في الحديث عن الحرب وصناعة السلام
- تاريخ النشر: 31 أكتوبر 2020
- |
وجدان ناصيف
تحاول هذه المادة تشكيل وجهة نظر نسوية من الحرب والتسلح والعسكرة ودور النساء في صناعة السلام، والتي يمكن من خلالها أن نبدأ بالبحث في مواقفنا من صناعة الحرب، مثلما يمكننا أيضاً الخروج من تنميطنا كـ”حمامات سلام”، وذلك من خلال بناء قاعدة معرفية، وقراءة بعض التجارب النسوية في العالم، والتي يمكن أن تدعم موقفنا كنسويات سوريات من الحرب ومن النزاع العسكري الذي نقف على هامشه اليوم، على الرغم من أننا كنا ولا زلنا أول ضحاياه.
يصادف أن أكتب هذه المادة ونحن نحتفل بالذكرى العشرين لصدور القرار (1325) حول المرأة والأمن والسلام، والذي وضع العمل على زيادة مشاركة النساء في الجهود المبذولة لمنع نشوب النزاعات من بين الأولويات الرئيسية لإدارة الأمم المتحدة للشؤون السياسية، والذي حثّ الدول الأعضاء وجميع الأطراف على اتخاذ التدابير اللازمة من أجل إدماج النساء في التدريب على فك النزاعات وحفظ السلم.
الروانديات والخروج من المذبحة
يبدو النموذج الرواندي مثالياً لمشاركة النساء في صناعة السلام والحفاظ عليه في مرحلة ما بعد فض النزاع، ويمكن النظر إليها كدليل لوضع الاستراتيجيات وخطط العمل من قبل الحركات والمنظمات النسوية السورية، ومن قبل صناع القرار الذين يمتلكون إرادة حقيقية في إشراك النساء في كل مراحل العملية السياسية والمفاوضات والمصالحات التي ستفضي إلى إرساء السلام.
شهدت رواندا مجازر رهيبة عام 1994 راح ضحيتها 800 ألف شخص، وتعرضت خلالها 250 ألف امرأة للعنف الجنسي، ولكن رواندا صنفت في عام 2018 كنموذج للبلدان النامية حيث حققت استقرار ونمو اقتصادي كبير، وتضاعف مستوى دخل الفرد ثلاث مرات في السنوات العشر الأخيرة، وهي اليوم تعتبر في أعلى سلم البلدان التي تحققت فيها مشاركة المرأة حتى وصلت إلى نسبة 64% في بعض الميادين.
المرأة الراوندية كان لها دور أساسي في إعادة الإعمار وفي التأسيس للسلم المجتمعي وفي الحفاظ على الأمن والسلم الأهلي في البلاد، فقد شاركت في مبادرات تعزيز السلام وإعادة الإعمار والمصالحات الأهلية، ولقد كانت القوة الدافعة وراء نجاح مساهمة المرأة الرواندية هي مزيج من جهود النساء وإرادتهن في صنع السلام ومن إرادة القيادة الراوندية الملتزمة في إشراك النساء الفعلي، والتجاوب الكبير مع مبادراتهن الوطنية.
لم تنتظر الراونديات القرار (1325)، بل إنهن بخلق راوندا جديدة معافاة مباشرة بعد فض النزاع العسكري عام 1994، فأخذن على عاتقهن بناء الاقتصاد الذي مزقته الحرب والإبادة الجماعية، وساهمن في مبادرة إعادة التوطين وأحيين القطاع الزراعي الذي كان قد تدمر بالكامل، فعملن بجهد، وأطعمن من خلال برنامج الغذاء مقابل العمل، ومنذ عام 1997 ساهمن بشكل كبير في مسألة حق عودة اللاجئات/ين إلى البلاد، ووفرن العمالة، فشاركن ولأول مرة في تاريخ راوندا في بناء أسقف المنازل في أنحاء البلاد، حيث شوهدت النساء في مواقع يعملن جنبًا إلى جنب مع الرجال أو أحياناً وحدهن، يحاولن مواجهة التحديات الصعبة لبناء المنازل، هذا كسر الأسطورة الشعبية التي تقول: “إذا بنت المرأة سقفاً، فسيتسرب منه الماء”[1].
النسوية والحروب
“موقف المرأة اللامبالي على هامش الحرب أفضل بكثير من المشاركة بها”، فيرجينيا وولف. هناك خطابين أساسيين في التحليل الفلسفي لعلاقة الجندر بالحرب، أولهما مبني على الاعتقاد في مسالمة المرأة الفطري ونفورها الطبيعي من الحرب، والاتجاه الثاني ينبع من الاتجاه الفلسفي المرتكز على المساواة الليبرالية لصالح مشاركة المرأة في الجيش باعتباره جزء لا يتجزأ من الحقوق المتساوية. تحليل هذين الخطابين يحتاج إلى دراسات معمقة ويحتاج لمعرفة نتائج تبنيهما، فالقول بسلمية المرأة الفطرية ساهم في تنميطها وتقليص مساحة دورها في مجتمعاتها، وبالمقابل تؤثر الحروب والنزاعات بكافة أشكالها سلباً في سياسات الجندر، وتلعب دوراً كبيراً في تراجع النسوية للخلف لمصلحة الأولويات الأخرى بحجة “الأمة في خطر”، “كل شيء من أجل المعركة”، وغيرها من القواعد الكثيرة التي تفرضها حالة الحرب، فتؤخر وتقدم وتؤجل، وتعدم أحياناً نضالات النسويات.
في كتاب ” النسوية والقومية في العالم الثالث”، الصادر بترجمته العربية عن دار الرحبي، تورد المؤلفة كوماري جايا شرحاً عن تجربة الحركة النسوية اليابانية في فقرة تحت عنوان “النزعة العسكرية والحركة النسائية” [2]
حيث تشرح كيف أثّر صعود النزعة العسكرية سلباً على قضية حق النساء بالاقتراع، فمع صعود الشمولية والسياسيات العسكرية التوسعية ضعفت الحركة النسوية، ففي عشرينيات القرن الماضي “أمسك الجيش في اليابان ومصالح رجال الأعمال المحافظين مسكة خانقة بالحياة السياسية اليابانية واتحدوا لمنع نمو المؤسسات الديمقراطية”، ومع احتلال منشوريا الصينية من قبل الجيش الياباني نمت الروح العدوانية لدى الجيش والمؤسسة العسكرية فانسحبت اليابان من عصبة الأمم عام 1933 وتابعت عدوانها على شمال الصين، وسرعان ما تطور هذا العدوان إلى حرب شاملة مع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، تشرح الكاتبة كيف كان لهذه الحرب تأثيراً في الانزياحات الكبرى في قضية المرأة، حيث أن “حادثة منشوريا عام 1931 أدت إلى صعود متزايد لنزعة عسكرية معادية للنسوية… وإلى إعادة ترتيب الأولويات القومية على نحو ترك حق الاقتراع للنساء قضية ميتة، حيث تعرضت المدافعات عن حقوق المرأة لمضايقات شديدة، وعلى الرغم من ذلك أعلنت الحركة النسوية اليابانية موقفها في مؤتمرها عام 1932 وانتقدت سياسة الحكومة بشكل واضح: “من وجهة نظر النساء، نحن نعارض الصعود الحالي للفاشية”، ولكن مع تصاعد وتيرة الحرب مع الصين عام 1937 وكان موعد مؤتمر حق الاقتراع للنساء، غيرت الحركة العنوان إلى: “المؤتمر النسائي المؤقت”، حيث رفعن في هذا المؤتمر شعارات وطنية ذات روح عسكرية، وعبرن عن امتنانهن لجنود الامبراطور الذين يحققون هذه المأثرة الرائعة على الجبهات، وأكدن على واجبهن في “حماية الجبهة الداخلية”، وتضيف الكاتبة: ” كالعادة تلاعب السياسيون بالنساء لتعزيز أهدافهم العسكرية والسياسية، وجرى في تلك الفترة التأكيد على الدور الإنجابي للنساء، وعلى خدمات العمل للأمة، وتراخت قبضة القوانين التي تحدد عملهن، وبات أنصار النزعة العسكرية، الذين كانوا مناصرين أشداء لبقاء المرأة في المنزل، شرسين عن “عمل النساء في المصانع”، وحُثت النساء على انجاب المزيد من رعايا الإمبراطور، “قيل للنساء إن أطفالهن ليسوا ملكاً لهن، بل هم للإمبراطور، وإن أولادهن يجب أن يرسلوا بعيداً وبفرح، باعتبارهم جنود الامبراطور، باختصار، كانت الأمهات مجبرات على انتاج وسائل الحرب العدوانية”.
وتختتم الكاتبة حديثها المثال الياباني بالقول إن “اليابانيات لم يحصلن فيما بعد على حق الاقتراع الذي ناضلن من أجله عشرين عاماً إلا بعد أن حطت الحرب أوزارها، فذهبن لصناديق الاقتراع عام 1946 لأول مرة”.
السؤال الكوني وسؤالنا السوري
“يجب أن تشارك النساء في كل حروب (الرجال) كمحاربات أو مدافعات على نحو متساوٍ، أو، إن كل الحروب سيئة ويجب على النساء الكفاح من أجل السلام ونزع السلاح الكامل.“ من كتاب “السلاح والمرأة” للكاتبة والباحثة الأمريكية بريجيت بولس.
عسكرة النساء أو مشاركتهن في المؤسسات العسكرية كان سؤالا كونياً، فقد طرحته معظم الحركات النسوية في العالم وخاصة في البلدان التي خاضت نزاعات عسكرية وحروباً أهلية، فتقرير دور المرأة في حرب “الرجال” كان نقطة هامة بالنسبة للنظرية والسياسيات النسوية، فقد قامت النسويات بتحليل علاقة الحرب بتشكيل الأمم وبتحليل العقلية الذكورية التي شكلت وشغّلت الآلة العسكرية عبر التاريخ؛ وزارات الدفاع ليست “دفاعية” غالباً، وإنما تحكمها عقلية راغبة دوماً بالهجوم، وسباق التسلح أصبح ظاهرة عالمية تأثرت بها معظم الدول الفقيرة فباتت تستهلك القسم الأكبر من ميزانياتها، تاركة وراءها شعوباً جائعة ومحرومة من التنمية، هذا السباق تقوده سياسات عالمية تحركها مصالح صنّاع الأسلحة وتجار الحروب.
وأما عن موقفنا كنسويات سوريات فاعتقد أنه لا يمكن أن نشكل رأيا نسوياً حول النزاع العسكري الذي تغرق فيه بلادنا منذ ثمان سنوات إلا بالعودة للنسوية التقاطعية، والبحث في تقاطع مصالح البطريركي والنظام الديكتاتوري الذي جعل من بلادنا ساحة اقتتال بين أطراف نزاع مختلفة ومتعددة، خارجية وداخلية، ومختبراً لتجريب فاعلية أنواع الأسلحة التي تنتجها شركات الأسلحة في مختلف أنحاء الأرض، وكذلك يجب علينا رؤية التقاطع بين النظام البطريركي والعقلية الفاشية لأطراف الصراع، ونزعتهم للهيمنة وفرض الأمر الواقع، ومن ثم إعادة إنتاج العقلية الذكورية ذاتها التي مكنت الديكتاتورية من إحكام سيطرتها على البلاد طيلة خمسين عاماً.
لا يمكننا أن ننطلق بموقفنا من النزاع المسلح من موقعنا كـ “حمامات سلام” كما يُراد لنا، بل من موقفنا المبدئي من الحروب وآلة القتل التي تفتك ببلادنا وتعرض مستقبل الأجيال القادمة للخطر، سيكون بإمكاننا فعل ذلك من خلال العمل الجدي والحثيث على إظهار العلاقة بين النظام البطريركي وتجار الحروب في كل أنحاء البلاد، والذين وإن لم يستطيعوا إعدام نضالاتنا حتى الآن، ألا أنهم سيحاولون دوماً حرماننا من الحصول على ثمرة هذا النضال، فالحروب كانت دائما وسيلة الأنظمة لتثبيت سلطتها وهيمنتها ووأد أي محاولة للتغيير الذي ناضلنا وما زلنا، وسوف نبقى طويلاً نناضل من أجله، بما يضمن مستقبلاً آمناً ومشرقاً لجميع السوريات والسوريين.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة.