالم كل كوارثه وحروبه ويتذكر شرفه المحصور بالنساء، وما أكثر هذا النوع من الشرفاء المنخدعين بأنفسهم، وما أكثر الضحايا والعنف، هذا الهجوم هو إثبات لهشاشة الرجولة بشكلها السائد “من لا يحمي عرضه لن يحمي أرضه”، وهكذا يستمر مسلسل الاستبداد.
احترام حقوق النساء وإقرار قوانين حمايتها هو معيار أساسي لاعتبار دولة ما متقدمة وحضارية. لن يتقبل النسوية الذي لا يعرف عنها سوى ما تم الترويج له بشكل سلبي.
في ظل هذا الشتات الحاصل وغياب الأمان والقانون الحقيقي وتفشي العنف والسلاح وانعدام معايير الحياة الطبيعية في سوريا من الصعب تحقيق هذه النظرية على أرض الواقع ضمن مؤسسات رسمية كالمدارس ومؤسسات الدولة، وهي الأكثر وصولاً وتأثيراً في تحقيق الحماية واحترام الحريات فيما لو فُعلت لصالح المواطنين والمواطنات.
– كيف ترى ماريا النضال النسوي السوري اليوم، وماهي رسائلك أو نصائحك لنضالنا النسوي، ما أكثر ما يجب أن نركز عليه؟
من المعروف عن النظرية النسوية كمنظور سياسي تفرعت عنه مدارس عديدة عالمياً احتفظت بجوهر النسوية الإنساني، والمطلوب من السوريات إنتاج تقارب لصالح النضال النسوي السوري، هناك سياق خاص يجب تفهمه على كل المستويات، وإلا سيصبح هذا الحراك مثله مثل الحركات الأخرى والأنشطة السياسية والخلافات التي لا حل لها لضيق منظورهم. ليس من السهل تحقيق إنجازات كالعدالة والمساواة بين الجنسين في إن لم نكن عادلين/ات بين ما ننادي ونؤمن به من شعارات باسم النسوية إن لم يترجم فعلاً لنهج حياة، تكفينا المآزق التي حشرنا فيها من أنظمتنا، من المفروض أن النسوية السورية تطرح مشروعاً إنسانياً قائماً على مبدأ العدالة للإنسان والمساواة في الحقوق، وأصبح لهذا الحراك صدى ترك أثره على المؤسسة الدينية المتحكمة بمفاصل الحياة في سوريا. وما ردود الأفعال وازدياد العنف بحق النساء والتهجم على النسوية والتخوف منها إلا إشارة بأن ما يحدث هو حراك نسوي حقيقي يهدد الامتيازات التاريخية للنظم والمؤسسات الدينية والاجتماعية، خاصة وأن السوريات كسرنَّ الصور النمطية السائدة بعد 2011، وانتقلن بشكل ملفت من المساحة الخاصة إلى الفضاء العام. ما أريد قوله أتمنى ألا نبقى عالقات في شباك التاريخ الأبوي، مطلوب منا التخلص من شوائب الماضي والانفتاح على التغيير وتقبل الاختلاف للخروج من حيز التنظير إلى التطبيق، ونضع صوب أعيننا الالتزام بالدفاع عن حقوق النساء السوريات وقضايانا أينما وجدنا أنفسنا، في الأجسام السياسية والمؤسسات والمساحات الممكنة للحراك.
– “حين دونت الفكرة الأولى لكل قصة، قررت أن أحررها يومًا بالكتابة، لتصبح فيها الأصوات الخافتة مسموعة، لا مجرد قصص لنساء عشنا على هامش الحياة” هذا ما كتبته في فصل “عتبة” من مجموعتك القصصية “شجرة الكينا تخون أيضاً“. ما يعني أنكِ كتبت قصصاً عن نساء، استمعت لهن بهدف تسليط الضوء على حياتهن، أود لو تحكي لنا باستفاضة عن عملكِ هذا، بداية الفكرة، القصد من ورائها، وكيف تعتقد ماريا أنها ستخدم نضالها في مناهضة العنف ضد النساء؟
عشت لسنوات طويلة في قرية نائية، كانت في منزل العائلة “مضافة” وكانت حكراً لجلوس الرجال وتبادل أطراف الأحاديث والتعرف على الأخبار، بينما نحن النساء كنا نعتني بتنظيفها حين تصبح فارغة، ننهض مع شروق الشمس حتى مغيبها ونحن نقضي يومنا في إنجاز مهام شاقة ومملة ومكررة.
في هذه القرية لا يمضي يوم إلا وتحدث حكاية ما لإحدى النساء، أو تغمرنا الدهشة حين تطرق امرأة زائرة الباب وتحمل معها حكايتها وحكايا أخرى خارجة عن جدران المضافات، لطالما استمعت باهتمام للأحاديث، وكنت أشعر بالغضب حين تصدر الأحكام الذكورية حتى من النساء أنفسهنَّ، رغم التعاطف المبطن لدى الجميع.
في عام 2015 بدأت فعلياً بالعمل في برنامج دعم وتمكين النساء، وكانت من ضمن منهج العمل الجلسات المركزة مع النساء، وجلسات فردية أقرب للمقابلة الشخصية، أو أنشطة الدعم النفسي الاجتماعي كنوع من تقديم التمكين ومساعدتهن على اتخاذ قرارات شخصية بأنفسهنَّ وفقاً لإمكاناتهن، وحدها كل امرأة تدرك مدى قدرتها، وكان المطلوب مني كمساعدة اجتماعية مهارة الإصغاء والتعاطف مع كل حالة بعناية فائقة، هذه الجلسات أعطتني ذخيرة إنسانية ثمينة، بالرغم من حجم الحزن والألم الذي تتركه كل امرأة بحديثها، كانت تنتابني مشاعر ثقيلة بعد كل جلسة، لجأت إلى كتابة التفاصيل الأساسية إلى جانب الرموز والأرقام التي كنت استخدمها في دفتر خاص جداً، السرية واحترام الخصوصية كان المبدأ الأهم إضافة للقدرة على كسب ثقة الفتيات والنساء، فكان البوح بمثابة علاج لم تعتد تلك النساء المهمشات عليه بهذا القدر من الأهمية.
حاولت تدوين تلك القصص أو جزء من حياة كل امرأة، كانت جلسات البوح ملهمة للكتابة عنها.
سأخبرك بسرّي الحزين، لقد تركت دفتري الذي جمعت فيه ما يقارب المائتي قصة في بيتي حين غادرت القامشلي، كانت فكرة كشف أسرارهنَّ والخوف من أن تؤخذ مني في المطار سبباً، أنا نادمة لأني تركت دفتري، الذي ضاع أو تم رميه مع أشياء كثيرة تخصني، كذكريات كانت تعني لي الكثير. ربما أعود ذات مرة وأبحث في منزلي عن دفتري وأحمله معي.
– سأنتقل معكِ إلى تفاصيل أكثر شخصية، فأنت تعيشين منذ عام 2017 في النمسا، كيف تصف لنا ماريا مجتمعها الجديد، ماذا أضاف لها، وماهي الصعوبات أو التحديات التي تعيشها فيه ماريا؟
انتقلت إلى النمسا محملة بعزلة داخلية ربما تعرفها الكثيرات في المنفى، أن تبدأ من الصفر بعد قطع أشواط من العناء والصبر وتجاوز العوائق كان مرحلة متعبة. تعلم اللغة الجديدة كان عائقاً سبب لي الكثير من الضغط والعزلة. من العوائق كان الاندماج بالمجتمع الجديد الذي لم اتجاوزه حتى اللحظة. في المقابل أحب هذا البلد الجميل الذي منحني وعائلتي ومنح الكثيرين/ات ملاذاً آمناً، وفتح لنا أبواباً للتعلم والعمل وتطوير إمكاناتنا بحرية.
لكن لم يكن من السهل بالنسبة لي كأم لأربعة أطفال مراهقين/ات أن يخضعوا لنوعين من القوانين، شرقية في المنزل، وغربية خارج المنزل، كان المطلوب أن أخلق نوعاً من التوازن بينهما بحرص شديد وكان أمراً شاقاً، وهنا ظهرت المعضلة النسوية أيضاً، التربية الذكورية لم تتركنا بسلام، كانت المعارك اليومية تدور حول الفروق في التعامل مع البنات والصبيان، ليس لأني أم نسوية بعيون ذكورية، لكني لم أكن المسؤولة الوحيدة عن الأسرة رغم إني قمت بالعبء الأكبر، ممنوعات ومسموحات والتمييز بين الجنسين في بعض الأمور كالعلاقات العاطفية والسكن والبقاء لوقت متأخر أمثلة كانت تثير النزاعات النفسية والنقاشات اليومية، مضت الأمور بسلام لكنها استنفذت طاقة هائلة مني، وأصبح الاندماج المطلوب معروفاً حتى للجيل الأصغر منا، احترام قيم العائلة وخصوصيتها الشرقية ما زالت تحتفظ برونق خاص، بعيداً عن المحافظة والالتزام التام بعادات معينة، تجربة اللجوء والمنفى ليست سهلة، لكنها إضافة عملية وتجربة مهمة تستحق الكتابة عن تفاصيلها بعناية وتروي.
– ما هي خطط ومشاريع ماريا القادمة؟
من الخطط التي تدور في رأسي، إنجاز مشروع خاص بعيداً عن عقود العمل مع مؤسسات أو جهات، وأقصد مشروعاً يدر عليَّ مالاً كخطوة أولى، أفكر لاحقاً بالتفرغ للسفر والكتابة الإبداعية وهذا مشروع لابد منه، أو ربما تأسيس دار للنشر أو شيء من هذا القبيل.
– هل هناك شيء تودين إضافته أو الحديث عنه؟
ما أريد قوله إن النساء وأنا واحدة منهن كامرأة كوردية وسورية في المنفى، نعيش حروباً طويلة منذ ولادتنا، صراعات نفسية، ومع العائلة وقيم القبيلة، مع شركائنا الرجال، حتى مع أطفالنا الذين كبروا نتعارك سوياً، ومع قوانين هذه البلدان التي ما زلنا نخوض صراعات الاستمتاع بها بين الحلال والحرام والعيب والعار، نساء الحروب خاسرات، حتى لو ربحن النجاة من الوطن، الفقدان والاشتياق والخسارات لن تعوضها أي نجاحات نحققها، هي كالدواء المسكن الذي يساعدنا على إكمال الحياة بألم أخف.
أنا ممتنة للحوار معكِ، وشكراً لهذه الفرصة يا أمل، ومن حسن الحظ أننا تشاركنا في ورشة للكتابة، واستمتعت بالحوار معك، عادة أستمع بإصغاء لحديث النساء، اليوم تبادلت الأدوار واستلمت دفة الحديث.
شكراً جزيلاً للفريق الإعلامي في الحركة السياسية النسوية السورية، ومن يدري ربما نلتقي يوماً لنتحدث عن وضع النساء السوريات في مرحلة جديدة أفضل من هذه المرحلة، وأن تصبح حواراتنا وجهاً لوجه.