الأمان الاقتصادي والعقد الاجتماعي من وجهة نظر السوريات

*صبيحة خليل

بتاريخ 16 أيلول 2020 أطلقت الحركة السياسية النسوية السورية ورقة الأمان الاقتصادي والعقد الاجتماعي والهوية الوطنية والسلم الأهلي مع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك بحضور عدد من الشخصيات المهمة والمهتمة بالوضع السوري، تم اللقاء بشكل افتراضي بسبب ظروف جائحة كورونا.

ويأتي نشاط الحركة الأخير والمعتاد ضمن سلسلة الأوراق التي تعمل عليها الحركة بهدف إضفاء رؤية نسوية على الشأن السياسي السوري، وللخروج من حالة النخبوية والشرخ التي فرضتها ظروف الحرب والاستبداد حول نمطية العمل السياسي التقليدي. لذلك بدأت الحركة السياسية النسوية السورية بالتواصل مع نساء الداخل وكان دافع ومحرك هذا التواصل هو ربط الحركة مع القاعدة الشعبية وبناء مصداقية وحالة تكاملية ما بين الداخل والخارج، ومن جهة أخرى لتقليص المسافة بين النخب والقواعد الشعبية، والملفت أنه في واحدة من جلسات التواصل والنقاش اختصرت إحدى المشاركات حالة التشظي السوري واللجوء القسري والتناقض بقولها: “نحتاج إلى مترجم ما بيننا نحن من في الداخل ومن هم في الخارج”. هذا التوصيف وغيره من مشاركات النساء طور من أهداف الحركة وصار إيصال هذه الرؤى والطروحات والأوجاع، حول مختلف المواضيع التي يحتدم حولها النقاش والجدل بخصوص سوريا، راهناً ومستقبلاً، ونقلها بأمانة إلى مراكز صنع القرار، بهدف تضمين منظور النساء في الحل السياسي المرتقب.

من هذا المنطلق وغيره قامت الحركة على مدار أكثر من عام ونصف بتسيير جلسات وطنية لنساء سوريات من خلفيات سياسية واجتماعية ودينية واثنية مختلفة من مناطق سورية متنوعة حول جملة مواضيع مثل، الدستور، إعادة الإعمار، عودة اللاجئات/ين، العقد الاجتماعي والهوية الوطنية والسلم الأهلي، وآخرها كان الأمان الاقتصادي. وتحولت مخرجاتها إلى أوراق سياساتية استطاعت الحركة عبر علاقاتها وقنوات تواصلاتها أن تمررها إلى منصات القرار الدولي والمحلي.

في الورقة الأخيرة حول الأمان الاقتصادي حددت النساء مقومات البيئة الآمنة اقتصادياً لمواجهة التحديات مستقبلاً، ودورهن في تحقيق الأمن الغذائي والمائي، ومواجهة الواقع الحوكمي والخدمي السيء، وتراجع الخدمات الطبية والتعليمية. حيث تعاني المرأة السورية على امتداد التراب السوري سياسات التهجير القسري وفقدان مصادر الدخل وشح الموارد، وهيمنة وتحكم قوى أمر الواقع على تلك المصادر بما فيهم النظام، ولخصت إحدى المشاركات مدى تأثير الحصار والتجويع الذي فرضه النظام على المناطق الثائرة ضده على النساء بقولها: “زوجت إحدى الفتيات مقابل كيس قمح عوضاً عن المهر أثناء حصار الغوطة الشرقية”، وأكدت النساء أن الحرب أوجدت صنفاً جديداً من تجار الحروب، هدفهم التحكم بحيوات السوريات/ين، ودلت إحداهن على أزمة الوقود بقولها: “أضطر للانتظار أكثر من عشر دقائق كي أعبر الشارع أثناء مرور أرتال شاحنات القاطرجي المحملة بالنفط، ثم أعود إلى منزلي الخالي من المازوت… نحن نتسول المازوت وهم يتمتعون به”. بينما قالت إحدى المشاركات من عفرين: “نحن نفلح أرضنا بعرق جبيننا ودمنا وعندما يأتي موسم القطاف والحصاد يمنعوننا من قطف المحصول أو يستولون على موسم الزيتون”.

 ومن خلال المتابعة ظهر بوضوح تأثير تحكم أمراء الحروب في مختلف المناطق السورية، فئة لا توفر سبيلاً لجني المال، وهذا ما وضحته إحدى المشاركات من درعا بالقول: “من الذي يتمتع بالأمان الاقتصادي؟! قبل المصالحات وبعدها؟ قائد الفصيل هو وحده من يتمتع بالأمان الاقتصادي”. ففي الوقت الذي يتمتع قادة الفصائل بتجارة الحرب تتضور باقي الفئات جوعاً، ووصل تدهور الوضع الاقتصادي لدى العائلات السورية لدرجة الخوف من مرض المعيل. أي مصدر الدخل أو المنتج ضمن العائلة، وهذا ما أكدته إحدى المشاركات من السلمية بقولها: “زوجي هو المعيل وهو يحاول جاهداً ألا يمرض كي لا يغيب عن العمل”. 

في الحقيقة أظهرت النساء وعياً سياسياً فطرياً صقلته تجارب الحرب، سيما اتجاه قضايا الفساد وتفاصيل آليات اقتصاد الحرب وعلاقة ذلك مع سياسات التغيير الديمغرافي اللاحقة، حتى أن مشاركة من سلقين اختصرت هذا التطور في شخصياتهن بقولها: “صرنا نعتمد على أنفسنا ونعرف حقوقنا ونسعى ونطالب بها هذه من إيجابيات الحرب”. بينما أشارت نازحة من داريا تقيم في السويداء إلى ممارسات النظام عبر قوانين الاستملاك المجحفة: “وضع النظام إشارة الحجز على معظم ممتلكات عائلتنا. كل الأملاك باسم الرجال وغالبيتهم معتقلون أو مهجرون. حاول أخي متابعة الموضوع لكنه تعرض للكثير من المضايقات. أعتقد أننا نتعرض للضغط والتهديد لبيع ما تبقى من ممتلكاتنا”، في حين عبرت مهجرة إلى سلقين عن مخططات التهجير قائلة: “نحن لا نريد السكن في المناطق التي هجرنا إليها، نحن نريد العودة إلى أرضنا وبيوتنا”.

وجاءت توصيات النساء بتحرير مقومات الأمان الاقتصادي من التسييس والعسكرة ووقف العنف، ودعم السلم في البيئات الاجتماعية المحلية والعمل المدني عبر سياسات تضمن الانتقال إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي بعيداً عن الاحتكار، وخلق بنية مؤسساتية قانونية منصفة وعادلة. ولم تغفل النساء عن آليات المحاسبة عن الجرائم والفساد التي يجب أن تطال جميع المتورطات/ين.

أما فيما يخص تطلعات النساء إلى عقد اجتماعي جديد، كان واضحاً أنهن مدركات للتشوهات العميقة التي لحقت بالعقد نتيجة الاستبداد، فالدكتاتور اختصر الهوية بالولاء لشخصه في “سوريا الأسد”، وفرض أدبيات حزب البعث كمرتكز لهوية قسرية على كل السوريات/ين، مع انطلاق الحراك السلمي حينما صدحت حناجر الشابات والشباب السوريات/ين: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، لكن سرعان ما دمرت العسكرة بفعل قمع النظام هذا التطور السوري الملفت في مهده، وزاد تمزق العقد الاجتماعي، وتشظت الهوية السورية إلى ما قبل وطنية. ووصفت إحداهن ذلك بقولها: “الألم يجمعنا والأمل يوحدنا”، ويمكن الاستدلال على أن المصير المشترك الذي لاقاه الشعب السوري بمختلف أطيافه ومكوناته يدفع بالنساء نحو بناء عقد اجتماعي لا يقصي أحداً، يضمن حقوق الجميع، وهذا ما عبرت سيدة من سراقب بقولها: “يجب أن لا تكون الهوية الوطنية لسوريا مقتصرة على القومية العربية، وإلا لن يشعر الكرد بالانتماء وهم سوريون مثلنا”، وأغلبهن وجدن أن الجغرافيا السورية تجمع السوريات/ين، وأبدين مخاوفهن وقلقهن من الاحتلالات والجيوش والميليشيات الأجنبية على الأراضي السورية، وخلصت النساء إلى توصيات بشأن العقد الاجتماعي والهوية الوطنية والسلم الأهلي يمكن اختصارها على النحوالتالي:

1.   الحفاظ على استقلالية القرار السوري، وإجراء حوار سوري سوري برعاية أممية دون تدخل مباشر من الدول الخارجية.

2.   وضع أطر تشاركية تسمح بإيصال مطالب الشعب واحتياجاته إلى طاولة المفاوضات وإدراجها في العقد الجديد.

3.   إنشاء طاولة حوار مستمرة بين مختلف مكونات وأطياف الشعب السوري للبحث عن نقاط التلاقي والترابط الاجتماعي والسياسي.

4.   توحيد جهود منظمات المجتمع المدني لإنهاض وعي جماعي حول قيم السلم الأهلي ودولة المواطنة.

5.   وضع إطار تنفيذي يوحد الرؤية والأهداف بين التيارات السياسية والمنظمات المناصرة لحقوق المرأة، لرسم رؤية مشتركة لمقترحات النساء السوريات لمسار الحل السياسي في الداخل والخارج.

6.   إنشاء لجنة قانونية من أطراف الصراع للاستماع إلى المتضررات/ين واحتياجاتهن/م والنظر في ملفات الخطف والاعتقال والتغييب القسري وتأمين العودة الطوعية الآمنة ولم شمل الأسر.

على الرغم أن ورقتي العقد الاجتماعي والأمان الاقتصادي كانتا موضوع النقاش، إلا أن الأسئلة تشعبت حول اللجنة الدستورية من منظور النساء، وإعادة الإعمار ورؤية النساء لمستقبل بلدهن، والمرأة ودورها في هيئة المفاوضات، بالإضافة إلى معرفة المزيد عن أهداف وأعمال الحركة السياسية النسوية السورية. كما أخذ محور قدرة السوريات/ين على صياغة عقد اجتماعي جديد وبلورة هوية وطنية جديدة، وعلى سبيل المثال المكون الكردي ووجهات النظر التي حصلنا عليها عبر الجلسات الوطنية حيزاً كبيراً من الاهتمام، والتحديات التي تواجه السوريات في ظل سلطات أمر الواقع المتعددة، بتأثير مجمل الاستقطابات الإقليمية والدولية.

ختاماً، يمكن القول إن البعض يختصر دور المرأة فقط خلال مراحل إرساء السلام في بلدان أنهكتها الحروب، وكأنهن أشبه بمطافئ الحريق تستخدم فقط لإخماد الحرائق، ثم تتركن في الزوايا المهملة وقت السلم. ورداً على هذا الجمود تعمل الحركة السياسية النسوية السورية انطلاقاً من إيمانها بالمشاركة التامة في الحياة العامة ورسم ملامح مستقبل سوريا، وعدم التراجع عن الأدوار الريادية التي لعبتها المرأة السورية في فترة الصراع وكسر الأدوار النمطية، وهذا ما عبرت عنه إحدى النساء قائلة: “لا أقبل العودة إلى الحياة السابقة والمعتادة حيث التمييز ضد النساء… يجب أن تتغير القوانين”.