من أمن العقاب أساء الأدب
- تاريخ النشر: 21 فبراير 2020
- |
*سوزان خواتمي
قبل نحو ست سنوات أثارت حادثة تحرش جماعي بطالبة داخل الحرم الجامعي في القاهرة ضجة غير مسبوقة أشعلت الرأي العام. الغريب في الأمر محاولة إدارة الكلية آنذاك إلقاء اللوم على الطالبة نفسها وفصلها. لم تتوقف الحوادث المؤسفة، ففي تجمع الثوار في ساحة التحرير عام 2011 تعرضت الناشطات والمراسلات الصحفيات للتحرش، فتصاعد الاهتمام بتلك الظاهرة من خلال المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي حتى نجحت مؤسسات الدفاع عن حقوق المرأة، والمنظمات الحقوقية عام 2014 بالضغط على السلطات لإقرار قانون يجرّم فعل التحرش. لكن قانون تجريم التحرش على أهميته لم يصادق عليه سوى عدد قليل من الدول كمصر والمغرب وتونس ومؤخراً السعودية.
عقب ليلة الاحتفالات بعيد رأس السنة الميلادية 2020 استيقظنا على فيديو تتناقله الصفحات يصور تحرشاً “جماعياً” وقع في مدينة المنصورة، حيث لاحق عدد كبير من الشباب فتاتين تواجدتا في شارع الجمهورية. ظهرت إحداهما بوضوح وهي تزعق وتصيح وتستغيث وسط جمهرة تنال منها باللمس وتُمزق ملابسها. بعد جهد استطاع بعض النبلاء المتواجدين في المكان إنقاذها. حسب الإعلام المصري تبين أن الفتاتين طالبتان جامعيتان سرعان ما قدمتا تنازلاً عن محضر الاتهام بعد مفاوضات مع أهالي الموقوفين السبعة الذين اعتقلتهم الشرطة بناء على ما أظهرته أشرطة كاميرات المراقبة…!
حريٌ بنا أن نوجه لأنفسنا مجموعة من التساؤلات. ما الذي يحدث في شارعنا العربي…؟ ولماذا تتصاعد تلك الظاهرة المسيئة لقيمنا وأخلاقنا…؟ وكيف يميل البعض، ومنهم نساء، للوم الضحية فينتقدون ملابسها ويحملونها المسؤولية…؟ وهل الإصرار على الحجاب وتغطية الوجه والجسد وتحويله إلى خيمة دون الاهتمام بما ينص عليه الدين من غض البصر هو الحل…؟ وإن كان الأمر كذلك لماذا تتعرض الفتاة المحجبة للتحرش أيضاً…؟ وما السبب وراء سكوت النساء وتنازلهن عن حقوقهن كما فعلت الطالبتان…؟
صمت النساء
إن تزايد مثل تلك الحوادث المؤسفة والمخجلة في مجتمعات تدّعي الفضيلة أمر يثير الغثيان، فالتحرش لا يقتصر على النساء بل يطال كلا الجنسين ولا يسلم منه حتى الأطفال. يحدث في أماكن العمل، وفي مخيمات اللجوء، وخلال ساعات النهار والليل، من قبل المتزوج والعازب، في البيئة الثرية والفقيرة على حد سواء، وفي الشوارع العامة والتجمعات المزدحمة، وأيضاً في البيت وأحياناً من أقرب الأقرباء.
تلك القصص التي نسمع بها لا تشكل سوى جزء بسيط مما يحدث بالفعل إذ ترتفع نسبة الصامتات إما بسبب الخوف من الفضيحة، أو لتجنب التنمر، وأيضاً لعدم الرغبة بالتورط بإجراءات قانونية معقدة لإثبات حالة التحرش، فإذا عُدنا لحادثة المنصورة، فإن تنازل الفتاتين عن حقهما الجلي ،كما شاهدناه في فيديو يدور الكرة الأرضية، يُعد انتكاسة غير مقبولة.
إن السكوت عن التحرش الجنسي يمنح الجاني انطباعاً بأنه فعل مقبول، وفي المقابل هو مصدر خزي وعار للناجية ما يشجع المتحرش على تكرار فعلته، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، إذ يشكل إلقاء اللوم على الفتاة رضىً اجتماعياً محفزاً للتجاوزات واستعراض رجولة زائفة من دون مساءلة تقع تحت نظر وسمع المارة والأشخاص المتواجدين عند وقوع التحرش الذين للأسف يختارون عدم التدخل ويكتفون بالتصوير بدم بارد، حيث تظهر دراسة أجرتها مبادرة “خريطة التحرش” الحائزة على عدة جوائز والتي أسست في أواخر عام 2010 أن 82% من المشاركين في البحث لميتلقوا أي مساعدة من الشهود على الواقعة، وهي نسبة عالية إن دلت على شيء، فهي تدلعلى عدم الاهتمام والبلادة خاصة إن كنا نعتبر أن ما جرى لا يعنينا، أو أن التدخل سيوقعنا في ورطة نحن في غنى عنها.
الاستنكار والاستهجان لا يكفيان
إن ظاهرة التحرش هي قضية تتحمل الدولة والمجتمع مسؤوليتها، وتعد أحد أوجه التمييز ضد المرأة، فبالرغم من كونها الضحية إلا أن أصابع الاتهام تشار إليها، فلا تنج من انتقادات تتعرض لملابسها فتصفها بغير المحتشمة، أو لمجال عملها فتدعوها لالتزام البيت، أو للحكم على تصرفاتها الشخصية وحرية حركتها.
بطبيعة الحال إن خضنا في الشأن السوري، فهناك أدوار مهمة تقع على عاتق منظمات المجتمع المدني والهيئات النسوية والحقوقية بدءاً من العمل على تشريع قانون يجرم التحرش، إلى إلغاء المادة التي تعفي المغتصب من العقاب في حال زواجه من الضحية، وصولاً إلى نشر الوعي بضرورة محاربة التحرش، والإبلاغ عن الجريمة من جانب الضحايا والشهود بشكل يضمن تنفيذ العقوبات الصارمة المشددة، والإعلان عن أسماء المتحرشين وتداول صورهم كخطوة رادعة ومؤثرة، والعناية بالناجيات نفسياً وقانونياً. هذا إلى جانب مهمة الإعلام للحد من سلبية المجتمع وانفصامه، والعمل على إنشاء بيئة رافضة لجميع مستويات التحرش، وتغيير الصورة الذهنية النمطية عن الرجل والمرأة، وحث النساء على الثقة بالنفس وعدم الشعور بالذنب تجاه السلوك المضطرب للمتحرشين. أيضاً هناك دور أساس وملّح للمدرسة والبيت لتنشئة جيل يحترم جسد المرأة ولا يتدخل في خصوصيتها، أما في حالة التنازل المؤسف عن القضية كما حدث للطالبتين، فمن الواجب تطبيق الحق العام، لأن جرائم التحرش تستهدف المجتمع بأكمله، فإن كنا شهودها اليوم فقد نكون ضحيتها غداً.