التجنيد الإلزامي، عبء إضافي ثقيل على كاهل النساء

*وجدان ناصيف

 يشكل “التجنيد الإلزامي” هاجساً حقيقياً للشريحة الأكبر من الشباب السوري بين سن الـ 18 والـ 40 عاماً، والذي ينص الدستور السوري في مادته السادسة والأربعين على أنه “واجب وحق ينظم بقانون”[1] ،
فسنوات الحرب التي تكاد تصل إلى عقد كامل، جعلت الآلاف من الشبان السوريين في مناطق سيطرة النظام يسعون بكل الوسائل
 للتهرب من هذا “الحق” و”الواجب المقدس”، متخفين داخل مناطقهم وقراهم حتى لا تطالهم دوريات الشرطة العسكرية، حيث يصبح دفتر الخدمة العسكرية المطالبين بإبرازه عند كل نقطة تفتيش، وكذلك عند قيامهم بكل المعاملات الحكومية وعند تسجيل الزواج والطلاق والإرث وغيرها
، كابوساً يمنعهم من التحرك للعمل والتنقل، وبالتالي يغدون عبئاً على عائلاتهم عوضاً أن يكونوا عوناً لها في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، وأما من يحالفه الحظ بالتسلل هرباً خارج البلاد، فغالباً سيختار رحلة لجوء محفوفة بالمخاطر عوضاً عن الموت في حرب لا يعتبرها حربه.

منذ بداية الثورة عام 2011 قام النظام بزج الجيش في معركته ضد الشعب السوري المنتفض، حيث وُجهت الأوامر لجنود الجيش بتوجيه فوهات بنادقهم إلى صدور أهاليهم، وقد سمعت السوريات/ون منذ الأشهر الأولى من عمر الثورة قصصاً عن جنود أُطلق الرصاص على مؤخرة رؤوسهم لعدم تنفيذهم للأوامر العسكرية، بينما اضطر العديد من المجندين لترك سلاحهم والاختباء لسنوات في قراهم وبلداتهم بانتظار فرصة للتسلل هرباً عبر الحدود، واضطر بعضهم الآخر لإعلان انشقاهم عن الجيش السوري الذي أصبح جلياً أنه ليس إلا جيش “النظام” بل وبكلمة أدق جيش “الأسد”.

لا يعطي النظام أية أرقام رسمية للجنود الذين قتلوا من أجله أو من أصيبوا بإعاقات دائمة، وليس هناك إحصاءات دقيقة لعدد الشبان السوريين الذكور الذين فروا من سوريا هرباً من الخدمة الإلزامية،  لكن التقديرات تقول أن عشرات الآلاف من جنود جيش النظام قتلوا خلال السنوات التسع الماضية،  بينما فرّ مئات الآلاف هرباً من استخدامهم كوقود رخيص للحرب من قبل  كافة أطراف الصراع، ومع خروج هؤلاء من البلاد خسرت سوريا وتخسر طاقتها البشرية التي تعتبر ثروتها الأساسية، ونتج عن ذلك أثار مدمرة على المجتمع السوري وأعباءً إضافية على النساء. 

ومع استطالة أمد الحرب التي اختارها النظام كحل أوحد في مواجهة المطالب المحقة للشعب، أدرك الكثير من الشباب السوري أن شعار الخدمة الإلزامية “وطن، شرف، إخلاص”، ليس أكثر من مفردات فارغة من مضمونها، بل أنها أصبحت مدعاة لسخرية أليمة عند النظر في المعنى المراد منها: أليس المقصود بـ “الوطن” المزرعة المملوكة من قبل القائد العام للقوات المسلحة ولعائلته؟ أي “وطن” سيدافعون عنه حينما يستدعي هذا “القائد” كل الاحتلالات من أجل الاحتفاظ بكرسيه؟ أي “شرف” لجندي يقتل أهله ويحاصر مدنه ويجوع مدنيّها؟ أليس “الإخلاص” الذي يعنيه الجيش العربي السوري العقائدي هو “الإخلاص” لشخص الأسد ولعائلته ومن بعدهم لـ “الحذاء العسكري” للضباط الكبار ولمصالحهم، وبالتالي لمصالح شركائهم من المحاسيب وتجار الحرب وعصابات الخطف والقتل والمخدرات؟ 

يعاني اليوم عشرات آلاف الشباب السوريون الذي باتوا في سن الخدمة الإلزامية والمقبلين عليه من هاجس التجنيد الالزامي ومن المصير الأسود الذي ينتظرهم وهم ماضون للالتحاق بالخدمة العسكرية، يائسون وبلا خيارات، ينظرون إلى تجارب من سبقهم حيث يتلقى من يتخلف عن الالتحاق بالخدمة عقوبة السجن والتعذيب، أو يرسلون مباشرة إلى الجبهات بدون تلقي أي تدريب على القتال، هناك من انقضى عقد كامل من عمره ينتظر التسريح من الخدمة، وهناك من عاد لأهله بتابوت مُنِع ذويه من فتحه، وهناك من عاد معاقاً، وهناك من الأهالي من ينتظر شهوراً طويلة نتيجة تحليل الـ DNA ليعرفوا أين دفن أبناؤهم، ويبقى كابوس الخدمة العسكرية يطارد الفارين من الخدمة، حيث يلجأ من يستطيع لعمليات جراحية لتشويه أجسادهم كخيار للحصول على إعفاء من الخدمة، وأما طلاب الجامعات فغالباً ما يفضلون الرسوب في سنتهم الأخيرة على التخرج في انتظار أن تضع الحرب أوزارها أو أن يجدوا فرصة للهروب من البلاد.

 تلجأ بعض العائلات الميسورة للحصول على إعفاء لأبنائها أو دفع رشاوى من أجل أن يقضي أبناءهم فترة الخدمة الإلزامية بعيداً عن جبهات القتال، ويبدو أن هذه الظاهرة القديمة أصبحت مصدراً لاسترزاق الضباط وللمؤسسة العسكرية التي لم تكن أقل فساداً قبل الـ 2011، لكنها وجدت في الحرب فرصة مواتية لابتزاز العائلات السورية في الداخل وفي المغترب، حيث وصل بدل الخدمة العسكرية إلى ثمانية آلاف دولار  .[2]

ليس النظام السوري وحده من ساق الشباب السوري قسراً للحرب، بل يمكن القول إن كافة أطراف الصراع استخدمت الترهيب والابتزاز لتجنيد السوريين الشباب، وأصبحت الجندية وظيفة لكسب لقمة العيش في غالبية المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام حيث تنعدم الخيارات الأخرى وتغلق كل وسائل كسب العيش يوماً بعد يوم أمام من لا يرغبون أو لا يستطيعون حمل السلاح. والجدير بالذكر أن التنظيمات المتطرفة كداعش والنصرة لم تعتمد على الشباب السوري كعماد أساسي لها خوفاً من اختراق بنيتها التنظيمية، التي تعتمد في المقام الأول على الولاء والإيمان المطلق بمشاريعها العابرة للوطنيات وللحدود.

تتناقل السوريات والسوريون نكاتاً مبكية حول الهروب من التجنيد الإلزامي أو القسري لدى كافة الأطراف وبخاصة في مناطق النظام، بعض النكات تسخر من اختباء الشبان في زي امرأة، ويقال للنساء في بعض المناطق أنهن محظوظات لأنهن خلقن نساءً في زمن جرّ الرجال قسراً للموت في الحرب، وهو أمر مفهوم، لأن معاناة النساء غالباً غير مرئية، فكيف يمكن أن يحصى قلق أمّ تجر الزمن للوراء حتى لا يبلغ أبناءها سن الثامنة عشرة، أو أن تدفع عاشقة من تحب للرحيل كي ينجو من الموت، أو أن تقضي سنوات طويلة من عمرها انتظاراً حيث يتضاءل كل يوم الأمل باللقاء؟ أن تحرم امرأة من تسجيل زواجها بسبب غياب دفتر الخدمة العسكرية للزوج وبالتالي تحرم من حقوقها ومن تسجيل أولادها، كيف يمكن تصور الكوابيس التي تطارد أم ّ تصارع يقينها بأن حمل ولدها السلاح يعني احتمالين لا ثالث لهما؛ أن يعود قاتلاً أو مقتولاً؟

منذ تسع سنوات ومع تحول الثورة السورية إلى حرب، تعرضت النساء السوريات لكافة أشكال الانتهاكات، اعتقالاً وقتلاً وتهجيراً، كنّ ولا زلن ضحايا المعارك الصغيرة والكبيرة، ضحايا الأسلحة التقليدية والكيماوية وضحايا المجازر، هن اللواتي حملن أعباء الأسرة وتحولن إلى “رجال” وفق نظرة المجتمع لدور الرجال، لكن يبقى التجنيد القسري والإلزامي للرجال عبئاً يضاف إلى أعبائهن الثقيلة، وكابوساً يضاف لكوابيسهن التي لا تحصى.

*المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة