ما هو الطريق للوصول إلى العدالة الانتقالية في سوريا!؟ (الجزء الثاني)
- updated: 13 يوليو 2020
- |
*محمد دريد
كما أشرت في المقال السابق فإن تحقيق العدالة الانتقالية في بلد ما يمكن أن يكون إما نتيجة إرادة داخلية أو دولية. فداخلياً يلزم وجود إرادة سياسية جادة في تحقيق العدالة الانتقالية تُلغي الحسابات السياسية لصالح التأسيس لدولة الحق والقانون، وهنا يبرز تحد كبير وهو قدرة النظام القائم (إن كان هو المسؤول عن الجرائم) على تناول حقبة مظلمة من تاريخه وتحمل المسؤولية التاريخية عنها. ومكمن الصعوبة في مثل هذا القرار هو ما قد يُرتبه من انعكاسات سياسية قد تُهدد النظام نفسه. وسأركز في هذا المقال على حالات العدالة الانتقالية التي حدثت بمبادرات داخلية في بعض الدول، وسأكتفي بإيراد أربعة أمثلة في هذا المجال. وفي النهاية سنحاول الاستنتاج حول إمكانية حدوث مثل ذلك في سوريا أم لا.
رواندا:
بين عامي 1993 و1995 وقعت رواندا فريسة لحرب أهلية بين الأغلبية من عرقية الهوتو -التي تشكل أكثر من 80% من السكان- وقبائل التوتسي التي تشكل النسبة الباقية. أدى ذلك إلى مقتل حوالي 800 ألف رواندي. عاشت البلاد أسوأ فتراتها وبدا الأفق ضيقاً أمام الطبقة الحاكمة فقام نائب الرئيس عام 2000 بإزاحة الرئيس وتقديمه للمحاكمة وتم الحكم عليه بـ 15 سنة من السجن. نجحت رواندا رغم العدد الكبير من القتلى في تحقيق مصالحة بين الجلاد والضحية من خلال الاعترافات الفردية والمغفرة والصفح في إطار المحاكم التي أنشأت في القرى. وقد حوكم معظم الجناة الرئيسيين للإبادة الجماعية في محاكم عادية، سواءً في رواندا نفسها أو أوروبا أو المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، التي شكلتها الأمم المتحدة. تمت محاكمة المتورطين في الإبادة الجماعية برعاية من الأمم المتحدة، وانطلقت المصالحة الوطنية لإعادة بناء البلاد.أنشأت رواندا 11 ألف محكمة محلية غير تقليدية سميت “غاكاكا” في القرى وهذا النظام صمم لجمع سكان كل قرية على حدى ليشهدوا عمليات اعتراف وتشجيع الضحايا على الصفح والغفران والاتفاق على التعويضات.
جنوب إفريقيا:
بعد ثلاثين سنة من الصراع المسلح 1960-1990 الذي قاده حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام التمييز العنصري “الأبارتايد” دخلت البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي سنة 1990 وذلك بعد وصول زعيم الأقلية البيضاء دو كليرك إلى السلطة؛ حيث رفع دو كليرك الحظر عن نشاط حزب المؤتمر الوطني وأطلق سراح زعيمه نلسون مانديلا بعد 27 سنة من السجن. وقد أعد دو كليرك ومانديلا مخططًا انتقاليًا، ورُفِعت العقوبات الدولية عن جنوب إفريقيا، وتم تبني دستور انتقالي سنة 1993 ثم نُظِّمت انتخابات متعددة الأعراق سنة 1994 فاز بها المؤتمر الوطني الإفريقي وانتُخب مانديلا رئيسا لجنوب إفريقيا. وخلال عام 1993 كانت قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة خلال الماضية من أهم نقاط المفاوضات حول الانتقال الديمقراطي، وقد توصل الطرفان إلى تسوية ترى أن العفو يمكن أن يتم بالنسبة للأعمال الإجرامية التي تمت بهدف سياسي وكان لها علاقة بنزاعات الماضي. وبعد نقاش واسع من المجتمع المدني صادق برلمان جنوب إفريقيا منتصف 1995 على قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة الذي أسس للجنة الحقيقة والمصالحة. وقد بدأت أعمالها في نيسان سنة 1996 وأنهت أشغالها بتقديم تقريرها في تشرين الأول 1998. انقسمت لجنة الحقيقة والمصالحة إلى ثلاث لجان فرعية: لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، ولجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل، ولجنة العفو. فأما لجنة انتهاكات حقوق الإنسان فقد كانت وظيفتها التحقيق في الانتهاكات التي تمت بين 1960 و1994 بتحديد هوية الضحايا، ومصيرهم (أو رفاتهم)، وطبيعة ومستوى الضرر الذي لحقهم، وما إذا كانت الانتهاكات نتيجة خطة مقصودة من طرف الدولة أو غيرها من المنظمات أو الجماعات أو الأفراد. بينما كانت مهام لجنة جبر الضرر صياغة توصيات واقتراحات حول إعادة تأهيل الضحايا وعائلاتهم. وقد أُسس صندوق تم تمويله من ميزانية الدولة ومساهمات خاصة بهدف تقديم تعويضات مستعجلة للضحايا. وكانت مهمة لجنة العفو الحرص على أن تتم طلبات العفو طبقًا للقانون؛ إذ يمكن لطالبي العفو أن يطلبوه بالنسبة لأي عمل إجرامي مرتبط بهدف سياسي اقتُرِف بين 1 آذار 1960 إلى 6 كانون الأول 1993، وقد مُدِّد هذا الأجل إلى 11 أيار1994. عُرف نتيجة ذلك جزء مهم من الحقيقة، وترسخ الانتقال الديمقراطي، وتم جبر ضرر عدد كبير من الضحايا إلى حد كبير بمجرد معرفة الحقيقة والاعتراف الجماعي والرسمي بمعاناتهم
تونس:
يصادف يوم 14 كانون الثاني ذكرى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في 2011 ، وقد أصبح يوماً وطنياً في تونس. أنشأتبعد ذلك “هيئة الحقيقة والكرامة” لإرساء العدالة الانتقالية والحيلولة دون انزلاق البلاد مجدداً نحو الاستبداد واستمر عملها 4 سنوات. وحوّلت الهيئة بعض القضايا إلى “دوائر متخصصة” أنشأها القانون لمحاكمة المتهمين. ومن التوصيات، التعويض لآلاف ضحايا التعذيب والسجن السياسي والانتهاكات الأخرى. تتخذ هيئات الحقيقة أشكالاً متعددة، لكنها تنطلق جميعا من الاعتراف بماضي الأمة المظلم ومعالجته بحثاً عن مستقبل أكثر عدلاً. أجرت الهيئة التي ترأستها الحقوقية سهام بن سدرين نحو 50 ألف مقابلة شخصية مع الضحايا، وحوّلت عشرات القضايا إلى الدوائر القضائية المتخصصة. وعقدت جلسات علنية للضحايا نقلها الرسمي. سلمت الهيئة تقريرها النهائي أوائل عام 2019. لكن يمكن القول أن عمل الهيئة لم يحظى برضى السياسيين وأخذت الأطراف السياسية المختلفة تهاجمها، وأيد بعض السياسيين إطلاق عفو عام عن الذين يعترفون بجرائمهم. تضمن التقرير النهائي للهيئة توصيات تدعو إلى إدخال إصلاحات لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتعويض الضحايا، والمساءلة القضائية، ومن ثم المصالحة.
المغرب:
حكم الملك الحسن الثاني المغرب من 1961 إلى 1999، في فترة اتسمت بالعديد من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة وبشكل خاص الإخفاء القسري. وفي عام 1991 أجبر الضغط الدولي الملك الحسن الثاني على إغلاق السجن السري سيء السمعة تازمامارت وإطلاق سراح سجنائه. أُفرج عن ثلاثمائة وإحدى وأربعين سجيناً وهُدم السجن. صعد الملك محمد السادس، نجل الحسن الثاني، إلى العرش في عام 1999، معتزماً القطيعة مع الإرث الثقيل لسنوات والده التي عرفت بسنوات الرصاص. بعد مناقشات بين المجتمع المدني والقصر، أنشأ الملك محمد السادس هيئة الإنصاف والمصالحة في نوفمبر 2003. وُكِّل إلى الهيئة تحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة انتهاكات الماضي لحقوق الإنسان التي وقعت بين 1959و1999. حققت الهيئة في حالات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والعنف الجنسي، وقامت بحل 742 قضية إخفاء قسري وقدمت تعويضات مادية لـ 9779 ضحية. كما عقدت الهيئة خلال مدة عملها سبع جلسات استماع علنية حية على التلفاز في ستة مناطق لإقرار الحقيقة التاريخية. قدمت اللجنة تقريرها النهائي للملك في نوفمبر 2005، مُوصَيةً ببرامج جبر ضرر جماعي في 11 منطقة. احتوى التقرير أيضاٌ على توصيات تخص السياسيات العامة مع التشديد على الحاجة لتعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، وكذا الحماية القضائية والقانونية. عُهد إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان متابعة توصية هيئة الإنصاف والمصالحة والتي تضمنت التعويضات المالية المخصصة لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المستفيدين من جبر الضرر الفردي أو ذوي حقوقهم. وتم فعلياً تعويض آلاف الأسر وإدماج الضحايا في نظام التغطية الصحية الأساسية.
وقبل أن أنهي مقالتي أريد أن أستفيد من المعلومات التي وردت آنفاً وأستنتج إن كان ممكناً تطبيقها في سوريا. نلاحظ من خلال الحالات الواردة أعلاه أن السلطة الحاكمة هي نفسها قادت العدالة الانتقالية في الأمثلة السابقة، وهذا لن يحصل في سوريا حسب الوقائع على الأرض. تتفرد سوريا عن غيرها من الدول التي شهدت انتهاكات حقوق الإنسان بانخراط السلطة الحاكمة من رأسها إلى أخمص قدميها بالانتهاكات غير المسبوقة في التاريخ بحق الشعب السوري. تبين الأحداث أنه وبعد مرور 9 سنوات مازالت هذه السلطة منهمكة في سياستها الإجرامية دون أي تعديل أو تخفيف. نستنتج من ذلك أن هذه السلطة الحاكمة ليست مستعدة بأي حال من الأحوال لوقف الحرب قبل أن تربحها بالكامل فما حاجتها بعد ذلك للعدالة الانتقالية. إن هذه السلطة مازالت حتى الآن تطلق على منتقديها ومعارضيها مصطلح الإرهاب. إن أي عدالة انتقالية في سوريا لا بد لها إلا أن تؤدي إلى إنزال العقاب بكل حلقات القيادة السورية، خاصة العليا السياسية والعسكرية والأمنية فكيف لها أن تستسلم وتقبل بالعدالة الانتقالية، هذا إذا اقترضنا أنها قبلت قبل ذلك بوقف القتال وإحلال السلام. حتى الأمل بتحقيق العدالة الانتقالية عن طريق المجتمع الدولي فمازال بعيداً وربما لن يتحقق لأن المجتمع الدولي لم يُظهر حتى الآن أي نية في وقف المجازر الحاصلة في سوريا ومازال حتى الآن يعترف بالنظام الذي يرتكب الجرائم. إن تحقيق العدالة الانتقالية مرهون بتغيير النظام الذي يقوم بارتكاب الجرائم وهذا الأمر غير ممكن حتى الآن ولن يكون ممكناً في الأفق المنظور. وتستدعي هذه الحقيقة من السوريات والسوريين المعارضات/ين عدم الاستسلام ومواصلة الجهود لمعارضة النظام بكل أنواع المعارضة المدنية واستخدام الإعلام وجمع الأدلة التي تثبت تورطه في الجرائم وقطع كل الصلات معه ومحاربته اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، والتواصل مع الناس في الداخل وحثهم على العصيان والهروب من الخدمة العسكرية واستخدام القوانين الدولية لفضح جرائم أركان النظام وجرهم للعدالة الدولية.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة