أصوات نسوية، مقابلة مع واحة الراهب
- updated: 20 مايو 2025
- |
“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”
مقابلة مع الفنانة والكاتبة واحة الراهب
إعداد: كبرياء الساعور
أهلاً بكِ واحة،
1- واحة الراهب؛ فنانة ومخرجة وكاتبة حازت على العديد من الجوائز في المجال السينمائي، كيف شكلت نشأتك وتكوينك تجربتك الشخصية حيث تداخل النضال السياسي والنسوي بالعمل الفني؟
تفتح وعيي منذ الطفولة على شرخ ما بعد هزيمة حزيران، والدعوة لاستمرار المقاومة الشعبية والدفاع عن القضية الفلسطينية وطرد المحتل كقضية مصيرية، وهو المنعكس بالضرورة على جو عائلتي، وشكل جزءًا من همّي الكابوسي، عبرت عنه بفيلمي السينمائي الأول الطويل “رؤى حالمة”.
كما تأثر وعيي باشتعال الحرب الأهلية في لبنان لأسباب دينية وطائفية في السبعينات واحتلال النظام السوري للبنان بحجتها. والتي لن تكون إلا مقبرة للأوطان تحولها إلى لعبة بيد قوى الاستعمار على مبدأ (فرق تسد). وهو ما أثبتته كل حرب طائفية أو استخدمت الدين لتحقيق مآربها وتفتيت المنطقة طائفياً لصالح قوى الاستعمار. وفي بداية الثمانينات بدء اعتقالات الأسد الأب للمعارضين، وانتشار الفساد، الوجه الآخر المكمل للطغيان وإطباق القبضة الأمنية لنظامه على خناق السوريات والسوريين، توجت بقيام النظام بمجازر حماة، أمام صمت العالم وتواطؤه التام كتم النفس السوري إلى أجل غير مسمى… إلى أن قامت الثورة بعد حوالي ثلاثين عاماً. وهو ما انعكس في رواياتي كلها.
سافرت إلى فرنسا لدراسة السينما بعد انتهاء دراستي للفنون الجميلة ودخولي عالم التمثيل، واكتشافي لسحر السينما أثناء خوضي تجربة التمثيل في فيلم “أحلام المدينة”. وانعكس مناخ القمع حتى على فيلمي الأول في سنتي الدراسية الأولى في السينما، الذي حصد الجائزة الفضية وشهادة تقدير مهرجان قليبية بتونس. وموضوعه عن نفي فتاة سورية لنفسها إلى فرنسا من شدة رهابها من أي مظهر للعسكرة تصادفه يذكرها بقمع العسكر في بلدها، وكل أفلامي اللاحقة جسدت قضايا القمع والقهر السياسي والاجتماعي. كذلك انحداري من عائلة تنتمي للأدب والثقافة، فأبي وعمي كاتبان روائيان، حصد عمي “هاني الراهب” أهم الجوائز العربية، ما جعلني نهمة على قراءة الكتب. وحين اندلعت ثورتنا وكسرنا معها حاجز الخوف والصمت، أطلقت صوتي الحر على مداه من خلال رواياتي كآخر وسيلة لم تصادر تماماً مني، في مواجهة ظلم النظام للناس كما بوجه حصاره لفكري ولأي إنتاج إبداعي لي. فالعمل الفني بكل تنوعاته برأيي هو أغنى انعكاس وتعبير عن الواقع، وهو يحمل رسالة فكرية ووجدانية مهما جنح إلى الخيال، تعبر عن هوية شعب وتؤرخ لحضارته ومسيرته.
2- كفنانة ومثقفة مهتمة بالشأن العام شاركت في المنتديات السياسية لربيع دمشق، وكنت من الموقعين على بيان 99 الذي وقعه مثقفات ومثقفون سوريون بعد وفاة حافظ الأسد، طالب فيه الموقعون بإصلاحات سياسية شاملة من ضمنها إلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة والتعددية السياسية، وتعرضت إثر ذلك للرقابة والتضييق في عملك، ما الذي دفعك للمشاركة؟
هو ذات السبب الذي جعلني أنتمي للثورة من بدايتها وأبكي فرحاً لانطلاقها بوجه الظلم طلباً للحرية مهما كان الثمن باهظاً. هو الحلم الذي لا ينطفئ بالحرية ونزعة نحو مناصرة كل المظلومات والمظلومين والمقهورات والمقهورين التي رافقتني منذ بداية حياتي، ودفعتني لتبني قضايا المرأة مبكراً لكونها أكثر الفئات اضطهاداً ومعاناتها سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية مزدوجة، من المنظومة العامة للمجتمع ككل، ومن الرجل الشريك لها في اضطهاد المنظومة له ولها معاً، حتى في مشروع تخرجي من كلية الفنون الجميلة كان بعنوان “واقع المرأة العربية”، وبمشروع أطروحتي لنيل الماجستير في السينما اكتمل بتأليفي لكتاب “صورة المرأة في السينما السورية”، ومواضيع كل أفلامي الدراسية والاحترافية، من فيلم “منفى اختياري”، و”جداتنا”، لفيلم “رؤى حالمة”، و”هوى”، و”قتل معلن”، و”الخرزة الزرقاء”، و”حقيبة لرأس السنة”، و”النقمة المزدوجة” ومسلسل “بيت العيلة” من إخراجي. كذلك كل الروايات والسيناريوهات التي ألفتها. كلها حملت هم الدفاع عن قضايا الإنسان ككل، والمرأة بشكل أكبر، لكونها الأكثر اضطهاداً في المجتمع.
3- أنت من المساهمات في تأسيس منظمة “جمعية المبادرة الاجتماعية” وهي جزء من التحولات في المجتمع المدني السوري بعد عام 2000 التي ناصرت قضايا المرأة خاصة القانونية وتعرضت الجمعية للهجوم والاتهامات من منابر الجوامع بعد قيامها باستطلاع رأي حول قانون الأحوال الشخصية، كيف تقيمين نضال المرأة السورية والتحديات والعوائق التي واجهها النضال النسوي في تلك المرحلة؟
جمعية المبادرة التي أسسناها وكنت أنت مشاركة معنا فيها، كانت سباقة في نشر دراسة بعنوان “شاركونا” استشهدنا فيها بآيات قرآنية تدحض الكثير من قوانين الأحوال الشخصية الظالمة بحق المرأة وادعاء اكتساب شرعيتها باستيحائها من القرآن، كما كنا وراء تغيير قانون رفع سن الحضانة لصالح المرأة وحق الحاضن في الاحتفاظ بسكن الزوجية لرعاية الأطفال عام 2003، وتمكنا من تحقيق القسم الأول برفع سن الحضانة بعد نجاحنا بجهود جماعية في جمع خمسة عشر ألف توقيع وتقديمه لمجلس الشعب. وإن لم يتحقق القسم الثاني الخاص بحق الحاضن في سكن الزوجية وحرمت المرأة من الاحتفاظ بسكن الزوجية، مما زاد الأعباء عليها بتغير هذا القانون بدل أن ينصفها. وكان أهم إنجاز لنا العمل على استطلاع رأي حول قانون الأحوال الشخصية غير مسبوق في سوريا نشر في كتاب، رصد آراء ومواقف نساء ورجال من خلفيات اجتماعية واقتصادية وثقافية متنوعة في ست محافظات سورية حول قوانين الأحوال الشخصية ومدى مشروعيتها أو اضطهادها للمرأة. وهو ما دفعنا ثمنه إيقاف الجمعية عام 2007 بقرار تعسفي، على إثر دعوة وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية “ديالا الحاج” لمكتبها، لتعلمنا باستنفار منابر الجوامع ضدنا لتعدينا على سيطرتهم على الشارع السوري مطالبة بإيقاف الاستبيان، ورغم وعدنا لها بإيقافه لمدة شهر لكن المنابر الدينية استمرت بالتحريض ضدنا، فأصدر شيخ جامع الدرويشية كراساً ضدنا وكتب البوطي أننا عملاء للموساد وبوش…إلخ. ورغم أننا ردينا عليهم بالصحف، لكن قرار سحب ترخيص الجمعية وإيقافنا عن العمل تعسفياً كان أسرع. وهذا يعني أن كل جهودنا مرتبطة أولاً بتغير سياسي ينتج عنه كل التغيرات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المؤثرة في الذهنية المتخلفة التي ينتج عنها سن قوانين قاصرة ومجحفة بحق المرأة.
4- قدمت رؤية نقدية لواقع النساء في سوريا من خلال أعمالك السينمائية والأدبية، كنت من أوائل من انتقد صورة المرأة النمطية التي تكرس الأدوار التقليدية للنساء، حيث صدر لك عام 2001 عن وزارة الثقافة كتاب “صورة المرأة في السينما السورية” كيف تتطلعين اليوم لدور الفن والدراما في تغيير الصورة النمطية للنساء؟
كان كتابي هذا سباقاً في طرحه اختزال صورة المرأة في أنماط جاهزة في السينما السورية، لكون قضية المرأة أصلاً مهمشة تماماً باستثناء تزييف الاتحاد النسائي السلطوي لواقعها. لكني لم أحصر صورتها باتجاه واحد وهو الاتجاه الإصلاحي، بل خصصت فصلاً للاتجاه الآخر وسميته النقدي التغييري، الذي اقترب إلى حد كبير من طرح صورتها بواقعية خارجة عن تنميطها الذكوري أما صورة المرأة في الواقع اليوم فهي أكثر نصاعة وفاعلية بعد مشاركتها الندية للرجل بعد اندلاع الثورة والاعتقال وتقديم التضحيات والإسهام بتطوير واقعها وإحداث التغيير. وقد تطور منظور الدراما والسينما السورية في تقديم إمكانياتها ومكانتها وصورتها ومعاناتها وأحلامها الواقعية سلباً أم إيجاباً، قبل وفي بدايات الثورة، وكذلك في كثافة مشاركتها ككاتبة للدراما في التعبير عن قضاياها. رغم ذلك لم نشهد أعمالاً أنصفتها حقها بعد الثورة بما يكفي، حتى بالأعمال التي تحدثت بجرأة ومصداقية عن الثورة غالباً ما كانت فيها المرأة محدودة الدور والفاعلية الثورية، وهو ما ينطبق على التقصير في إعطاء الثورة حقها درامياً أيضاً. ربما بسبب سيطرة النظام والإعلام والسياسات المضادة لثورات الشعوب، وبالتالي استبعاد لدور المرأة الحقيقي في الثورة. ولذلك شهدنا توجهاً مقصوداً نحو تسطيح الهم العربي في الإنتاجات الدرامية واللجوء إلى الأعمال البيئية والتاريخية وتعريب التركي للهروب من الرقابات السياسية.
5- واحة الراهب أول مخرجة في السينما السورية; أخرجت فيلم روائي طويل “رؤى حالمة” الذي حمل رسائل عن واقع النساء في ظل الاستبداد السياسي والاجتماعي، هل ترين أن السينما النسوية في العالم العربي قادرة على إحداث تحول حقيقي في وعي الجمهور بقضايا المرأة؟
رغم أن تجربتي القاسية لتحقيق أول فيلم سينمائي طويل لمخرجة كلفتني عشر سنوات لتحقيقه، وحروب قاسية خضتها على عدة جبهات مهنية وإعلامية. إلا أنني أجد أن إطلاق سمة سينما نسوية هو ضرورة فقط للتعبير عن وجود مظلومية بحقها، كما يطلق على سينما القارة السوداء أو السينما الفلسطينية للدفاع عن مظلومية بانتهائها تنتهي تلك التسميات. لكون السينما إبداع كغيرها من الإبداعات الإنسانية لا فرق أو تميز لجنس على الآخر إلا بقدر بصمته الإبداعية وتعمقه في العالم الذي يعبر عنه أكثر من غيره. ولو لم يشكل أي عمل فني كهذا تأثيراً على تحول الوعي في مجتمعنا، يساهم في خلخلة أسس المهيمنين الفاسدين المنتفعين من إبقاء التخلف وانحسار الوعي بقضايا المرأة، لما حوربنا بهذه الشراسة وإلى يومنا هذا بمنع أعمالي جميعها وأي إنتاج سمعي بصري لي. لذا لا أرى أمام المجتمع والمرأة مناصاً من دعم الفن كأفضل وسيلة تعبير وأقربها لروح الناس، للمساهمة في تشكيل الوعي وإحداث التغيير لانتزاع حقوقها كما حقوق المجتمع ككل.
6- قلت “أن الإبداع الروائي لا يزدهر إلا في فضاء الحرية“، هل وجودك بالمنفى منحك حرية التعبير بشكل أوسع بعيدًا عن قبضة الرقابة؟
المنافي ساعدتني في تحرير طاقاتي بعيداً عن هاجس الرقابة وقمعها وقد أطلقتها الثورة أصلاً حين كسرنا حاجز الخوف. إذ لا يمكن لما كتبته في رواياتي أن يبصر النور لو كنت في الداخل دون بتر وإخصاء مهما كنت قادرة على المواجهة كما سبق مع فيلمي الطويل “رؤى حالمة”، لكن ما طرحته في رواياتي هو أكثر جرأة منطوقة لغوياً لا يمكنها التواري خلف إيحاءات بصرية سمعية كما هو حال الفيلم. ما كنت أنا نفسي أبصرت النور لاستكمال ما كتبته أمام وحشية بطش النظام، فقد عبرت في رواياتي بجرأة عن استباحته لحياة شعبٍ بأكمله لأسباب أقل من ذلك بكثير. وموضوع روايتي الأولى “مذكرات روح منحوسة” كان أقدم من المنفى، ولم أتمكن من تحقيقه قبل الثورة بسبب القمع الرقابي الذي ما كان يسمح بصياغتي لأفكاري بحرية، ولا يسمح بنشرها إن كانت معبرة عن صدق رؤيتي الروائية، وهو ما جعل حياتي مهدورة ورأسي مطلوبًا لديهم للمقصلة رغم وجودي في الخارج. كما استدعى المنفى تفرغي للكتابة الروائية بعد استبعادي القسري من المشهد الدرامي ومنعي من العمل في المجالات الفنية كممثلة ومخرجة وكاتبة سيناريو، بسبب موقفي المعارض لنظام الإجرام. والحرية هي أهم شرط للإبداع الروائي تحديداً، لكونه لا يتكئ على مفردات إبداعية غير الأحرف وقدرة بوح الكلمات السحرية في سرد وصياغة كل ما يراد التعبير عنه، بجمالية اللغة العاكسة لفكر وروح وخيال الكاتب/ة، لا تملك الرواية غيرهم للالتفاف وتجاوز القمع الرقابي. لا كما السينما تتكئ على مجموعة كبيرة من المواهب الإبداعية، ومن كوادر فنية تشكل لوحاتها الخاصة المعبرة عن عالمها، وعن دلالات تبث رسائلها المقموعة المشفرة عبر الصورة أولاً. لذا تحمل الرواية إعجازها في صدق سردها لا متناهي القدرة التعبيرية. وبهذا مكنتني الرواية من التعويض عن فضاء الصورة بتحليق مجازات الكلمات المحرضة لخيالات القراء إلى فضاءات أرحب، بما قد تعجز عدسة الكاميرا عن الإلمام بحدود انفلاتها عبر كادرها المؤطر برؤية المخرج فقط.
7- تضمنت رواياتك بعدًا نسويًا واضحًا سواء في الشخصيات أو القضايا التي تناولتها وكشفت عن القمع المزدوج الذي تتعرض له النساء سواء من السلطة السياسية أو المجتمع الذكوري، هل ترين أن الأدب النسوي قادر على التغيير المجتمعي؟
كما قلت حول تسمية سينما نسوية مرتبطة بظاهرة اضطهاد تنتهي بانتهاء الظاهرة، كذلك الأدب النسوي، إذ أن الأدب أو الإبداع هو إنساني عام لا جنس له. وهو ما قد يستخدم ضد المبدعة أيضاً، كأن يحدد ويؤطر النقاد نجاح أي كاتبة بمقارنتها فقط ببني جنسها، حتى لو تفوقت على الذكور. وإن تضمنت رواياتي بعداً يركز على عالم المرأة لكوني أكثر التصاقاً ودراية بعالمها ورغبة في التعويض عن التقصير في التعبير عنه وعن قضاياها السياسية أو الاجتماعية ومعاناتها من المجتمع الذكوري كجزء من طرحي لقضايا المجتمع ككل، وليس قسراً على المرأة مزدوجة المعاناة، فروايتي الأولى “مذكرات روح منحوسة” تعبر عن قضايا المرأة والرجل معاً من خلال شخصية رئيسية لرجل وليس لامرأة. وهو ما يفترض أن يكون هاجس أي مبدع صادق في تعبيره عن مجتمعه وقادر على التأثير به من خلال الأدب، بغض النظر إن كان كاتب، أو كاتبة، أو تناول شخصيات لنساء أو ذكور. وبهذه الصدقية يكون الأدب قادرًا حقًا على التأثير المجتمعي عبر إعادة تشكيل الوعي وخلق الهوية الجامعة واستكمال الحلم بحرية كل المجتمع برجاله ونسائه. وهذا وحده ما يضمن التغيير للجميع.
8- في روايتك “حاجز لكفن” الصادرة عام 2020 التي وصفت هول معاناة المعتقلات من خلال سرد عميق ومؤثر، وسلطت الضوء على معاناة النساء من عنف النظام الذي يتقاطع مع قمع اجتماعي واستبداد الديني، ما هي أهمية إبراز تعدد أصوات النساء واختلاف تجاربهن في إطار تنوع السياقات في سوريا من منظور نسوي؟
لا شك أن تعدد وتنوع إبراز أصوات النساء على اختلاف تجاربهن يكشف بسعة أكبر حقيقة واقع المرأة ومعاناتها المتعددة، وتشابك واقعها المعقد المقموع على كل الأصعدة، وما قدمته في روايتي “حاجز لكفن” هو التعبير الحقيقي عن هذا التشابك الفعلي المعقد في واقع المرأة، وأظن أن روايتي هذه تروي ما تعانيه أغلبية النساء يومياً، وبالتالي تبسط أفقاً جديداً لفهم الصراع الداخلي الذي تعيشه المرأة، وربطه المحكم بالصراع الخارجي الناتج عنه بعلاقة جدلية تجعله مسبباً له في الآن ذاته. وهو ما أشار إليه عدة نقاد كتبوا عن “حاجز لكفن” عن كونها تلخص حكاية مجتمع بأكمله من خلال قضية امرأة هامشية. آراء رأت في هذه الرواية نكأً للجرح الخاص بالمرأة كما الجرح العام للمجتمع المحلي والعربي عموماً، بربط محكم بين تشابك قضاياها ومصيرها بمصير الوطن بأكمله، وبنفس درجة التعقيد التي لا تسمح بتحرر مجتمع بمعزل عن تحرر المرأة.
9- في فيلمك “موت معلن” وهو فيلم قصير عن زواج القاصرات، رصد معاناة النساء في مجتمع اللجوء والمخيمات. لقد قدمت النساء السوريات تضحيات كبيرة خلال سنوات الثورة، ولعبن دورًا مهمًا في دعم صمود مجتمعاتهن. كيف ترين دور النساء في إعادة بناء سوريا بعد الحرب؟
رغم أن الحرب خلقت حالة فوضى وانفلات قانوني، جعل موضوع فيلمي عن زواج القاصرات وهدر حقوق المرأة أمراً مباحاً أكثر، لكن النساء السوريات اللواتي قدمن كل التضحيات بتوازي مع الرجال، أظن أنهن قد وعين أنهن الأكثر مصلحة في انتصار الثورة لمعاناتهن المزدوجة التي لن يوقفها إلا تحقيق نظام مواطنة حر وعادل، يكفل الحريات وتساوي الحقوق والواجبات للجميع، ويسعى مع تغير القوانين المجحفة بحقها إلى تغيير الذهنية الذكورية المتخلفة المسؤولة أولاً عن إهدار حقوقها ودونية وضعها في المجتمع رغماً حتى عن القانون إذا أنصفها. وللحفاظ على حقوق النساء ومكانتهن عليهن أن يكن مقررات في النظام السياسي القادم وفي اللجنة الدستورية القادمة المقررة لمصيرها دستورياً. ولا أظن أن نساءنا اللواتي حملن كل تلك المسؤوليات والتضحيات والتطور في الوعي، سيقفن سلبيات أمام الإجحاف في حقهن وتقرير مصيرهن. أو يفرطن بمكتسباتهن وقد تذوقن طعم الحرية التي لا رجعة عنها.
10- كامرأة ناهضت القمع السياسي والاجتماعي وانخرطت في النضال ضد السلطة الأسدية، كيف أثرت تجربتك في سوريا على تشكيل وعيك النسوي، وهل يمكن فصل النضال النسوي عن النضال السياسي؟
لطالما كانا متلازمين في تشكيل وعيي، ومنذ طفولتي كنت معنية بحمل هموم الأكثر مظلومية بين المضطهدين في الحياة تحت أي شكلٍ كان سياسي أم اجتماعي أم غيرهما. وكون المرأة هي الأكثر اضطهاداً ومعاناة على كل الأصعدة، حتى القانونية منها، لذا تلازم حملي لقضيتها منذ طفولتي، وكانت عنوان لمشروع تخرجي بمجموعة لوحات بعنوان “واقع المرأة العربية” كما كانت موضوع أفلامي ورواياتي جميعها بتلاصق مع قضايا المجتمع ككل. وموضوع أطروحتي للحصول على الماجستير في دراستي للسينما بكتابي “صورة المرأة في السينما السورية”، كما كانت الدافع لمساهمتي بتأسيس أول أو ثاني جمعية نسائية رخصت باسم المبادرة.
لم أتمكن يوماً من فصل نضالي السياسي عن نضالي النسوي لأنهما وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن تحقيق أحدهما دون الآخر. فلا النساء سيتحررن دون تحرر المجتمع ككل بنظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولا المجتمع سيتحرر إن أقصى وقمع واضطهد نصفه الفاعل.
11- بعد أن ظن السوريون والسوريات أنهم نجحوا في بداية عملية التحرير وسقوط النظام وبأنهم على طريق بناء سوريا المأمولة؛ غير أن انفجار الأحداث في الساحل السوري وسقوط مئات القتلى من المدنيات والمدنيين تضعنا أمام سؤال: كيف يمكن ضمان السلم الأهلي ومنع قيام حرب أهلية وما هو دور الفن في ذلك؟
ضمان السلم الأهلي لا يتم إلا عبر تحقيق نظام مواطنة مدني حر، يساوي بين الجميع بالحقوق والواجبات ويطلق الحريات ويفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، ويحقق العدالة الانتقالية بمعاقبة قانونية لمن أجرم بحق شعبنا كائناً من كان دون تمييز أو محاباة. وهو ما يضمن بدوره التفاف الشعب حول قيادة تمثل الجميع دون تمييز، فيدافع الشعب بذلك عنها بروحه لصون حرياته أولاً، التي كلفته ثمناً غالياً لاستحواذها من قبضة أشرس نظام إجرام حكمنا أكثر من نصف قرن، ولا يمكن التفريط بهذه الحريات بعد اليوم.
12- تمرّ سوريا بمرحلة انتقالية حساسة بعد سقوط نظام الأسد. ما هي الضمانات الدستورية والقانونية التي تضمن للنساء دورًا فاعلًا في المرحلة الانتقالية وصياغة الدستور؟
نساؤنا يشكلن الآن أكثر من نصف هذا المجتمع الفعال والمضحي والمربي للأجيال بعد أن غيبت الحرب الكثير من رجالها. حملن على أكتافهن إعادة بناء العائلة المنكوبة وهن الأكثر مصلحة في انتصار الثورة والحفاظ على الحريات المكتسبة بتضحيات الجميع، لذا لابد من تثبيت حقهن في إدارة النظام السياسي بكوتا تضمن تمثيلهن بنسبة لا تقل عن (35 بالمئة) في كل مؤسسات الحكم. لتكون المرأة مسؤولة إلى جانب الرجل عن تثبيت الحريات المكتسبة وسن القوانين وعن تقرير مصيرها ومصير البلاد على جميع الأصعدة. لذا لا يمكنها الرجوع للخلف بعد كل ما أنجزته من تقدم، والسماح للاستبداد أن يتكرس عبرها وعلى حسابها. والأهم تفكيك الذهنية المتخلفة الذكورية المسؤولة بشكل كبير عن تخلفنا وعبوديتنا رجالاً ونساءً. الأمل موجود دائماً إن لم نستسلم ونسمح بثورة مضادة تلتف على مطالبنا الحقيقية، خاصة إذا ساهمنا في زيادة امتلاكهن وامتلاك المجتمع للوعي والحرية أكثر. وانتشال المرأة من دوامة التهميش والحرمان كما الرجل إلى دائرة الوعي، وتضافر جهودها وتلاحمها مع نصفها الآخر، الرجل، ومع كل مكونات المجتمع الأخرى المشكلة لنسيجه الوطني.