العنف السياسي والنساء
- تاريخ النشر: 25 نوفمبر 2021
- |
*هوازن خداج
على مرّ العصور شكل العنف ضد النساء الجريمة الكلاسيكية الأوسع في تاريخ العنف الإنساني، وفي دول العالم كافة، فحماية المرأة التي تناولتها المواثيق الدولية في اتفاقيات جنيف الأربعة 1949 وبروتوكولاتها الإضافية 1977 لم تشكل رادعاً قوياً لإيقاف الاعتداء على النساء، واتجهت المطالب لفترات طويلة نحو إزالة كابوس العنف الجسدي/الجنسي، الذي يطال “ثلث سيدات العالم” حسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2015، لما له من آثار جانبية مدمرة. فالقائمة الطويلة للعنف الموجّه ضدّ النساء تتطلب الكثير من الوقت والجهد ورفع الوعي بحجم المشكلات المرتبطة بالعنف مهما اختلفت أشكاله للحدّ منها، وبشكل متفاوت حول العالم. وهذا كان السبب خلف اختيار يوم 25 تشرين الثاني للقضاء على العنف.
لماذا 25 تشرين الثاني؟
لم تكن الأيام التي اختارتها الأمم المتحدة لمناسبات تخصّ النساء أياماً عابرة في التاريخ، حيث يعود هذا التاريخ إلى العام 1960 وعملية الاغتيال الوحشية للأخوات (ميرابال) الناشطات السياسيات في جمهورية الدومينيكان، بأوامر من ديكتاتور الدومينيكان رافائيل تروخيلو (1930 – 1961). وفي عام 1981 حدد النشطاء في منظمة «Encuentros» النسائية بأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي يوم 25 تشرين الثاني بأنه يوم مكافحة العنف ضد المرأة وزيادة الوعي به، وفي 17 كانون الأول 1999 أصبح التاريخ رسمياً بقرار الأمم المتحدة. فتاريخ العنف وزيادة الوعي به لا يكفيه يوم في بعض البلدان، بل يعادل حفر الصخرة بالإبرة، خصوصاً حين يكون القفز فوق مطالب وحقوق النساء أمراً سهلاً وطبيعياً.
بلدان تحتفظ بالحق في العنف ضد النساء
داخل دول استساغت الخضوع للتشريع المجتمعي المتوارث، الذي يحفظ حقوق الذكورة، وتشكلت على منظومة التراتبية الحادة المجتمعية- السياسية، تتشابه أوجه الانتهاكات ضد النساء، وتبقى النساء عرضة لكافة أشكال العنف (المباشر والرمزي) من العنف المنزلي والتربوي والاجتماعي انتقالاً إلى الثقافي والإعلامي وصولاً إلى الاقتصادي والسياسي، لتتشكل منظومة واحدة تمتد من الأعلى للأسفل وبالعكس، لتحطيم أي مطلب للنساء، وإبقائها رهينة الأسر الطويل وسلاسل مجتمعات أبوية، ترفض الاعتراف بالمرأة بوصفها كائناً له من الحقوق والواجبات بما يتناسب مع فكرة المواطنة والإنسانية. وعلى الرغم من التقدم المزعوم في دولة كالدولة السورية وإقرارها بعض الحقوق، لكن ما قُدِّم بخصوص النساء لا يتعدى كونه مظهراً تزيينياً وخادعاً أرادت السلطة إظهاره؛ ففي دولة تقوم على الديكتاتورية الشمولية لن يكون هناك مواطنون بل رعايا، وفي مجتمع يرى في العنف ضد النساء حقاً من حقوق ذكور الأسرة حتى أصغرهم سناً، وسلطة سياسية لم تضع له حداً، سيبقى اتجاه التفكير بأن الرجل أصلح من المرأة في إدارة شؤون الحياة، وهو الأقدر على اتخاذ القرارات والأنجح اقتصادياً وسياسياً، فهو مدير الشركة والمؤسسة والمنظمة وهو قائد الحزب وله كل الحق باستلام السلطة، وهذا كله تأصل في أفكار المجتمع وأحياناً أذهان النساء، فمناصرة التراتبية ووضع الرجال بمرتبة أعلى من النساء، لا تخلو من مناصرة أبوية المجتمع وحفظ الحق بالعنف بكافة أشكاله وتلويناته التي تتأسس على عنف الأقوى ضد الأضعف، وتأخذ مسارات مختلفة حسب معيار القوة/الضعف، ولكن مهما اختلفت معاييرها فإنها تنعكس على النساء، وتزيد الصعوبات التي يواجهنها لتفتيت هذه البنية المقاومة لفعل الزمن وتطورات مفهوم الحقوق، وستبقى السوريات تحفرن في الصخور لتفتيت ما تراكم حول مسألة حقوقهن كلها غير منقوصة وقائمتها الطويلة.
العنف السياسي والنساء
منذ انطلاق النضالات النسوية في العالم، مثلت مسألة استثناء النساء من خوض مجال السياسة واعتبارها حكراً على الرجال أحد أوجه نضالهن الطويل لنيل حقوقهن، وتفكيك ما ثبت من ترسبات المجتمعات الأبوية، التي تعتبر أن حقوق الأفراد تحددها مزاياهم الاجتماعية (المنزلة، والطبقة..)، وما ترتب عليها عبر عصور ماضية، ساهمت في تثبيت توازن المجتمعات، من خلال جماعة المواطنين التي كونت طبقة بذاتها وحرمت أكثرية السكان منها، كالأجانب والعبيد والنساء اللاتي لم يُؤهّلهن موقعهن ضمن تسلسل هرمي راسخ الجذور لأن يصلن لحقوقهن؛ فحقوق الضعفاء لا ينبغي أن تكون مساوية أو قابلة حتى للمقارنة مع ما يتمتع به الذكور، هذه السردية تبدو مشابهة في يومنا لسردية “ناقصات العقل” التي ما زالت تحكم على النساء أن يكن بمرتبة أقل، ويتم إقصائهن بشكل قصدي عن بلوغ أي منصب، وإن استطعن الوصول إليه فهو لن يحميهن من التهديد والتشهير والتحرش الجنسي والمقاطعة الاجتماعية والإكراه.
فالعنف السياسي ضد المرأة تعريفاً: هو شكل من أشكال العنف الذي يمارس ضدها، وهو عنف ممنهج وموجّه، تُسلب المرأة من خلاله حقها في التعبير عن رأيها السياسي؛ كالترشح في البرلمان أو المجالس البلديّة أو في الأحزاب السياسية.
وهذا العنف غالباً لا يتم بشكل مباشر، بل يأخذ شكلاً رمزياً، فالنساء الخاضعات لمنظومة الإبعاد بوصفهن عاجزات عن اتخاذ دور فاعل، والمقصيات عن دورهن الاقتصادي والاجتماعي هن نساء معنفات، وخائفات من المبادرة لما يتبعها من عنف خطابي أو إعلامي يستند على تمايزها الأنثوي ويتجه نحو تشويه سمعتها لإخضاعها، متحولاً لعنف مباشر ضدها، مما يؤثر على استعدادها وقدرتها على الانخراط في الحياة السياسية، ويشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان والعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي أخذ أحد مقاييسه في نسبة تقدم مشاركة النساء في الحياة السياسية، وإلى يومنا حسب تقرير الأمم المتحدة يوجد حول العالم حوالي 27 دولة تشكل النساء فيها أقل من 10 بالمئة من البرلمانيين، هذا النقص في التمثيل مستمر على الرغم من زيادة عدد البرلمانيات الوطنيات من 11.3 بالمئة في عام 1995 إلى المستوى الحالي البالغ 24.3 بالمئة.
ويتخذ العنف السياسي في سوريا كلا النوعين الرمزي والمباشر قبل الحرب وبعدها، فالإقصاء للنساء مسألة تاريخية لا تزال مسيطرة، ولها تنظيمها المجتمعي الديني والسياسي، فالدولة السورية التي كانت أول دولة عربية تمنح المرأة حقها السياسي بالانتخاب والترشح، والدولة 24 على مستوى العالم، لا تزال تتبنى قوانين تُقرّ بدونية المرأة، وحقوق الرجال بإخضاع النساء، ودساتير تحمي التمييز بين النساء والرجال وتخفيض حقوق النساء بدل تقويتهن. فالنساء اللاتي حققن نسبة 12% في مجلس الشعب، أو صرن وزيرات ونقابيات على أهمية وجودهن الرمزية وضرورة وجودهن، بقين هامشيات كما كافة أعضاء المجلس ضمن نطاق السلطة الديكتاتورية، وبقي وجودهن تحقيقاً لأغراض ومكاسب تجميلية ودعائية لا تتعلق بتمكين النساء السياسي، بحيث تعد مكاسباً يُبنى عليها، في ظلّ ثقافة تقليدية متحيّزة ضدّ المرأة، وضمن واقع ممجوج بالتناقضات والموقف المتحفظ من تحرر النساء ومشاركتها في الحياة العامة، بل وبقاء النساء القياديات والفاعلات في أي موقع أو مجال عرضة لتشويه ما تقمن به سواء بالسخرية واعتبار ما يقدمنه أمراً تافهاً، أو بممارسة الضغط المباشر عليهن وعزلهن للانسحاب من مواقعهن والاختباء خلف أسيجة الأسرة والمجتمع، أو غيرها من ممارسات تسقط عنهن حق المطالبة وأخذ دورهن كما الرجال. وتبقى متعلقة بقرارات سياسية في نظام الدولة وذلك لإبراز نوع من الاعتراف المقنّع بحقوق المرأة للاستهلاك الخارجي، ولا يلغي أنهن ملكاً لغيرهن ومصدراً للتلاعبات السياسية والدينية والتجارية.
إسقاط قوائم العنف والحقوق السياسية
في الأعوام الأخيرة، انتشر النشاط النسائي- النسوي السياسي في مختلف أنحاء العالم، سواء على الإنترنت أو في الشوارع، ورفعت ملايين النساء أصواتهن وطالبن بالتحرك ضد الإساءة الممنهجة والتحرش والتمييز. تُرجم هذا النشاط في بلدان عديدة ضمن صناديق الاقتراع، وزيادة أعداد النساء المرشحات للمناصب إلى أرقام لم تصل إليها من قبل، وشمل ذلك بلدان مزقتها الحروب كما في أفغانستان والعراق، وسجلن تقدماً في الساحة السياسية؛ فتمثيل النساء في السياسة ليست قضية عدالة فقط إنما استعادة لتوازن المجتمع، فمسألة التنوع بين الجنسين في القيادة يتماشى مع زيادة الرعاية الاجتماعية والحدّ من العنف والإقصاء وانخفاض مستويات الفساد في البلدان ذات النسبة الأعلى من المشرعين النساء، بحسب الدراسة التي أجراها عالما الاقتصاد تشاندان جها وسوديبتا سارانجي، وشملت ما يزيد على 125 دولة.
إلا أن هذا التوازن لا يمكن تحقيقه في بلد كسوريا خصوصاً في المرحلة الحالية التي تبدو أكثر سوداوية، فهناك العديد من النضالات التي تحتاج أدوات عديدة لا تقتصر على الوصول لمجلس الشعب والوزارات والمناصب وتحقيق “الكوتا” بكافة المجالات فقط، كونها لا تكفي وحدها للحدّ من أشكال العنف المحمولة على عقلية ذكورية متغلغلة، حتى عند من يدّعي التحرر والعمل لشق الطريق نحو حداثة الدولة المدنية، أو عند بعض النساء اللاتي يعتبر العنف الأسري والمجتمعي الموجه ضدهن هو حق للذكور، وهذا فرض أن يكون حراك النسويات واسعاً وواضحاً بخصوص مطالبهن، يعتمد في حده الأدنى على إقرار قوانين صارمة تحدّ من العنف ضدّ النساء بأي شكل أو توصيف، ويتطلب في حده الأعلى بناء دولة علمانية ديموقراطية تحترم المواطنين/ات وتعمل فعلاً لا قولاً على تمكين النساء جميعاً، فأزمنة الشعارات فككتها الحرب وأسقطها العنف المختلف والممارس من جميع أطراف الصراع ضد السوريات.
منذ بدايات النضال النسوي شكل وضوح المطالب ووضوح التحليل عماداً في تمكين النساء وتقدم مطالبهن، وتجلّى ذلك برفض النسويات الحدود الفاصلة بين الخاص والعام، فالحياة الخاصة “المُنتهكة” من قبل الأسرة والزوج والقانون هي حياة عامة (لا إنسانية)، فأسطورة التفوق الذكوري وإقصاء النساء أنتجتها السياسة وتحالفات الذكور من الأسفل للأعلى أولاً وبالعكس، ومسألة الإقصاء هي مسألة اجتماعية ثقافية دينية – سياسية، وأن مواطنية النساء تقوم على اسقاط التشابكات بين هذه الأطر جميعاً، ورغم أنها تظهر في الواقع السوري كمسار طويل وكل يوم فيه يشابه نسبياً 25 نوفمبر الذي كان تسجيلاً لمأساة الاغتيال الوحشية لسياسيات، ولكنه ليس مساراً مستحيلاً إذا وضعت النسويات قواعد لفعلهن وبناء تحالفاتهن وائتلافاتهن الواسعة معاً لدعم بعضهن وإعلاء أصواتهن المطلبية الحقوقية في كافة المجالات، واعتبار أي إقصاء متعمد ولأي سبب وأي اعتداء حتى لو كان رمزياً ومهما كانت حجته؛ هو اعتداء سافر يجب التصدي له، فمسألة إقرار الحقوق لا تتجزأ بالنسبة للنساء، وإيقاف العنف السياسي ضدهن يحتاج ضمانات الحماية الفائقة بإقرار قوانين إنسانية وضد العنف بكافة أشكاله.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية