ما هو الطريق للوصول إلى العدالة الانتقالية في سوريا!؟ (الجزء الأول)
- updated: 13 يوليو 2020
- |
*محمد دريد
العدالة الانتقالية هي مجموعة التدابير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل هذه التدابير الملاحقات القضائية ولجان التحقيق وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات.
وبالتفاصيل فإن الهدف من إنشاء العدالة الانتقالية هو:
· إنشاء مؤسسات خاضعة للمساءلة واستعادة الثقة في تلك المؤسسات.
· جعل الوصول إلى العدالة ممكناً للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع بعد تعرض الناس للانتهاكات.
· إتاحة الفرصة للنساء والمجموعات المهمشة للعب دور فعال في السعي لتحقيق مجتمع عادل.
· تسهيل عمليات السلام وتعزيز حل دائم للصراعات.
· إقامة أساس لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع والتهميش.
· دفع قضية المصالحة.
تركز العدالة الانتقالية على أربعة محاور رئيسة:
· الملاحقات القضائية، لاسيّما تلك التي تطال مرتكبي الانتهاكات.
· جبر الضرر، الذي تعترف الحكومات من خلاله بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن أشكال رمزية (كالاعتذار العلني أو إحياء يوم للذكرى).
· إصلاح المؤسسات ويشمل مؤسسات الدولة القمعية على غرار القوات المسلّحة، والشرطة والمحاكم، بغية تفكيك آلية الإنتهاكات البنيوية وتفادي تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.
· لجان الحقيقة أو وسائل أخرى للتحقيق في أنماط الانتهاكات الممنهجة والتبليغ عنها والمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء تلك الانتهاكات.
من أين أتى مفهوم العدالة الانتقالية:
في تسعينات القرن الفائت صاغ عدد من الأكاديميين الأمريكيين هذا المصطلح لوصف الطرق المختلفة التي عالجت بها بعض الأنظمة الجديدة الواصلة إلى السلطة الانتهاكات الجسيمة لأسلافها.
لكن بعض الباحثين يرجعون أصل مفهوم العدالة الانتقالية إلى محاكم نورنبيرغ (1945)، حيث عمدت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى توسيع نطاق آليات القانون الجنائي في حينها لتتمكن من محاكمة قيادات عسكرية وسياسية في النظامين النازي والياباني.
تحاول ممارسة العدالة الانتقالية اليوم مواجهة الإفلات من العقاب، والبحث عن سبل فعالة للحيلولة دون تكرار الانتهاكات.
يعتبر المركز الدولي للعدالة الانتقالية منظّمة دولية غير حكومية متخصّصة في مجال العدالة الانتقالية.
يعمل المركز على مساعدة المجتمعات التي تمرّ بالمرحلة الانتقالية في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبناء الثقة المدنية في مؤسسات الدولة كحامية لحقوق الإنسان. مقر المنظمة في نيويورك ولها مكاتب في عدة بلدان منها تونس وبيروت.
ينفذ المركز العديد من الاستراتيجيات بعضها ذي صبغة قضائية وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، وهي:
الدعاوى الجنائية: وتشمل التحقيقات القضائية مع المسؤولين حول انتهاكات حقوق الإنسان. ويمكن القول إن أولى نتائج هذه الآلية هي محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن أن تكون هذه الدعاوى على المستوى الإقليمي أو الدولي ويمكن إحداث محاكم خاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون.
لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وتصْدر تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة، وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم، وتقديم مقترحات لمنع تكرار الانتهاكات مستقبلاً.
برامج التعويض أو جبر الضرر :وهذه مبادرات تدعمها الدولة وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي وإعطاء التعويضات المادية والرمزية للضحايا وتقديم الاعتذارات الرسمية.
الإصلاح المؤسسي: وتستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دوراً في هذه الانتهاكات (غالباً القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية… وغيرها)، وتطهير هذه الأجهزة من المسؤولين غير الأكفاء والفاسدينِ والقيام بالتعديلات التشريعية وأحياناً الدستورية.
آليات أخرى: مثل تخليد الذكرى وإقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة للضحايا وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي.
وإذا ما تكلمنا عن سوريا فإن تحقيق العدالة الانتقالية هو السبيل الوحيد الذي يضمن إنصاف الضحايا وتحقيق المصالحة الوطنية، التي بدونها ستكون سوريا عرضةً لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء وتأجيج فورة الانتقام.
إن سوريا بحاجة إلى “العدالة الانتقالية” من خلال إعادة البناء الاجتماعي، والمصالحة الوطنية، وتأسيس لجان الحقيقة، والتعويض للضحايا، وجبر الضرر، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة وخاصة الأجهزة الأمنية بغية التعامل مع الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان.
لا يمكن للأمور أن تستقيم في سوريا إلا بعد القيام بما يلي:
إرساء الديمقراطية: يعتبر العديد من الأشخاص أن الديمقراطية لا يمكن بناؤها على أساس الأكاذيب وأن مواجهة الماضي قد تؤدي إلى تقوية الديمقراطية من خلال إرساء المحاسبة (مثل مكافحة الإفلات من العقاب) وبناء ثقافة ديمقراطية.
مواجهة الماضي والاعتراف به: يجب الاعتراف بالضحايا وتذكير الناس بهم. إن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلاً من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة. من المستحيل تجاهل الماضي فهو دائماً يطفو على السطح، لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بنّاءة وشفافة.
منع الانتهاكات في المستقبل: يخلق التعامل مع الماضي نوعاً من الردع. فالتذكر والمطالبة بالمحاسبة هما وحدهما الكفيلان بالوقاية من وقوع أشياء فظيعة مجدداً في المستقبل.
يجري تحقيق العدالة الانتقالية في بلد ما عن طريق عاملين إما داخلي أو دولي. فداخلياً يلزم وجود إرادة سياسية جادة في تحقيق العدالة الانتقالية تُلغي الحسابات السياسية لصالح التأسيس لدولة الحق والقانون، وهنا يبرز تحد كبير وهو قدرة النظام القائم (إن كان هو المسؤول عن الجرائم) على تناول حقبة مظلمة من تاريخه وتحمل المسؤولية التاريخية عنها. ومكمن الصعوبة في مثل هذا القرار هو ما قد يُرتبه من انعكاسات سياسية قد تُهدد النظام نفسه. لذلك ومن خلال تحليل أفعال النظام السوري فإني أرى أنه لا يمكن تحقيق العدالة الانتقالية عبر العامل الداخلي. فالنظام السوري متهم بقصف المدن والقرى وتهجير المدنيات والمدنيين واعتقال عشرات الآلاف وقتلهن/م أثناء الاعتقال وتدمير المدارس واغتصاب النساء واللائحة تطول. لذلك فإنه لا يمكن لهذا النظام، الذي مازال حتى كتابة هذه الأسطر يرتكب الجرائم اليومية بحق السوريات والسوريين، أن يقوم بأي مبادرة في هذا المجال. إن الوضع في سوريا بحاجة إلى تدخل المجتمع الدولي لتخليص البلد من النظام الحالي أولاً ومن ثم تحقيق العدالة الانتقالية بكافة بنودها ومنعرجاتها. دون ذلك فإن الإفلات من العقاب واستمرار الانتهاكات في سوريا وارد جداً بل هو ماثل أمام أعيننا.
ماالعمل إزاء هذا الوضع؟ من الواضح أن الأمور في سوريا تزداد سوءاً يوماً بعد يوم وأن أفق الحل ما زال بعيداً جداً في ظل تعنت النظام وإصراره على ارتكاب كل أنواع الانتهاكات وفي ظل سكوت المجتمع الدولي على هذه الجرائم. أما العامل الدولي فيستطيع تحقيق العدالة الانتقالية من خلال إنشاء المحاكم الخاصة التي تضطلع بالمتابعات القضائية ضدَّ الضالعين في جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم التعذيب والإبادة. ومن أشهر المحاكم الخاصة المحكمة الدولية الخاصة في يوغوسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة في رواندا. إلا أن هذا الخيار مستبعد في سوريا لأنه بحاجة إلى قرار من مجلس الأمن الدولي وهذا غير ممكن لأن روسيا والصين تقفان دائماً ضد أي قرارات تحاسب النظام السوري. والخيار الدولي الآخر هو محكمة الجنايات الدولية التي أسست لوضع آلية دولية للتصدي لجرائم الحرب والجرائم المرتكبة في حق الإنسانية. وهذا الخيار مستبعد أيضاً لأنه توجد طريقتان لجعل المحكمة تنظر في قضية ما. وهما يتلخصان إما في ضرورة أن تكون الدولة المعنية موقعة على تأسيس المحكمة وسوريا ليست كذلك، أو إحالة مجلس الأمن الدولي قضية ما إلى هذه المحكمة، وهذا أيضاً غير ممكن بسبب وجود روسيا والصين مرة أخرى في مجلس الأمن.
يتبع في الجزء الثاني…
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة