أصوات نسوية، مقابلة مع وعد الخطيب
- updated: 11 مايو 2023
- |
أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري
مقابلة مع وعد الخطيب صحفية، وصانعة أفلام، وناشطة في مجال حقوق الإنسان
إعداد: رجا سليم
وعد الخطيب، عاشت في مدينة حلب ودرست الاقتصاد في جامعتها. بدأت بتوثيق المظاهرات السلمية في مدينتها منذ بداية الثورة السورية عام 2011، ثم باشرت العمل كمراسلة ميدانية توثق أخبار حصار حلب لصالح القناة الرابعة البريطانية News 4 عام 2016 ضمن سلسلة “داخل حلب” التي حصدت جائزة “إيمي” العالمية عن فئة تغطية الأخبار العاجلة. أنتجت فيلم “من أجل سما” وأخرجته بالشراكة مع إدوارد واتس، الذي ترشح لأربع جوائز “بافتا” في حفل توزيع جوائز الأكاديمية البريطانية السينمائية الـ 73، وفاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي، كما حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي في عدة مهرجانات دولية منها، “العين الذهبية” في مهرجان “كان” السينمائي الدولي، وترشح لنيل جائزة “الأوسكار” عن فئة أفضل فيلم وثائقي. إلى جانب الجوائز التي حصدها الفيلم، حازت وعد على تكريمات عن نشاطها الثوري وكانت ضمن قائمة مجلة تايمز لأكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم 2020. ما تزال وعد اليوم جزءًا من فريق القناة الرابعة البريطانية، كما تعمل كمدربة في شبكة “ماري كولفن” الصحفية و”المركز الدولي للصحفيين”.
أهلاً بكِ،
1. بداية عرفينا على وعد ما قبل بلوغ الثامنة عشر والانتقال إلى مدينة حلب لدراسة الاقتصاد في جامعتها. كيف كانت ظروف نشأتك، وعلى وجه التحديد العوامل التي مدّت وعد اليافعة بهذا القدر من الشجاعة التي رأيناها من خلال عملك الصحفي والوثائقي، والذي سنتطرق له لاحقاً؟
نشأت في بيئة تعتبر منفتحة، نوعاً ما، فيها خليط مختلف من الطوائف والطبقات. مع العلم أن العمل السياسي في سوريا قبل الثورة كان محظوراً، إلا أن عائلتي كانت منخرطة قدر المتاح ببعض الأنشطة السياسية كالمنتديات والاجتماعات، وهذا ساعد في تشكيل وعيي بمفهوم السياسية العام في سن مبكرة على عكس السائد في مجتمعنا. كنت المولودة الأولى لوالدتي ووالدي، وهذا برأيي أثر بشكل أو بآخر في شخصيتي ونمط حياتي. كانت عائلتي مختلفة عن معظم الوسط الاجتماعي المحيط فكنت أحظى، مقارنة بالفتيات الأخريات من نفس الوسط، بمساحة حرية لا بأس بها كانت من العوامل الأساسية في تعزيز جانب الشجاعة التي أشرتِ لها. أهلي كانوا متأثرين بالفكر الناصري للاتحاد الاشتراكي، ومن هنا تشكلت بواكير فهمنا لحزب البعث على سبيل المثال ودوره في شكل الحياة التي تعيشها البلاد. في هذا السياق؛ أحد الأمور التي أود أن أذكرها وأعتقد أنها أثرت بتشكيل وعي مبكر بالواقع السياسي في سوريا، هو يوم التنسيب لحزب البعث (الحزب الحاكم في سوريا حينها)، وزعت المعلمة علينا طلب الانتساب للحزب لنوقع على انضمامنا لصفوف الحزب، طلبت منها أن آخذ الورقة معي إلى البيت لكي استشير عائلتي قبل التوقيع، طبعاً نلت نصيبي من الشتائم من المدرسة، وبالفعل أخذت الطلب وتوجهت إلى البيت وكانت المدرسة قد اتصلت بوالدي واشتكت له من تصرفي. سمع والدي القصة من جهتي وقال لي: القرار يعود لكِ سواءً أردتِ التوقيع أم لا. كردة فعل على الموقف، رفضت الانتساب. هذا الموقف كان أول اصطدام لي بالحياة السياسية.
2. تزامن انتقالكِ إلى مدينة حلب بغرض الدراسة، مع اندلاع الثورة على نظام الأسد، وما لبثت أن تحولت المدينة لهدف لنيران الطائرات والمدافع، وحملات الاعتقال والترهيب. كيف تعاملتِ مع الواقع الجديد ولماذا اخترتِ البقاء في مناطق النزاع والانخراط بالعمل الثوري ووضع حياتك على المحك؟
عندما بدأت ثورة تونس عام 2010، تابعنا كعائلة أحداثها لحظة بلحظة وباتت محط اهتمامنا، طبعاً بدأنا نتحدث عن احتمالات قيام ثورة في سوريا، وسرعان ما كنا ننفي هذه الفرضية لاعتقادنا أنه من المستحيل أن يحدث حراك مماثل في سوريا بسبب القبضة الأمنية التي يحكمها النظام على البلاد. وباعتبار أن عائلتنا من حلب وامتدادها في حماة، فالمدينتان اختبرتا قمع النظام لحراك جماعة الإخوان المسلمين في مطلع الثمانينات. بدوري لم أكن أعرف الكثير عما حدث في الثمانينات لأن هذا النوع من الحديث كان أيضاً من المحظورات. بعد ذلك بدأت ثورة مصر وبتنا نستشعر بوادر حراك في سوريا، وكانت من أسعد اللحظات عندما سمعت عن خروج مظاهرة في كلية الآداب في حلب. لم أشارك فيها لأننا لم نعرف عنها قبل حدوثها والسبب، كما أخبرني أحد الأصدقاء لاحقاً، أن الدعوة للمظاهرة كان فيها نوع من المجازفة لاحتمال أن يكون الأمن قد نظمها ليوقع بالأشخاص الذين سيشاركون بها. المظاهرة التي تلت كنت على علم بها ففي تلك المرحلة بدأت أذهب إلى الجامعة يومياً من الثامنة صباحاً حتى التاسعة مساءً بخلاف عادتي أنا التي لم يكن ارتياد الجامعة روتيناً يومياً بالنسبة لي. المظاهرة الثانية كانت تضم أقل من 20 شخصاً هاجمهم عناصر الأمن فور إطلاقهم الهتافات. لم أشارك بأي شكل بهذه المظاهرة كنت أشاهد فقط في حالة صدمة ودهشة. بعدها بدأت المظاهرات تتزايد وكنت أشارك فيها وأصور مجرياتها. حتى اللحظة وبعد مرور 11 عاماً عندما أتذكر شعور وجودي بالمظاهرات أستعيد ذات الطاقة التي كانت تسري في جسدي، في ذلك الوقت عرفت أنني أنتمي لسوريا وللثورة.
بالنسبة للعمل الصحفي، كان حلمي أن أكون صحفية قبل الثورة، كنت أتابع مراسلتي قناة الجزيرة، جيفارا البديري والراحلة شيرين أبو عاقلة، وأحلم بأن أزور أماكن كثيرة في العالم وأحكي منها قصصاً، كنت أحلم أيضاً بأن أزور فلسطين وشعرت أن العمل الصحفي ممكن أن يحقق لي هذا الحلم. عائلتي بدورها لم تكن داعمة لفكرة دراستي للصحافة لذلك اتجهت لدراسة الاقتصاد. خلال المظاهرات وبشكل تلقائي أخذت الدور الإعلامي وبدأت بالتصوير، وفي نفس الوقت لم أكن أستطيع السيطرة على نفسي بأن اكتفي بالتغطية الإعلامية، فكنت أشارك وأهتف بالمظاهرات وأصور في نفس الوقت، وهذا يعتبر خطأ كبيراً تقوم به المراسلة أو المراسل خاصة في موضوع حماية الهوية، لذلك معظم مقاطع الفيديو التي صورتها في البداية لم تكن صالحة للنشر. في تلك المرحلة كانت تنسيقية جامعة الثورة تضم 500 شخص نجحوا بأن يخلقوا في ما بينهن/م مجتمعاً مصغراً موثوقاً. عند انتهاء العام الدراسي عام 2012 كانت عضوات وأعضاء التنسيقية أمام خيارين صعبين؛ إما إكمال الدراسة في حلب الغربية الخاضعة لسيطرة النظام أو الخروج إلى حلب الشرقية الخارجة عن سيطرة النظام والتوقف عن الدراسة. بالنسبة لي كان خياري واضحاً حيث قررت الخروج إلى حلب الشرقية لإيماني بالثورة، ولأن الأمل كان كبيراً بأن النظام إما سيسقط أو أن المعادلة ستتغير بطريقة ما لصالح الثورة. انتقلت إلى حلب الشرقية وقررت تطوير مهاراتي وتغطية الأحداث بطريقة احترافية، أول الأعمال التي ساهمت بإنتاجها كان فيلماً لصالح قناة أورينت بعنوان “قلعة حلب الثانية” يتناول الحراك الثوري لجماعة حلب، هذه المادة الإعلامية فتحت لي أبواباً للتدريب والتعرف على أشخاص محوريين في مسيرتي المهنية، من هؤلاء الأشخاص اليوم مفقودين أو مغيبين. في هذه المرحلة عشت في المشفى مع حمزة وشباب “الطبية” وبدأ يتضح لي أنني أريد العيش هنا والعمل هنا، طبعاً على أمل أن تكون المعادلة السياسية والجغرافية مختلفة، كان الأمل كبيراً بإسقاط النظام. أنا شخصياً أؤمن أن تسليح الثورة لم ولن يكن المخرج للوضع في سوريا، على العكس تماماً أنا أثق بأن الحلول السلمية هي الكفيلة بحل الأزمات، مع تفهمي للظروف التي دفعت إلى التسلح.
3. بدأتِ بتوثيق استهداف النظام والقوات الروسية للمشافي في حلب قبل حملك بطفلتك الأولى “سما”، وبعد علمك بأنك حامل في 2016 اتخذَت عمليات التوثيق منحى جديداً، أصبحتِ تصورين اليوميات كحكاية، تريدين لـ “سما” أن تراها بعينيكِ وتسمعها على لسانكِ، فلم تعد كاميرتك تصور بعين الصحفية والموثقة فحسب، وإنما بعين المرأة، والأم أيضاً. وعلى عكس الصور النمطية التي تحاصر النساء، ظهرت وعد قوية، ومتماسكة، ومتواجدة للمساعدة والتوثيق، بل ومرحة ومتفائلة في أحلك وأخطر اللحظات. حدثينا عما لم نره في فيلمك “من أجل سما”، عندما كنتِ تطفئين الكاميرا، وكيف مرّت أشهر الحمل التسعة، وتجربة الولادة، والاعتناء برضيعة وأنتِ حرفياً في مرمى النيران؟
تزوجنا أنا وحمزة في نهاية عام 2014، لم نكن ننوي الإنجاب بطبيعة الحال، لكن بعد أربعة أشهر من الزواج شعرنا بنوع من الاستقرار على الصعيد العاطفي ومن ناحية المجتمع الصغير الذي يحيط بنا، وباعتبار أنني وحمزة لم نكن نريد الخروج من البلد أو المنطقة قررنا أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي، حملت في عام 2015 وفي نهاية أشهر الحمل بدأ التدخل الروسي في سوريا وهنا أخذت الأمور منعطفاً قاسياً بكل معنى الكلمة. لم تكن فترة الحمل صعبة، أمضيتها في التصوير والتفكير بمستقبل المولودة، كيف سنتعامل معها؟ كيف سنربيها في هذه الظروف؟ لكن ما ساعدني هو تقربي من العائلات وخلق علاقات طيبة معهم والتعرف إلى أنماط الحياة العائلية في الظروف السائدة حينها. في هذه المرحلة تعرفت على عفراء وعائلتها. خلال الحمل كان يخالجني شعورين متناقضين؛ الضعف والقوة. في إحدى المرات ذهبت لتصوير مكان يتعرض للقصف، كانت مشاهد الدمار والإصابات قاسية جداً، في نفس الوقت كانت سما تتحرك في أحشائي، كنت أشعر بالحياة داخلي وسط كل الموت والدمار المحيط. قد يبدو الوصف أنانياً لكن كنت أرغب بالحياة بكل أشكالها ومظاهرها، أردت أن أتزوج وأن أنجب سما وأن أعيش في سوريا. قبل حملي بسما لم يكن هدفي من التصوير هو صناعة فيلم، لكن الحمل جعلني التفت لصوتي الداخلي، وبدأت بتصوير عالمي الداخلي حيث تتكون سما. كنت أحاول أن أشارك منظوري ومخاوفي وعلاقتي مع المحيط حولي، كنت أشعر أن الكاميرا وحدها يمكن أن تتيح لي حرية التعبير دون خوف ودون أن أنقل مخاوفي للآخريات/ن. كانت عملية التصوير، قبل أن تكون قصة موجهة إلى سما، تشعرني أنني أترك قصة ورائي، وفي حال لم أعد موجودة سيفهم من يرى الشريط ما حدث ويشاهد جزءًا من حياتنا، وسيسمع عن بطلات وأبطال قدموا الكثير لتحرير بلادهن/م، كالطبيبات والأطباء في المشفى، وعفراء في المدرسة، وعمال مجلس المدينة الذين كانوا لا يملون من تنظيف الشوارع رغم علمهم بأن القصف سيخلف دماراً جديداً. بعد ولادة سما، تجرأت على توجيه الكاميرا إلى نفسي وإلى أدق التفاصيل، بدأت أحكي أمامها لساعات وأشارك مخاوفي وأحلامي ومشاعري ومشاهداتي، سما جعلت من المكان الذي أعيش فيه حقيقة ملموسة بكل تفاصيلها. أما تجربة الولادة فقد كانت مميزة بكل تفاصيلها، تمت الولادة على يد الطبيب عبد الحي في مشفى القدس حيث كنت أقيم، كان ابنه “أبو مريم” من أعظم الناشطين في بستان القصر واختطفه تنظيم “داعش” عام 2013، أتذكر أيضاً الطبيب “أبو سعد” الذي رافقني منذ أول يوم لي بالمشفى، ابنته من نفس عمري ووقت ولادتي كانت هي قد ولدت في تركيا ولم يستطع رؤيتها. سمر وأحمد وعفراء كانوا إلى جانبي أيضاً، كل هؤلاء كانوا عائلتي في غياب أمي وأخواتي.
بعد العملية كنت تحت تأثير التخدير جزئياً، خرجنا أنا وسما إلى غرفة عمر وغيث ومحمود وأمجد، كانت على جدران الغرفة رسوم غرافيتي، فكرت بـ عمر وغيث اللذان استشهدا بالـ 2014، راودتني مشاعر مختلطة؛ امتنان لكل ما عشته خلال الثورة وللأشخاص الذين عرفتهم، وشوق لكل من فارقنا، وفرح بأنني ابنة هذه المشفى وقد وُلدت فيها حياة جديدة. بالتأكيد كان حمزة دائماً إلى جانبي وهذا أحدث فارقاً كبيراً. لاحقاً واجهت صعوبات لأن أمي لم تكن معي ولا أي فرد من عائلتي، بالمقابل كانت هناك “أم محمود” و”أم عادل” الطباخة في المشفى وشباب التمريض، كلهن/م كانوا يهتمون بسما.
4. سواءً في “من أجل سما” أم في سلسلة “من داخل حلب” التي صورتها لصالح قناة News 24، لتوثيق قصص القصف والحصار في حلب، رغم قسوة الواقع الذي توثقينه تكاد لا تخلو موادكِ المصورة من العناصر الجمالية المليئة بالحياة، كالنباتات والعصافير والضوء والألوان، حتى وسط الدمار والسواد تجدين مساحة للحب والأمل وتحرصين على إظهارها. حدثينا عن وعد المصورة، كيف ترى الواقع من خلال العدسة؟
الكاميرا كانت جزءاً لا يتجزأ مني، نادراً ما كنت أتحرك في تلك الفترة دون الكاميرا. المشاهد واللقطات التي ذكرتها تعكس ما كنت قادرة على رؤيته وسط كل مظاهر الحرب من حولي، بمعنى آخر الكاميرا كانت عين وعد الإنسانة الطبيعية التي لا يمكنها ألا تلتفت لزهرة في مشتل مجاور أو لأطفال يلعبون في الشارع أو لأي تفصيل حي في محيطنا. حتى في مرحلة مونتاج الفيلم، حرصت على أن نبقي على نقطة توازن فلا نقدم الواقع أسوداً بالكامل ولا وردياً بطبيعة الحال، الواقع كان مراً وحلواً على حد سواء، وما رأيته في الفيلم هو طريقة تعاملي مع الوضع وكيفية رؤيتي للأشياء. أنا وأشخاص كثر غيري استعانوا بالأشياء الإيجابية المحيطة بهن/م كأسلوب مقاومة للتغلب على الواقع الصعب.
5. في السياق ذاته، من المعلوم أن صناعة السينما كغيرها من القطاعات يسيطر الرجال على معظم مفاصلها، والإنتاج السينمائي العالمي (روائي أو وثائقي) الذي نعرفه اليوم قُدم لنا أغلبه من وجهة نظر رجال. في فيلم “من أجل سما”، نحن نرى الأماكن والأحداث والشخوص من وجهة نظر امرأة. إلى جانب الحالة التوثيقية، ماذا كانت أولوياتك في التصوير حينها، وما هي اللحظات أو الأشياء التي كنتِ تحرصين على فتح العدسة وتصويرها؟
في البداية لم أكن أفكر بالمادة المصورة كفيلم أو كجزء من مهنة أمارسها، كانت بالنسبة لي فعل تمسك بقضيتنا خاصة بعد خسارتنا لحلب واستكمالاً لما بدأته هناك. لاحقاً بدأت أفهم منظوري كامرأة صنعت هذا الفيلم. في بدايات عملي في حلب لم يكن هناك نساء غيري يخرجن مع كاميرات للتصوير، كانت معظم الإعلاميات يعملن في الإذاعة أو الكتابة، وغالباً ما كنت أسمع تعليقات من الأشخاص حولي من قبيل لماذا تصورين هذا المشهد أو ذاك، كنت أصر مثلاً على تصوير طاقم شباب الإسعاف ليس فقط في غرفة الإسعاف وإنما خلال لعبهم لكرة القدم في أوقات الاستراحة القليلة، هذا بالنسبة لي كان مظهراً من مظاهر الحياة. أما فيما يخص اللحظات العصيبة فهي كثيرة جداً، منها انقطاع الحليب والاضطرار لاستعمال بدائل تسبب مشاكل صحية للأطفال، وغيرها الكثير مما لا أرغب في استذكاره.
6. لم يتوقف دور “من أجل سما” عند عرضه في المهرجانات وحصوله على أهم الجوائز والترشيحات العالمية، بل انبثقت عنه حملات مناصرة للقضية السورية ولإيقاف القصف على المستشفيات، كما أصبح حضور صانعات وصناع الفيلم في المهرجانات الدولية فرصة للتذكير بسوريا وبالشعوب التي تواجه مصائر مشابهة. إلى جانب عرضه، كيف سخرتن/م الفيلم للتذكير بالمظالم التي ت/يواجهها السوريات والسوريون وغيرهم من الشعوب التي تخوض حروباً ضد أنظمة قمعية؟
منذ البداية كنت أريد أن يكون هذا الفيلم أكثر من تصوير للمعاناة السورية، بل أن يحمل موقفاً سياسياً واضحاً. لذلك بعد صدور الفيلم أطلقنا حملة “تحرك من أجل سما” أو “Action for Sama”، حاولنا استغلال أي مناسبة أو فرصة للتذكير بجرائم النظام وبالانتهاكات التي تمارس بحق شعوب أخرى. ما يشعرني بالسعادة أن دورة حياة الفيلم لم تتوقف بعد عام من عرضه كما يحدث عادة، فما زال لغاية اليوم يطلب للعرض ويشاهد ويثير تفاعل الناس.
7. في السنوات القليلة الماضية، تحدثتِ أمام “مجلس الأمن”، وفي “قمة جنيف لحقوق الإنسان والديمقراطية” وفي محافل ومناسبات دولية عدة. خاطبتِ مجلس الأمن كـ ” ناشطة، وأم، ولاجئة، وصانعة أفلام، وناجية من جرائم ضد الإنسانية”، قلتِ لهم “أين دوركم؟”. برأيكِ ما هو دور المجتمع الدولي اليوم في القضية السورية، وما هو دور المعارضة السورية الرسمية، وهل يمكن أن يكون للسوريات والسوريين دوراً في التغيير بمعزل عن الأجسام الرسمية، الدولية منها والمحلية؟ كيف؟
الوضع في سوريا معقد لكن هذا لايعني أنه لا يوجد حلول، أنا كفرد بموقعي وبحجم خبرتي السياسية غير قادرة على تقديم حل لكن بنفس الوقت، وعلى الأرجح لأنني شخص مهجّر، لا يمكنني إلا التمسك بالأمل لأكمل حياتي. برأيي لو أرادت القوى الدولية أن تضع نهاية لما تمر به سوريا لفعلت، وعندي إيمان، يمكن أن تعتبريه ساذجاً، أن السوريات والسوريين يجب أن يقودوا هذا التحرك جنباً إلى جنب مع صانعات وصناع القرار السياسي. نحن كناشطات وناشطين لا نصنف أنفسنا كسياسيات وسياسيين وغالباً ما نترك الساحة لأهل السياسة، لكن التجربة بينت أن هذا التنحي عن الانخراط بالفعل السياسي خلق فراغاً من الفئة الشابة عن طاولة الحوار والمفاوضات. من جهة أخرى؛ أي نشاط يقوم به أي شخص اليوم من موقعه/ا باتجاه الحل هو بمثابة دعامة صغيرة لبناء المستقبل الذي نريده. ومهما كانت خيارات الحل إن لم يكن رحيل الأسد أولها فهي غير مجدية، وعلى ما يبدو أن لا رغبة للقوى العظمى برحيله الآن. أكرر أن ما يدفعني لمواصلة نشاطي هو الأمل، وذهبت إلى المحافل الدولية التي تحدثت فيها للمشاركة وليس لدي أدنى إيمان بأن شيئاً سيتغير. أحياناً يتجدد إيماني بحدوث التغيير. كل ما يمكننا فعله الآن هو تعزيز الحوار بيننا وتطوير آليات العمل والحشد لقضيتنا، وكل هذا لن يتم بدون إيمان بالقضية وأمل بالمستقبل.
8. “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة“، عبارة كُتبت على حائط في مدينة درعا عام 2019، واخترتِ ارتداء فستان يحمل العبارة ذاتها لحضور حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 2020. لاقى هذا الشعار تفاعلاً لم يقتصر على الأوساط السورية، وشاركه العديد من مشاهير العالم. بالمقابل، انتقد البعض الشعار واعتبروه رومانسياً، معللين أن ما آلت إليه أوضاع السوريات والسوريين بعد القتل والتهجير والاعتقال والتجويع لا يمكن وصفه بـ “الكرامة”. كيف تردين على هذا الطرح؟
العبارة كانت جملتين منفصلتين، “لن نندم على الكرامة” كانت مكتوبة على حائط في درعا و”تجرأنا على الحلم” مستوحاة من حدث حصل خلال الثورة. العبارة حققت صدى واسعاً عند الكثير من الناس، البعض شعر أنها تمثله/ا والبعض الآخر اعتبرها رومانسية بعيدة عن الواقع. شخصياً؛ أتفهم هذا الاختلاف بالتلقي وهذا شيء طبيعي، كل شخص لديه منظور للأمور ويستقبل أي طرح على أساسه. في الوقت الذي ترشح “من أجل سما” للأوسكار كان هناك احتمال أن يفوز الفيلم بالجائزة لكن الاحتمال الأكبر كان عدم الفوز، لذا قررت أن أستغل وجودي هناك لتسليط الضوء على القضية السورية بالصوت والصورة وبأي طريقة ممكنة.
فكرنا كثيراً أنا وصديقاتي وأصدقائي بعبارة تمثلنا كسوريات وسوريين وقررنا كتابتها على الفستان الذي سأظهر به خلال حفل توزيع الجوائز، وفعلاً نفذنا الفكرة واستطعت رغم ضيق الوقت أن أمشي على السجادة الحمراء في هذا الحدث، الذي تلتفت إليه أنظار العالم، وأنا أحمل عبارة تمثلني وتمثل أشخاصاً غيري. أنا مقتنعة أن ثورة السوريات والسوريين هي ثورة كرامة، رغم المعاناة التي طالت الجميع، أنا فخورة أننا تجرأنا على الحلم بأن يكون لدينا بلد تحترم مواطناتها ومواطنيها. باختياري للعبارة لم أكن أقصد الإساءة لأحد أو الاستخفاف بأحد، ممكن أن تكون الجملة رومانسية لكن هكذا الأفعال الثورية ممكن أن يكون بعضها رومنسياً، وفي النهاية لكل شخص الحق أن يتفق أو يتعارض مع هذا الطرح.
9. شاركتِ العام الفائت خبر نيل صديقتك “عفراء هاشم” لدرجة الماجستير من جامعة بريطانية، وعبرتِ عن مدى فخرك بعفراء التي رأيناها في فيلم “من أجل سما” امرأة قوية، وداعمة لعائلتها، وباعثة على البهجة والتفاؤل. رأينا أيضاً مبادرتها في تأسيس مدرسة لتعليم الأطفال خلال فترة حصار حلب، و نشاط تلوين وسائل النقل المتعطلة بفعل القصف، بألوان زاهية. نستطيع القول إنها قاومت بشاعة الحرب وماتنشره من خراب وجهل بالعلم، وأضافت ألواناً على واقع صبغه دخان الحرب بالسواد. حدثينا أكثر عن عفراء المقاوِمة، وعن علاقتكما بعد الخروج من حلب.
عفراء اليوم صديقتي وعلاقتنا متينة جداً، والحمدلله استطعنا بعد عرض الفيلم دعوة عفراء للقدوم من تركيا إلى بريطانيا لحضور حفل توزيع الجوائز السينمائية، البافتا، وبعدها انتقلت مع عائلتها للإقامة في بريطانيا. بالعودة لبداية علاقتي بها، كنت أصور في إحدى المدارس التي أسستها عفراء وكانت تعمل بها وهناك تعرفنا وأصبحنا صديقتين. عشنا ظروفاً صعبة ولحظات حلوة، اختبرنا القصف والدمار والجوع واليأس والتفاؤل وحاولنا خلق نشاطات معاً. عفراء رفيقة درب وعلاقتي بعائلتها قوية جداً أيضاً. كانت جارتي في حلب و في تركيا واليوم هي جارتي أيضاً. استطاعت عفراء بالرغم من صعوبات اللغة وتحمل مسؤولية ثلاثة أطفال في مكان جديد كلياً أن تتابع دراستها وتنال درجة الماجستير، نجاحها هذا لم يكن دفعة أمل لها ولعائلتها فقط بل لكل من حولها. أنا كنت محظوظة، منذ فترة إقامتي في حلب حتى اليوم، بالنساء الداعمات العظيمات من حولي. أفتخر بهن، وأتعلم منهن، وممتنة لوجودهن في حياتي.
10. أتاح لنا “من أجل سما” فرصة التعرف على الطبيب “حمزة الخطيب”، وتسخير وقته للمشفى الميداني الذي أسسه في ظل الحملات العسكرية والحصار على المدينة، كما تعرفنا على تفاصيل قصة الحب التي جمعتكما وتكللت بالزواج. حدثينا عن اختبار مشاعر الحب في ظل أجواء حرب يسودها كل ما هو معاكس ومعاد للحياة وللحب.
أسئلتك كلها على الوتر الحساس وتستحضر المشاعر الجياشة، تعرفت على حمزة بالمظاهرات في جامعة حلب، كنا قبلها نتواصل على إحدى مجموعات التنسيق على “فيسبوك” بدون أن نعرف أننا نفس الشخصين الذين يتقابلان في الجامعة. حمزة بالنسبة لي هو من الأشخاص الذين يختصرون الثورة بكل تعقيداتها وحلوها وقساوتها، وفي نفس الوقت هو شريكي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. هذا الشخص المبتسم طوال الوقت، صاحب إيمان مطلق بالثورة وبنفسه وبمن حوله وبالحياة بشكل عام. حمزة لطيف جداً وصلب في نفس الوقت، كان يستفزني في بعض المواقف كيف يمكنه الثبات والهدوء في أصعب اللحظات وأسوأ الظروف. حمزة رفيقي وحبيبي، كان في سنوات الثورة هو عائلتي. عندما خسرنا حلب لم تكن خسارتي كلية لأنه كان معي، واستطعنا معاً خلق حلب صغيرة في بيتنا. باختصار حمزة هو ثورتي الشخصية التي استطعت أن أحميها بشكل أو بآخر.
11. في أحد مشاهد الفيلم قلتِ لـ “سما” وهي ما تزال جنيناً في رحمك، “سما إنتي أحلى شي صار بحياتنا بس شو هالحياة اللي جبتك عليها؟ إنتي ما اخترتي هدا الشي. رح تسامحيني؟”. اليوم “سما” بعمر السبع سنوات تقريباً، ماذا أخبرتها عن سوريا، وعن فترة الحصار التي عاشت جزءًا منها في حلب؟ وفق ما يسمح سنها بالطبع.
اليوم أنا عندي ابنتين سما وتيما، أتمت سما عامها السابع وتيما عمرها خمس سنوات ونصف، كلاهما تعرف الكثير عن سوريا وعن بعض ما حدث بطريقة مبسطة، تعرفان أن في سوريا وحش اسمه الأسد. لم تدركا فوراً أنه إنسان أو كائن موجود فعلاً، أريتهما صورته وصورة عائلته وشرحت لهما أن الوصف مجازي ومرتبط بأفعاله، حدثتهما عن حلب وبعض ما حل بها. لا أنكر أننا نحمل تروما (صدمة) ونعيش في مجتمع جديد، لكن أحاول دائماً أن أترك لهما المجال بأن تعيشا وفقاً للواقع الجديد. الموضوع معقد مع الأطفال، أريد لهما أن تعرفا بالتدريج خلفية عائلتهما، وبنفس الوقت أن تستمتعا بطفولتهما وحياتهما هنا.
12. أنتِ والدكتور حمزة من أبرز النشطاء في القضية السورية، وتشغل هذه القضية حيزاً كبيراً من حياتكما العملية والشخصية، بينما سما وتيما، وغيرهما من الطفلات والأطفال، ممن غادرن/وا سوريا صغاراً أو ولدن/وا خارجها، ليس لديهن/م ذاكرة عنها. هل لديكما سردية معينة تودان أن تعرفها طفلتاكما عن بلدهما الأصل؟ أم ستتركان لهما خيار التعرف إلى سوريا وبناء العلاقة معها_أو عدمه_ وفق ما يناسبهما؟
هذا السؤال نسأله لأنفسنا باستمرار، هل طريقة تعاطينا مع الموضوع وتقديمه لسما وتيما صحيحة أم خاطئة، والإجابة على هذا السؤال تحتمل نظريات مختلفة في كلا الحالتين يمكن أن نكون مصيبين أو مخطئين، لكن من تجربتي كطفلة كنت أتمنى لو سمعت من عائلتي أكثر عن بعض الأحداث المهمة التي حصلت في سوريا مثل ما ذكرت سابقاً، مجزرة حماة، فأنا كأم تقع عليَّ مسؤولية مشاركة طفلتي بمعلومات عن بلدهما كجزء من سردية تاريخية سيواجهانها في المستقبل، لكن بطريقة تتناسب مع كل مرحلة عمرية تمران بها.
13. عطفاً على السؤال السابق، برأيكِ، هل يجب أن نتوقع موقفاً أو التزاماً معيناً من طفلاتنا وأطفالنا تجاه القضية السورية على المدى الطويل؟ لماذا/لماذا لا؟
من جهتي أرغب أن يكون لديهما على الأقل وعياً بما حدث، السؤال إن كان على الجيل الصغير اليوم أن يحمل القضية معه على المدى الطويل، لا أعلم لكن أتمنى. القرار في النهاية سيكون لكل شخص منهن/م عندما تكبر أو يكبر ويحدد اهتمامته/ا. لطالما سألت نفسي: هل ستسامحني سما على بقائي في حلب وتعريض نفسي وتعريضها للخطر؟ والسؤال الذي كان يرافقنا في كل لحظة: هل سننجو؟ وما يؤلمني أكثر التفكير باحتمالية أن يأتي يوم وتلومني على خروجي من حلب.
14. تجربتكِ المهنية والشخصية على مدار العشر سنوات الفائتة تحتّم عليّ سؤالك عن تعافيكِ وسلامكِ النفسي بعد ما اختبرته، سواءً خلال وجودك في حلب في فترة الحصار، أو بعد الخروج، في مرحلة صناعة فيلم “من أجل سما” وظروف مشاهدة فصول التجربة مراراً وتكراراً كمادة مصورة تحمل قدراً كبيراً من القسوة والفقد الجماعي والشخصي. هل تجدين الوقت اللازم والمصادر والدوائر المناسبة لمساعدتك على تخطي تلك المرحلة؟
في هذا الموضوع كما قلت لكِ سابقاً أنا محظوظة جداً بالأشخاص من حولي ابتداءً من حمزة، لعائلتي، وصديقاتي وأصدقائي، خاصة شخص مثل عفراء مثلاً، اختبرت الحياة التي عشتها في حلب فلا أشعر بحاجة لأن أشرح لها تفاصيل لتفهم ماذا أشعر، من جهة أخرى الفيلم ساعد بإيصال جزء من صورة الوضع الذي كنا نعيشه خاصة في دوائر عملي وعلاقاتي الاجتماعية في المكان الجديد، فحتى لو لم يكونوا على دراية بحقيقة التجربة بإمكانهم على الأقل توقع أثر هذه التجربة علينا وعلى كل من مروا بظروف مشابهة. وأنا مؤمنة أيضاً بأهمية العلاج النفسي، وجربت الخضوع لجسات العلاج عدة مرات، صحيح أنني لم ألمس نتائج إيجابية واضحة لكن أريد أن أكرر المحاولة لإيماني أننا اليوم كأشخاص مهجرين وعاشوا تجارب حرب قاسية علينا جميعاً أن نتكلم ونعبر عن مشاعرنا ونشتكي ولا نتظاهر بأن كل شيء على مايرام، من حقنا وواجبنا أن نستمع لبعضنا وألا نقسو على أنفسنا وعلى من حولنا.