أصوات نسوية، مقابلة مع الصحفية والسياسية ياسمين مرعي
- updated: 8 أغسطس 2025
- |
“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”
مقابلة مع الصحفية والسياسية ياسمين مرعي
إعداد: كبرياء الساعور
أهلاً بكِ ياسمين،
1- ياسمين مرعي؛ صحفية وسياسية سورية، مؤسسة مشروع “نساء من أجل مساحات مشتركة”، هل يمكنك مشاركتنا قصة رحلتك الشخصية من الانخراط في التنسيقيات خلال الثورة إلى أهم المحطات في المجال الإعلامي والعمل المدني، ومن ثم وصولك لرئاسة حزب سياسي؟
لا بد أن الثورة السورية كانت حدثاً فارقاً في حياتي. وأظن أنني أتقاطع في هذه النقطة مع الكثير من السوريين والسوريات. كنت ما أزال في الثامنة والعشرين من العمر عند انطلاق الثورة السورية. وكانت الحياة قبل الثورة السورية محدودة ومكررة في الكثير من تفاصيلها، وسياسياً، كانت محصورة بحزب البعث وعضويته شبه الإلزامية لنا كطلاب. وجاءت الثورة وأنا بطبعي شخص منحاز إلى الحق، فأخذت صف الثورة السورية منذ اليوم الأول. وانضممت إلى تنسيقية حمص وكنت ضمن فريقها الإعلامي.
أنا لم أدرس الصحافة عندما بدأت الثورة. كنت أحضر للماجستير في اللسانيات المقارنة. ما أدخلني فضاء الإعلام هو حالة الناشطية والحاجة الهائلة للعمل الإعلامي والتوثيق بأبسط أشكاله في تلك الفترة. لذلك انخرطت ضمن المكتب الإعلامي لتنسيقية حمص. لاحقاً انضممت إلى مجموعة من مشاريع ما سمي في تلك المرحلة بالإعلام البديل كمحررة، ثم كمديرة تحرير، ثم كرئيسة تحرير.
أنا أتحدث هنا عن مجموعة من المشاريع الإعلامية التي عملت ضمنها، وهي بشكل أساسي صحيفة الحقيقة الخاصة في السويداء، ثم مجلة صور التي كنت من مؤسسيها، ثم سيدة سوريا التي ساهمت في تأسيسها وعملت ضمن فريقها الرئيسي لسنوات، ثم عملت مع مجموعة سمارت في مشروع بوابة سوريا وكنت رئيسة تحريره، بالإضافة إلى أنني كتبت مع العديد من المنصات الإعلامية السورية والعربية.
بالإضافة إلى ذلك، ركزت جزءاً من نشاطي الإعلامي لحملات المناصرة طفلة لا زوجة وحملة لنحقّق العدالة، وأيضاً لتدريب العديد من الصحفيات والصحفيين والمواطنات الصحفيات والمواطنين الصحفيين داخل وخارج سوريا.
هذا العمل الذي قمت به كإعلامية مكنني من تكوين فهم أعمق للمجتمع السوري، للثورة السورية، لاحتياجات المجتمع السوري، وبشكل خاص لاحتياجات المرأة والظروف التي تعيشها النساء في سوريا، ثم في المنطقة. وهذا ما دفعني باتجاه محاولة لخلق تقاطع بين العمل الصحفي والعمل المدني بما يعني الانضواء تحت سقف منظمات المجتمع المدني. وهذا لم يكن بعيداً عن التفكير بالسياسة والعمل السياسي، لأنني أيضاً في مرحلة ما شعرت أن ما تحتاجه سوريا هو حل سياسي، والحل السياسي يتطلب تعددية سياسية، وبالتالي نحن بحاجة في سوريا ماسة لتشكيل أحزاب سياسية.
2- دونت على صفحتك على الفيسبوك “عدت إلى بيت أهلي في قلعة الحصن بعد غياب اثني عشر عامًا وأحد عشر شهراً وأربعة أيام” كيف كانت العودة إلى الوطن بعد سنوات من الغياب؟
لا أبالغ إن قلت إنني انتظرت هذه اللحظة بشكل يومي. بعد مغادرة سوريا في ٢٠١٢، تنقلت بين أربعة بلدان، ورغم امتناني لكل من لبنان وتركيا والولايات المتحدة وألمانيا على فرصة الإقامة والبحث عن الذات، والأهم من ذلك النجاة بصورة ما، لكني لم أتجاوز يوماً حقيقة شعوري بأني اقتلعت من حمص ومن قلعة الحصن. أنا من النساء اللواتي يقدسن الانتماء للوطن. كما أن عملية التأقلم لم تكن سهلة خارج البلاد لا سيما مع الثقافة والعادات والحاجة للبدء في كل مرة من صفر اجتماعي جديد. بيت العائلة هو الأمان الذي لم يتكرر في ١٣ عاماً من الغربة القسرية. للأمانة كنت قد فقدت الأمل بسقوط نظام الأسد منذ عام ٢٠٢٣، وقررت أن أبني علاقة صحية مع برلين، مكان إقامتي الأخير في المنفى، بدأت تعلم اللغة بعد سبع سنوات من العيش في هذا البلد، وظننت أنني لن أعود لقلعة الحصن. هاجسي كان دائماً مرتبطاً بآخر نقاش لي مع والدي ووالدتي في بيتنا هناك، وكذلك في حقيقة أننا خرجنا دون أن نحمل معنا ما رغبنا في حمله من بيوتنا، ثم أحرق البيت كغالبية بيوت أبناء الثورة، وأحرقت الصور التي لم نحملها معنا حين خرجنا، لذا كان لدي شعور عميق بأن الأسد سرق ذاكرتي عن حياتي الكاملة على مدى ٢٨ عاماً. حين عدت شعرت بشيء من العدالة، أو ما يمكن وصفه بالعامية بـ “جبر الخاطر”. صحيح أن بيتنا حالياً هو بقايا بيت، لكن العلاقة به هي كالعلاقة بعضو من جسدي، بعيني، أو بذراعي، واستعادته تعني استعادة عضو مني كنت قد فقدته لسنوات. كانت المشاعر غريبة جداً وقاسية لحظة وصولي إلى البيت ليلاً واضطراري لدخوله على ضوء هاتفي، ثم التعامل مع كم الحزن الهائل وأنا أراه على حاله. لكنني تجاوزت ذلك خلال الزيارات المتكررة للبيت.
العودة إلى سوريا؛ كلها بكل ما فيها كانت فرصتي الأولى منذ ١٣ عاماً لاستعادة التوازن الداخلي، وموازنة علاقتي مع ذاكرتي، لكنها خلخلت علاقتي مع برلين، فأنا منذ عودتي من سوريا لا أطيق صبراً لمغادرة برلين والعودة إلى حمص وقلعة الحصن.
3- انتقل الحراك النسوي في سوريا مع بدايات الثورة من نضالات فردية أو مجموعات صغيرة إلى فكرة التغيير الاجتماعي والسياسي، كيف تقيمين دور وفاعلية النضال والعمل النسوي في سوريا بعد مرور أكثر من عقد؟
لقد أثبتت النساء حضورهن رغم أن الفضاء العام السوري كان نابذاً للمرأة في غالبه خلال العقد ونصف المنصرمين. السوريات انتزعن حضورهن في الساحات وفي العمل المدني والإعلامي ثم بخجل السياسي، وأقول بخجل ليس لأن السوريات يتهيَّبن خوض غمار العمل السياسي، بل لأننا نعرف أن المشهد المسيطر كان وما يزال ذكورياً في الأغلب.
راكمْنا خبرات مهمة، ومتنوعة، وتم تأسيس مجموعات عمل ومنظمات ومؤسسات من النساء، وصارت لدينا فرصة لنعرف بعضنا وعن بعضنا، لكنني ما أزال أرى احتياجاً غير قليل لمزيد من تعزيز المعرفة والثقة ببعضنا ومنح الدعم النسوي المفتوح لبعضنا. وأرى احتياجاً كبيراً للاحتفاء ببعضنا أيضًا فيما ننجزه أفرادًا ومنظمات.
4- ما هي التحديات التي ستواجه العمل النسوي في المرحلة الحالية بعد سقوط النظام من أجل تحقيق المساواة والعدالة؟
نحن لم نتجاوز أكثر التحديات التي كانت أمامنا في الأساس؛ القانونية، الاجتماعية، والدينية إن صح التعبير. بعد سقوط نظام الأسد، يكاد لا يختلف اثنان في سوريا على ذكورية المشهد الرسمي، في قياداته، سياسييه، إعلامييه، خبرائه، وأغلب أركانه، إلا استثناءات ما تزال معدودة، وهذا ينذر بخطورة تغييب النساء عن الشأن العام السوري. تمر سوريا بمرحلة حساسة ومفصلية على مستوى بناء الدولة، وكذلك على مستوى التماسك المجتمعي والحفاظ على ما تبقى من النسيج السوري، وشخصياً أرى هذه المهمة للنساء، وللنساء فقط. كما أرى ضرورة لفتح مجال أوسع لهن، وكذلك لأن نطالب بمكاننا ونحارب عليه، ننتزعه إن لم يمنح لنا دستورياً.
5- تتمة للسؤال السابق: في اللحظة الراهنة تتقلص المساحات المتاحة للنساء في الفضاء العام وحضورهن في السلطة السياسية عوضاً عن الشراكة مع النساء، ما هي أولويات العمل النسوي في هذه المرحلة من أجل إيصال أصوات النساء؟
نحتاج إلى حضور أكثف، نخلقه لأنفسنا ولبعضنا البعض إن لم تتحه الجهات الرسمية اليوم، وهذا ممكن عبر الأنشطة داخل وخارج سوريا، لكنني أشدد على النشاط والحضور داخل سوريا، لتفعيل دورنا، ونقله للنساء ممن هم في الداخل أصلاً.
نحتاج في هذه المرحلة لجهد بحثي ومسح للاحتياجات ومستويات المعرفة والخبرات والتطلعات بين السوريات، والتخطيط والبناء على أساس ذلك.
6- عملت في الصحافة في أكثر من جريدة ومجلة كما توليت رئاسة تحرير مجلة سيدة سوريا لخمسة أعوام، كيف تنظرين إلى مدى تطور الإعلام الثوري السوري أو ما يسمى بالإعلام البديل؟
أظن أننا بحاجة للتفريق بين الإعلام الثوري والإعلام البديل، إذا كانت تسمية “الإعلام البديل” تنطبق على المشاريع الإعلامية التي تأسست بعد عام ٢٠١١، ما استمر منها وما خفت.
من جهة؛ شكلت ظاهرة المواطن/ة الصحفي/ة حالة متفردة في الإعلام السوري، رغم كل ما يحيط بها من نقص في المهنية والموضوعية، ووجودها كرد فعل على الحاجة الماسة لتغطية ما كان يجري من أحداث وانتهاكات في غياب صحافة محلية احترافية أو صحافة دولية. لاحقاً تطورت الحالة، وخضع المئات من النشطاء/ات الإعلاميين/ات للتدريب وتطوير المهارات، كما شهدنا ولادة عدد من وكالات الأنباء، وكذلك الصحف والراديوهات ثم التلفزيونات التي غطت قضايا الثورة والثائر/ة السوري/ة، واليوم نشاهد العديد من النشطاء/ات الإعلاميين/ات يتصدرون المشهد الإعلامي الرسمي، ورغم احترامي الشديد للعديد منهم ومعرفتي بهم والعمل سابقاً مع بعضهم، لكنني أرى أن حالة من “الناشطية الإعلامية” تغلب على المشهد الإعلامي على الأرض، تبعده عن أن يكون إعلاماً موضوعياً أو محايداً.
لا بد من الإشارة إلى أن هناك مشاريع تأسست في نفس الفترة، وتحولت اليوم إلى مؤسسات ما تزال مستمرة بكل حرفية وتتابع التطور كعنب بلدي والجمهورية وحكاية ما انحكت. التحدي الأساسي كان لغالبية المشاريع المستقلة وما يزال متمثلاً في الاستدامة، وهذا مرتبط بجوانب وتحديات متعددة على رأسها التمويل. لم نتمكن في سوريا نتيجة ظروف الحرب وتردي الاقتصاد وتوزعنا في الشتات من تطوير نموذج ربحي للمشاريع الإعلامية يمنحها حالة من الاستقرار والتوازن المالي ويضمن استدامتها.
7- كصحفية عبرت عن رؤية نقدية للخطاب الإعلامي للثورة السورية تجاه النساء بسبب تركيزه على دورهن كضحايا، إلى أي مدى ما زالت العقلية الذكورية تفرض هيمنتها على هذا الخطاب، أم أننا أمام تحول نحو وعي نسوي لتغيير صورة المرأة في الإعلام لتكون أكثر عدالة وتمثيلاً؟
أشرت أن قضيتنا هي في التهميش وليس في وضعنا في صورة الضحية. لا يمكننا تجاوز أن السوريات والسوريين في عمومهم وخصوصهم كانوا ضحايا للانتهاكات والحصار والقصف والتجويع، والتداعيات غير المرئية للحرب، بمعنى الافتراق عن الأهل، توقف الدراسة، تغيير شرط وظرف الحياة، وما إلى هنالك. بالتالي، قضية أن نشعر بأنفسنا أننا ضحايا أم ناجون/ات تختلف حسب قدرة كل منا على استيعاب ما واجهناه منذ ٢٠١١ حتى اليوم، وتقبله والتعايش معه أو التعافي منه، دون الشعور بالخجل منه، ودون الاستتار خلفه أيضاً. أما عن هيمنة الخطاب الذكوري، فهذا واقع نحتاج للتعامل معه. الوعي النسوي موجود، ويتوسع في كل يوم في سوريا، لكننا نحتاج إلى قاعدة نسوية أوسع تخرج من إطار النسوية النخبوية، وتتجه إلى أبسط الدوائر النسائية السورية وكذلك أقواها. نحتاج في سوريا إلى تفكيك مفهوم النسوية بحيث يخرج من دائرة التهمة بين كثير من النساء، ونحتاج إلى مسارات عمل على الأرض اليوم تسكت عنا الجبهات التي تحاربنا من باب التشبه بالغرب والدعوة إلى تغيير أو خلخلة الموروث الاجتماعي/الديني في الأوساط المحافظة. نحتاج كذلك إلى التفكير ملياً باستقلالية النساء اقتصادياً، هذا هو احتياج التمكين الأكثر إلحاحاً اليوم وبعد سنوات الثورة والحرب، وهو ما يدعم تحول السوريات من موقع رد الفعل إلى موقع الفعل.
8- كامرأة توليت رئاسة حزب سياسي سوري حزب أحرار-الحزب الليبرالي السوري، ما هي التوصيات التي ترينها ضرورية لضمان مشاركة فاعلة للنساء في الأحزاب والحركات السياسية لتعزيز دورهن في العمل السياسي؟
الحقيقة أن المشاركة السياسية في سوريا لا تبدو متاحة اليوم أمام الرجال أو النساء، وقد يكون مرد ذلك إلى شكل الانتقال الذي حدث في ٨ كانون الأول ٢٠٢٤، وإلى سياسة “الدولة” الحالية في تثبيت حكمها دون فتح المجال أمام الأحزاب السياسية. لدينا بعض الأمل في عمل اللجنة القائمة على التحضير لانتخابات مجلس الشعب، لكنني شخصياً أخشى من مجلس شعب معين وليس منتخباً. لكن في كل الأحوال نحن بحاجة إلى عمل كثيف لنشر المعرفة السياسية بأبسط مفاهيمها بين السوريات والسوريين، ولا سيما الشابات والشباب داخل سوريا، وبحاجة كذلك للقرع على جرس الديمقراطية والمطالبة بممارسات ديمقراطية شفافة، وبحاجة مع الأسف إلى تثبيت نسبة للنساء في كافة الهياكل السياسية كأرضية ثابتة نقف عليها. أنا اليوم خارج حزب أحرار، لكنني أرى ضرورة تفعيل الحياة الحزبية وإنعاشها وإغنائها في سوريا. لا يمكن لسوريا أن تنهض إلا على تعددية سياسية وعلى نظام يتقن إدارة تنوعها ويتيح فضاءً واسعاً أمام مشاركة فعالة للنساء خاصة وللسوريين على اختلاف مشاربهم السياسية عامة.
9- قمت بتأسيس مشروع “نساء من أجل مساحات مشتركة” للعمل مع النساء اللاجئات في المانيا، كيف ظهرت فكرة المشروع وما هي الأهداف التي يسعى لتحقيقها؟
صحيح، تأسس المشروع في أيلول/سبتمبر ٢٠١٦، بعد شهور قليلة من وصولي إلى العاصمة الألمانية برلين. في ذلك العام شاركت كمتحدثة في العديد من الفعاليات التي نظمتها مؤسسات ألمانية مختلفة حول قضية الاندماج والعيش في المنفى، وإشراك اللاجئين/ات في الحياة العامة، وكان سؤالي الدائم: أين اللاجئين/ات الذين نتحدث عنهم؟ لماذا أتحدث عني وعن أبناء بلدي الكثر في برلين لجمهور ألماني فقط؟ وكانت وما تزال لدي الكثير من التحفظات حول مصطلح “الاندماج” الذي يحتاج من وجهة نظري أن يكون عملية ذات اتجاهين، بينما تقتصر في ألمانيا على اتجاه واحد، بالتالي الأجدى أن يكون اسمها “الإدماج”. من هنا جاءت فكرة “المساحة المشتركة” إلى ذهني، كبديل عن “الاندماج”، يتمثل في أي فضاء فيزيائي أو افتراضي أو نظري يلتقي فيه اللاجئ/ة بالمواطن/ة الأصلي دون الحاجة من اللاجئين/ات إلى بذل جهد ثقافي هائل لإثبات ندّيَّتهم واستحقاقهم، لقاء مبني على الكرامة المصانة من الطرفين وعلى احترام الاختلاف والاحتفاء به. أردت العمل بشكل خاص مع النساء لإيماني بحاجتنا نحن النساء إلى إطلاق أصواتنا، ولأن الظروف تتيح لنا ذلك في مكان كبرلين. كنت أيضاً أحاول مواجهة التقديم أو التأطير الإعلامي الظالم في جزء منه للمرأة السورية اللاجئة، ورأيت في المشروع فرصة لأن تبادر النساء ويكتبن كل عن نفسها ضمن سلسة “أصوات نسائية في المنفى“. أردت أن أحرر سردية النساء من قيود التحرير الصحفي أو البحثي، ومن خيال الأدباء. أردت أن أجمع كتاباتهم كما هي وأنقلها للمجتمع المضيف، بما يقدم صورة صادقة وحقيقية عن تطلعات وظروف واحتياجات ورؤى هؤلاء النساء.
في مرحلة لاحقة أضفنا مشروعاً لتدريب القيادات النسائية الشابة، ثم أطلقنا بودكاست نساء شجاعات، ومؤخراً بدأنا العمل داخل سوريا أيضاً على مشروعي تطوير القيادات الشابة، وصناعة الذاكرة النسائية “أصوات نسائية من سوريا”.
يسعى المشروع إلى بناء شبكة من النساء المدركات لقيمة وأهمية تجاربهن، والقادرات على تبادل التضامن على كافة المستويات، وصناعة التغيير السياسي في بلدان اللجوء، وأيضاً البلدان الأم، عبر العمل الثقافي والمدني.
10- من خلال خبرتك في العمل مع النساء السوريات خاصة اللاجئات وما يعانينه من حرمان متعدد الأبعاد اقتصادي واجتماعي وتعليمي، يبرز الحديث عن النسوية التقاطعية، هل تعتقدين أنها أكثر قدرة على فهم تعقيدات النضال النسوي في سوريا الذي يشمل تقاطعات عدة؛ القمع السياسي، التمييز الجندري، الطبقي وغيرها؟
بكل تأكيد؛ نحن بحاجة إلى تعميم التفكير التقاطعي، واعتماده كنهج في أي محاولة لفهم المجتمع السوري وتشعباته وفئاته بما فيها النساء. وحقيقة أن السوريات يلتقين في الكثير من مشتركات الألم والفقد والتطلعات، لكنهن أيضًا يختلفن في بعض الظروف، واليوم نرى الاختلاف يتعمق استنادًا على أبعاد تمنّينا ألا تتصدّر المشهد السوري يومًا، بالتالي تضاف الطائفية اليوم إلى الأبعاد التي نحتاج إلى اعتبارها عند عملنا مع النساء استناداً على النهج التقاطعي.
11- ظن السوريون والسوريات أنهم نجحوا في بداية عملية التحرير وسقوط النظام وبأنهم على طريق بناء سوريا المأمولة، غير أن انفجار الأحداث في الساحل السوري وسقوط مئات القتلى من المدنيين والمدنيات، وما تلاها من أحداث عنف مختلفة تضعنا أمام سؤال: كيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية لكسر دورات العنف والانتقام وبدء مصالحة حقيقية؟
لست خبيرة في مجال العدالة الانتقالية، لكنني أستطيع التحدث كصحفية وقبل ذلك كمواطنة سورية لديها من الخسارات ما لدى الكثير من السوريين والسوريات؛ ما يزال موقف الدولة الجديدة ضبابيًا بالنسبة لي حول موضوع العدالة الانتقالية، وليس هناك تفسير منطقي لإطلاق العديد من داعمي النظام السابق ورجالاته، مقابل كم هائل من الانتهاكات ارتكبه هؤلاء بحق جزء كبير من الشعب السوري. نحن بحاجة إلى مسار عدالة انتقالية واضح، وفعال، وجاد، يعطي السوريين والسوريات الأمان بأن ما جرى ستتم المحاسبة عليه، وبالتالي لن يحدث مرة أخرى. ولو كان هذا المسار أطلق منذ البداية لما شهدنا أحداث الساحل برأيي. اليوم نحن أيضاً أمام تحدي وطني كبير هو ما جرى مؤخراً في السويداء، ومع يقيني بأن أي شخصية “تخون الوطن” وتستنجد بدولة أجنبية يجب محاسبتها بشدة، لكن هذا لا يعني أن ما وقع على المدنيين والمدنيات من أهلنا في السويداء مقبول. تحتاج الدولة أن تكون في موقع منح الثقة للسوريين والسوريات بكافة أطيافهم بنيّة العمل على مسار العدالة الانتقالية لكي تتعافى سوريا والسوريون والسوريات من جراحاتهم ونستطيع بناء البلد على أرضية نظيفة.
12- اليوم سؤال العدالة الانتقالية سؤال تأسيسي يحدد شكل سوريا المستقبل، ماهي أهمية مشاركة النساء السوريات في بناء مسار العدالة الانتقالية؟
لا أدري إن كنا نحتاج للتركيز على إشراك النساء فقط في العمل على ملف العدالة الانتقالية. أظن أن هذه القضية بالتحديد هي شأن عام لكل السوريين، تحتاج الدولة بالتنسيق مع المنظمات الحقوقية لإدماج كافة شرائح المجتمع السوري فيها، واعتبار خصوصية العدالة التي تحتاجها كل شريحة بما فيها النساء، وأشير هنا أننا لا نستطيع التعامل مع السوريات كنسيج واحد عندما يتعلق الموضوع بالعدالة الانتقالية، لأن احتياجات العدالة للكردية اليوم هي غير احتياجات العدالة لامرأة من الغوطة، وكذلك غيرها لامرأة من الساحل، وهذا ما يتطلب ألا يتم شمل النساء كتلة واحدة في مسار العدالة، وهذا ليس من باب التفرقة، بل من باب التفكير بعدالة أصدق وأكثر جدوى، وبالعموم لا بد من الالتفات لحقيقة أن السوريات تكبّدن خسائر فادحة في الأرواح وفرص الاستقرار والممتلكات وشرط الحياة، بالتالي فإن أخذ توصيات النساء لا بد أن يوضع في محل الاعتبار.
13- في السياق السوري لم يكن هناك حياة حزبية حقيقية في ظل نظام شمولي قمعي، اليوم بعد سقوط النظام ما هي المهمة الأساسية للأحزاب في سوريا؟ وكيف يضمن الدستور تنظيم العمل السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية بما يعزز التعددية والفاعلية؟
في ظل النظام الشمولي الذي حكم سوريا لعقود، لم يكن هناك مجال فعلي لحياة حزبية أو لممارسة سياسية حرة، بل كانت الأحزاب إما تابعة لسلطة النظام أو تعمل في الظل، وغالباً ما يتم قمعها أو استخدامها. لذلك فإن المهمة الأساسية للأحزاب اليوم بعد سقوط النظام هي المساهمة في إعادة بناء المجال العام على أسس ديمقراطية تعددية، تُمكِّن المواطنين والمواطنات من التعبير عن رؤاهم ومصالحهم، وتطرح برامج حقيقية تخاطب احتياجات المجتمع، لا أن تكون مجرد هياكل شكلية أو نخب مغلقة.
الحياة الحزبية في سوريا الجديدة يجب أن تكون أداة أساسية في تكريس التعددية السياسية، والمحاسبة، وصناعة القرار، وهذا يتطلب ضمانات دستورية واضحة. يجب أن ينص الدستور بشكل صريح على الحق في تشكيل الأحزاب السياسية دون قيود أمنية أو أيديولوجية، وأن يضمن المساواة بين الأحزاب في التمويل، والإعلام، والتمثيل، وفرص الترشح.
كما يجب أن يُشترط على الأحزاب الالتزام بالديمقراطية الداخلية، وتكريس مشاركة النساء والشباب في هياكلها القيادية، ليس فقط كمبدأ عدالة، بل كضمانة لنهوض سياسي شامل وحقيقي. التعددية لا تُقاس بعدد الأحزاب، بل بمدى اختلافها واستقلالها وقدرتها على التأثير وتمثيل مختلف فئات المجتمع.
وأرى أن من مسؤوليتنا، كنساء، أن نطالب اليوم بضمان تمثيل حقيقي وعادل للنساء في الأحزاب والمجالس التشريعية، وأن ندفع من أجل إدراج مبادئ العدالة الجندرية والتمكين السياسي ضمن بنية الدستور، لتكون المشاركة السياسية للنساء ركيزة في الحياة السياسية المقبلة، لا ترفاً أو استثناء.