الانتحار: صرخة مكتومة ضد العنف
- updated: 29 نوفمبر 2024
- |
*هناء الخضر
لم يكن الانتحار في يوم من الأيام قرارًا فرديًا؛ بل نتيجة سلسلة طويلة من الآلام والعنف الذي يُمارس بصمت أو علانية على الضحايا. العنف بمختلف أشكاله الجسدي، النفسي، الاجتماعي، الاقتصادي، جعل ظاهرة الانتحار تبرز كجرس إنذار ينبه إلى عظم المأساة التي تدفع الإنسان إلى الهروب نحو الهاوية.
ظاهرة الانتحار في سوريا
بحسب إحصائية نشرها حديثًا منسقو استجابة سوريا، شهد العام الحالي تزايدًا في حالات الانتحار حيث بلغت (191) حالة في عموم مناطق سوريا منها (104) حالة انتحار و(87) محاولة انتحار، تُعزى أسباب زيادة الحالات إلى ازدياد العنف والتفكك الأسري، والاستخدام السيئ للتكنولوجيا، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة والفقر وانتشار المخدرات في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية في عموم سوريا.
بينما كشفت إحصائية صادرة عن وزارة الصحة في حكومة النظام تم نشرها عبر موقع هاشتاغ تشير إلى ارتفاع حالات الانتحار بنسبة 8% عن عام 2023، حيث شهدت الأشهر الستة الأولى 620 حالة انتحار من العام 2024 منها 325 حالة بين النساء بمختلف مراحلهن العمرية، فيما كان عدد الحالات 675 في عام 2023 كاملاً، وبحسب موقع هاشتاغ فإن هذا الارتفاع يعود للظروف الحياتية الصعبة التي ساهمت في انتشار الاضطرابات النفسية.
النساء والانتحار في سوريا
إلى جانب تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة الحرب وما رافقها من حالات النزوح والتهجير والفقد، فقد وجدت النساء أنفسهن تحت ضغوط نفسية واجتماعية أكثر حدة انعكست بشكل سلبي على صحتهن النفسية، وقد أشارت الإحصائيات إلى أن حالات الانتحار بين فئة النساء تزيد عن فئة الرجال بنسبة 8% خلال عام 2024، وهذا نتيجة الآثار التي خلفتها الحرب من ازدياد في حالات العنف الأسري النفسي والجسدي ضد النساء وحالات التزويج القسري وتزويج الطفلات من جهة، والتمييز المجتمعي في مختلف مجالات الحياة من جهة أخرى، فوجدت بعض النساء أنفسهن محاصرات ومقيدات بقيود أسرية واجتماعية واقتصادية جعلتهن يعشن حالة من اليأس والعجز الشديدين، ولا يجدن المساحة الآمنة التي يمكنهن من خلالها التعبير عن احتياجاتهن ومشاكلهن النفسية، فيصبح الانتحار بالنسبة للكثيرات منهن هو الحل الوحيد للخروج من واقع لا قدرة لهن على تحمله. حتى هذا الحل لا ينجيهن من العنف والتمييز المجتمعي الذي يقع عليهن ويقلل من معاناتهن من قبيل (لو ما هي عاملة شي ما انتحرت)، ( يله خلصنا من وحدة) ، ( الله يعين أهلها شو عملت فيهن) وهذه العبارات تعكس بشكل كبير غياب الوعي حول أسباب الانتحار ودوافعه، وامتناع عائلة الضحية عن تقبل العزاء بموتها إلى حد التبرؤ منها تحت تأثير المعتقدات الدينية وثقافة المجتمع.
أسباب الانتحار في سوريا
تتعدد العوامل والأسباب التي قد تدفع الأفراد للانتحار أو التفكير به، وهي موجودة في جميع المجتمعات الإنسانية، كالاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والضغوط النفسية، وفي مناطق النزاع مثل سوريا تتفاقم العوامل والأسباب التي تدفع الأفراد لاتباع السلوك الانتحاري بهدف النجاة من ذلك الواقع بعوامله وأسبابه، ومن أبرز أسباب الانتحار:
الوضع الاقتصادي المتردي: أدى استمرار الحرب في سوريا إلى تدمير البنية الاقتصادية وارتفاع مستويات البطالة في ظل قلة فرص العمل، مما جعل معظم الأسر السورية تعيش تحت خط الفقر، الأمر الذي فاقم من الضغوط النفسية التي تدفع الأفراد أحياناً إلى التفكير في الانتحار والإقدام عليه هروبًا من الواقع المزري.
غياب الشعور بالأمان والاستقرار: تكرار حالات النزوح والتهجير، التي شهدتها مختلف المناطق السورية وغياب الحل السياسي الذي يجعل المستقبل المنظور غامض للغاية، أدى بشكل كبير إلى انتشار العديد من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب واليأس واضطراب ما بعد الصدمة، كما أدى إلى انتشار ظواهر نفسية واجتماعية تؤدي إلى التفكير بالسلوك الانتحاري مثل تعاطي المخدرات.
انخفاض قيمة الحياة: نتيجة عمليات القصف وارتفاع معدلات القتل والفقد والاخفاء القسري أدى إلى تقبل الموت وكأنه حالة طبيعية. هذا جعل من قيمة الحياة الإنسانية منخفضة لدى العديد من الأفراد.
الأسباب الاجتماعية: مثل الشعور بالعزلة والوحدة والاغتراب عن المجتمع، والتفكك والعنف الأسري وغياب الأصدقاء والعائلة، إلى جانب تزايد القيود المجتمعية المفروضة على الأفراد.
غياب التعليم: أدت الحرب في سوريا إلى حرمان العديد من الأشخاص من الحصول على تعليم كافٍ، وخاصة الأجيال التي نشأت خلال سنوات النزاع، مما عزز من ضبابية الرؤية المستقبلية وضعف في المهارات الحياتية وترك العديد منهم دون آفاق واضحة أو أدوات تساعدهم على تحسين ظروفهم، إضافة إلى التمييز الاجتماعي الذي قد يتعرض له الأفراد غير المتعلمين.
غياب الرقابة الحكومية والصحية: ساهمت الفوضى الأمنية التي عززها النظام السوري والحرب التي شنها على السوريين والسوريات بانتشار مختلف أنواع السلاح، وأصبح يسهل على الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات النفسية الحصول على الأسلحة والأدوات القاتلة مثل بعض الأدوية التي تؤدي إلى الموت في حالة استخدمها بهدف الانتحار.
عدوى الانتحار: نتيجة ارتفاع حالات الانتحار في سوريا، فقد أصبحت فكرته مستساغة لدى العديد من الأشخاص، بوصفه الحل الأمثل والأسرع للخلاص من المعاناة، وذلك من خلال تقبل الفكرة، ثم المحاولة المتكررة باتباع السلوك الانتحاري، مثل التفكير المستمر بإنهاء الحياة وتحديد الأسلوب والوسيلة وصولاً إلى حالة الانتحار الفعلي.
قلة مراكز خدمات الصحة النفسية: ساهمت بشكل كبير في ارتفاع حالات الانتحار وانتشار الاضطرابات النفسية، فالمراكز النفسية الموجودة تعاني من نقص في الأطباء والمعدات الأساسية والكوادر الأكاديمية المؤهلة، وهي بالكاد تستطيع تقديم بعض الخدمات النفسية التي لا تتضمن خطط علاجية ومتابعة للأفراد، إضافة إلى ضعف التوعية النفسية فيما يخص الاضطرابات النفسية، أما بالنسبة للمستشفيات الحكومية والخاصة فهي لا تتعامل إلا مع الأمراض النفسية المزمنة.
الصحة النفسية ومنع الانتحار
لا شك بأن حالات الانتحار تأتي نتيجة تدني الصحة النفسية لدى الضحية، وإن الحد من هذه الحالات لا يكون فقط بمنعها بل بمعالجة الأسباب النفسية التي أدت إليها من جهة، ومن جهة أخرى العمل على تعزيز الصحة النفسية بين فئات المجتمع لمنع انتشار الاضطرابات التي تؤدي إلى اتباع السلوك الانتحاري، من خلال تقديم الدعم النفسي وتوفير الرعاية النفسية الشاملة والفعالة، إلى جانب تعزيز الوعي بأهمية الصحة النفسية وتحجيم النظرة المجتمعية التي ما زالت تعتبر الحديث عن الضغوطات النفسية ومعالجتها وصمة عار تلتصق بالأفراد، فتكون عائقاً كبيراً أمام الحصول على خدمات الرعاية النفسية.
الحد من الانتحار مسؤولية جماعية
ما زال التعامل مع ظاهرة الانتحار تعاملًا سطحيًا وآنيًا، دون العمل على أخذ تدابير تحول دون وصول الأفراد إلى اتخاذ القرار بالانتحار، وبالنظر للإحصائيات الواردة التي تشير إلى ارتفاع حالات الانتحار في سوريا، فإن الواقع يشير إلى أن هذا الارتفاع في ازدياد ما لم يتم أخذ التدابير الفعالة التي تساهم في منعه والحد منه.
العديد من النساء في سوريا معرضات لخطر تدهور الصحة النفسية، نظراً للواقع المرير الذي يعشنه، ونتائجه التي انعكست سلباً على مختلف جوانب حياتهن الاقتصادية والاجتماعية مما زاد من حدة الضغوط النفسية، وهنا يبرز دور المنظمات والمؤسسات المحلية في التركيز على أهمية الصحة النفسية والعمل على معالجة الظواهر الناتجة عن تدهورها مثل ظاهرة الانتحار، من خلال تسليط الضوء على أهمية توفير خدمات الصحة النفسية الشاملة في مختلف المناطق السورية عبر الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية من جهة، والعمل على تعزيز حقوق النساء وتحسين أوضاعهن الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، ويمكن للمؤسسات النسائية والنسوية أن تلعب درواً مؤثراً في هذا المجال، على سبيل المثال لا الحصر:
- أن تقوم المنظمات والمؤسسات النسائية والنسوية بحملات توعية وتثقيف تسلط الضوء على أهمية الصحة النفسية، ويمكن لهذه الحملات أن تشمل إجراء ورش العمل والندوات والحملات الإعلامية التي تستهدف النساء وتقدم المعلومات والدعم اللازم لهن.
- العمل على تحسين القوانين التي تحمي النساء من مختلف أشكال العنف، وتوفر لهن الحماية القانونية اللازمة، عبر تطبيق آليات فعالة لتطبيق هذه القوانين التي تضمن حقوقهن.
- يمكن للمنظمات والمؤسسات أن تلعب دورًا في تقديم الدعم النفسي للنساء عبر إنشاء مراكز الدعم وتقديم الخدمات الاستشارية، للنساء اللواتي يعانين من ضغوط نفسية.
- أن يتم العمل مع المنظمات الدولية على ضرورة توفير برامج تختص بتعزيز الصحة النفسية لا سيما للنساء العاملات ضمن مختلف القطاعات، إلى جانب فرض سياسية الصحة النفسية كسياسية أساسية مثل باقي السياسات المعمول بها ضمن المؤسسات والمنظمات.
- العمل على توفير خطوط ساخنة للنساء في حال حدوث أي حالة نفسية طارئة كالحالات التي قد تؤدي للانتحار.
- العمل على تعزيز استراتيجيات الوقاية كالتدخل المبكر.
ختاماً
الانتحار ما هو إلا صرخة لا تجد لها آذاناً صاغية، كما أنه من المواضيع الحساسة التي يتم تجاهلها في المجتمع السوري، على الرغم من حجم المعاناة التي يعكسها، وإن منع حالاته أو التقليل منها يتطلب تظافر الجهود والعمل باتجاهين، الأول يمضي نحو تعزيز ونشر الوعي حول أهمية الصحة النفسية، ونسف المعتقدات المجتمعية التي تحول دون مبادرة الأفراد بالتعبير عن حالتهم النفسية، إلى جانب تعزيز الروابط الاجتماعية، واتجاه يمضي نحو منع حالات الانتحار، ومعالجة المشكلات النفسية المؤدية لعملية السلوك الانتحاري، إلى جانب الدفاع عن ضحايا الانتحار والناجين والناجيات منه والحد من وصمة العار التي أُلصقت بهم.