سوريا اقتصاديًا بعد عقد من الحرب
- updated: 1 يونيو 2021
- |
*سلمى دمشقي
بعد عشر سنوات عجاف مرت من الحرب على سوريا وشعبها، وبالنظر إلى ما آلت إليه أحوال الشعب من تدهور وفقدان لأبسط مقومات الحياة، علينا أن نعيد قراءة الوضع السوري خلال هذه السنوات العشر من وجهة نظر اقتصادية، لنرى كيف تكون السياسة تعبيرًا مكثفًا عن الاقتصاد.
عند خسارة النظام لمصادر الإيرادات الأساسية (النفط والغاز والسياحة خلال السنوات الماضية) نتيجة لخروج مناطق كثيرة عن سيطرته، بدأت الحكومة تتخلى عن مسؤولياتها الاجتماعية بتحرير أسعار بعض السلع ولا سيما المحروقات، حيث شهد الإنفاق على الدعم تراجعًا مطّردًا من 20.2% في 2011 إلى 4.9% في 2019، كما تراجع الإنفاق على مخصصات التنمية من 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2011 إلى 2.9% في 2019. كما لجأت الحكومة أيضًا إلى زيادة حصة الدين العام الإجمالي لتزيد نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي من 30% في عام 2010 إلى 208% في عام 2019.
ولمواجهة هذا النقص الحاد في الإيرادات لجأ النظام بداية إلى إيران لتأمين الدعم المالي وتعويض النقص الحاصل في مواد الطاقة والعملة الصعبة والسلع الأساسية، فوقّعت الحكومة السورية مع الحكومة الإيرانية اتفاقات مالية خلال الفترة 2013-2017 تقضي بمنح إيران خطوطًا ائتمانية للنظام وصلت قيمتها إلى حوالى 11 مليار دولار، تسلّم إيران بموجبها لسوريا منتجات نفطية بواقع مليوني برميل شهريًا ومواد غذائية وطبية وعملة صعبة لدعم الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي.
توقفت خطوط الائتمان بين البلدين في 20 تشرين الأول 2018، لتشهد سوريا منذ ذلك التاريخ أزمات نفطية خانقة، تبعتها حزمة إجراءات تقشفية، وزيادة كبيرة في أسعار المشتقات النفطية حيث استغلّت إيران حاجة سوريا الماسّة إلى العملة الصعبة والمواد الأساسية، وابتزت النظام للحصول على مزيد من الامتيازات المالية والاستثمارات.
أيضا خلال هذه السنوات ارتبط الاقتصاد السوري بلبنان عبر الأرصدة البنكية للسوريات/ين في المصارف اللبنانية، واستخدام لبنان بوابةً لتنفيذ صفقات واستيراد سلع ومستلزمات إنتاجية، حيث قُدّر حجم ودائع القطاع الخاص السوري غير المقيم لدى المصارف التجارية اللبنانية بـ 32.5 مليار دولار في نهاية عام 2019، معظمها لمواطنات سوريات ومواطنين سوريين يستفيدون من الفوائد عليها وينفقونها، سواءً في لبنان أو ينقلونها إلى سوريا ضمن مبدأ حرية تحويل الأموال المعمول به في لبنان، لكنّ تلك التحويلات توقفت مع القيود المصرفية على السحوبات التي تم فرضها منذ 17 تشرين الأول 2019، ودخول لبنان في أزمة مالية خانقة.
آمال النظام بلعب دور المنتصر والبدء بإعادة الإعمار بعد نجاحه بإعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية التي كانت خارج سيطرته تلاشت، مع قيام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات جديدة، إذ عملت على تقييد تحركات الدول الساعية لإعادة الشرعية إلى النظام ومساعدته ماليًا. فبدأ عام 2019 بفرض عقوبات أوروبية على شركات إنشائية ورجال أعمال لهم علاقات بالنظام، ليبلغ بهذا عدد الشخصيات السورية المشمولة بالعقوبات الأوروبية 270 شخصًا إضافة إلى 72 كيانًا. وتتالت العقوبات خلال 2019 من الولايات المتحدة وأوروبا ضد النظام وإيران ولبنان، وبات وصول ناقلات النفط الإيرانية إلى الموانئ السورية أمرًا بالغ الصعوبة، من جراء العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران والمساعدات الإيرانية المرسلة إلى سوريا. وانتهى العام بقانون قيصر الأميركي الذي فتح فصلًا جديدًا في تضييق الخناق على الاقتصاد السوري والنظام، حاملًا عقوبات هي الأقسى على الإطلاق ضد كل فرد وكيان ودولة تساعد النظام في إعادة الإعمار.
هناك عوامل كثيرة أدت إلى انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار بعضها محلّي وبعضها الآخر خارجي، ومن بين العوامل المحلية انهيار الناتج المحلي الإجمالي وتقلص الإيرادات العامة واستنزاف الاحتياطي الأجنبي، فضلًا عن اعتماد التمويل بالعجز وزيادة الدين العام الغير متناسب مع الإنتاج والنشاط الاقتصادي، وهو ما رفع كتلة الليرة المتداولة بأكثر من 280% من عام 2010 إلى 2016، إضافة إلى تخصيص الموارد على العمليات العسكرية وآثار ذلك في التجارة الداخلية والنقل والأسعار والطلب المحلي، ومن بين العوامل أيضًا محدودية سوق الصرف السورية، من خلال استجابتها لتقلبات الطلب والعرض وقابلية الليرة للعوم على العملات الأقوى. كما أن أغلب العمليات التجارية الكبرى تنفذ عبر الدولار، فضلًا عن تحول كثير من نشاط قوى السوق إلى عمليات استيراد وتهريب ومضاربة حيث يقدر حجم الربح اليومي من عمليات تحويل الليرة إلى دولار بمليار ليرة.
أما العوامل الخارجية والتي تم التنويه إليها سابقًا، فهي الأزمة المالية التي ضربت لبنان مع نهاية عام 2019 وفرض قيود على تحويل الأموال، وقانون قيصر الذي فرضته الولايات المتحدة وقد سرى تنفيذه في 17 حزيران 2020.
اقتصرت سياسات حكومة النظام على الدفاع عن الليرة في تشديد القبضة الأمنية عبر إغلاق شركات الصرافة، والتضييق على المتعاملين بغير الليرة السورية، وإجراءات إسعافية مثل تحديد قائمة بالمستوردات ذات الأولوية لضبط تسعير السلع المستوردة والحد من التلاعب بالأسعار والتقليل من الضغط على طلب القطع الأجنبي في السوق، ومجاراة سعر الصرف الرسمي مع السعر في السوق السوداء، إذ رفع مصرف سوريا المركزي سعر الصرف إلى 700 ثم إلى 1250 ليرة مقابل الدولار، كما رفع سعر تمويل المستوردات ليصبح 1265 ليرة بهدف الوصول إلى سعر توازني وجذب الحوالات عبر الطرق الرسمية وإصدار سندات خزينة بهدف استقطاب 300 مليار ليرة سورية، وشهادات إيداع بالليرة السورية تبلغ قيمة الشهادة الواحدة 100 مليون ليرة. ورفع مجلس النقد والتسليف في المصرف المركزي أسعار الفائدة على الودائع بالقطع الأجنبي؛ لتصل إلى 5%.
ارتفع سعر الدولار إلى 1360 ليرة في أذار 2020 مع تنامي الأزمة في لبنان، وفي 22 آذار 2020 سجلت سوريا أول إصابة بفيروس كورونا المستجد لتتخذ الحكومة جملة من الإجراءات في إطار الحجر الصحي أضرت بسلاسل الإمداد والطلب المحلي، ومن ثم عاد السعر ليصحح نفسه ويهبط قريبًا من مستوى 1000 ليرة. غير أنّ هشاشة الاقتصاد السوري وقطاعاته وتنامي المخاوف من شح الدولار وفيروس كورونا كانا دافعين لعودة السعر إلى حدود 1300 ليرة. وكان لتفجر أزمة رامي مخلوف علنًا في 30 نيسان تسبب في أزمة غير مسبوقة في سوق الصرف؛ بحكم علاقاته بالنظام وهيمنته المتشعّبة على قطاعات واسعة في الاقتصاد السوري. فاشتدت المضاربة على السعر دافعة إياه إلى أعلى سعر على الإطلاق عند 3175 ليرة في موجة صعود قوية، ثم عاد السعر ليصحح نفسه مرة أخرى إلى مستوى 2200 ليرة. وأخيرًا دفع سريان قانون قيصر في 17 حزيران السعر للتذبذب بين 2500 و3000 لينتهي عام 2020 والدولار بحدود 2900 ليرة.
أدت العوامل السابقة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة على المواطنين، وسجل مؤشر أسعار المستهلك الشهري ارتفاعًا كبيرًا في تشرين الأول 2019 عند 3224.4 ارتفاعًا من 149.2 في كانون الثاني 2011.
ففي السويداء مثلًا، يتذرع التجار بارتفاع سعر الصرف لرفع أسعار السلع والخدمات، مع العلم أن هناك العديد من المواد تنتج محليًا مثل مادة الحليب التي ارتفع سعرها من 200 ليرة إلى 600 ليرة، ومادة البيض من 1000 ليرة إلى 2700 ليرة؛ والأمر نفسه بالنسبة إلى الفواكه مثل الكرز حيث بلغ ثمن الكيلو غرام في الموسم الماضي 500 ليرة في حين يباع في موسم 2020 بـ 2500 ليرة، مع العلم أنه يُقطف من أراضٍ في منطقة ظهر الجبل في المحافظة. وبلغ ثمن لتر الزيت النباتي 3400 ليرة، وكيلو غرام من السكر 1400 ليرة، والبرغل 1300 ليرة، والعدس 1400 ليرة، والطحين 800 ليرة.
لا يختلف الوضع في مدينة حلب عن السويداء، حيث تضاعفت أسعار معظم المواد الأساسية، خاصة الغذائية، عشرات المرات، وتضاعفت بعض الأسعار إلى درجة أصبح سعر السلعة يتزايد مرتين أو أكثر في اليوم الواحد، بزيادة فاقت 3 أضعاف خلال أقل من شهر، ولحق الغلاء خدمات المواصلات والصيانة والخدمات الرئيسة مثل النجارة، والحدادة، والبناء بنسبٍ متفاوتة، ويعتمد المواطن هناك على مواجهة ظرف الغلاء عبر التدبير والتقنين الشديد. وفي دمشق ارتفعت أسعار الدواء ارتفاعًا كبيرًا، خصوصًا الأدوية المستوردة.
يظهر ارتفاع معظم السلع بنسب متفاوتة بين 75% و128%. ويؤكد هذه النسب برنامج الأغذية العالمي، مشيرًا إلى أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت أكثر من 200 في المئة في أقل من عام واحد.
ومقارنةً بالقوة الشرائية للأجور في عام 2010 حيث كان الأجر الوسطي 11300 ليرة (220 دولار تقريبًا) بلغت حاجة الغذاء لأربعة أشخاص 11500 ليرة، لذا كان الأجر وقتها قادرًا إلى حدٍ ما على تغطية هذه التكلفة، في حين قارب وسطي الأجر في عام 2020 نحو 60 ألف ليرة (25 دولار تقريبًا) وبلغت تكلفة سلة الغذاء التي تغطي 8 حاجات غذائية أساسية 1970 ليرة يوميًا، ولأسرة من 5 أفراد 295 ألف ليرة في منتصف حزيران 2020. وهذا يعني أن متوسط الأجر اليومي غير قادر على إعالة شخص واحد، ولا يكفي لتأمين الغذاء الكافي للعامل. ولكي يعود الأجر السوري إلى مستوى القدرة الشرائية لعام 2010، فعليه أن يبلغ بالحد الأدنى 295 ألف ليرة.
بلغ متوسط خط الفقر الكلي للأسرة الواحدة في الشهر 280 ألف ليرة سورية في نهاية 2019، ليسجل بهذا معدل الفقر في 2019 نحو 86%. وتشير التقديرات إلى أن 71% من السكان كانوا يعيشون في فقر شديد بحلول نهاية 2019 مقارنة بـ 75% في 2018. وبلغت القيمة التقديرية لخط الفقر الشديد للأسرة الواحدة شهريًا حوالي 203 آلاف ليرة سورية وسطيًا. وليس بمقدور الأشخاص الأكثر تأثرًا بالفقر الشديد تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. في حين بلغت نسبة الفقر المدقع في عام 2019 نحو 37% وهذه النسبة في ازدياد مستمر. إذ رفعت تقديرات الأمم المتحدة في برنامج الغذاء العالمي عدد من هم غير آمنين غذائيًا في سوريا إلى 9.3 مليون شخص، بينما كانت التقديرات في نهاية 2019 تشير إلى 7.9 مليون شخص، وفي نهاية 2018 نحو 6.5 مليون شخص
في النهاية يمكننا القول إن الشعب السوري لا يمكن له النجاة والحياة إلا عبر عملية المفاوضات التي تؤدي إلى انتقال سياسي حقيقي، وبدء مرحلة إعادة إعمار يتشارك بها جميع السوريات والسوريين.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة