التهجير القسري، المأساة السورية الهائلة

*وردة الياسين

 يذكر تقرير صادر في عام 2016 عن مركز بيو الأمريكي  للأبحاث بأنه يقدر عدد ممن ترك منزله من السوريين بـ12.5 مليون سورية/سوري، يتضمن ذلك النازحات/ين داخل سوريا، أو اللاجئات/ين إلى بلدان أخرى، أو من قدمن/وا طلبًا للجوء وينتظرن/ون قرارًا بشأنه. وتصف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئات/ين (UNHCR) في أذار 2020 مسألة التهجير بالمأساة الهائلة، حيث ذكرت بأنه يضطر واحد من بين اثنين من الرجال والنساء والأطفال السوريين للنزوح قسراً منذ بداية النزاع في آذار 2011 – ولأكثر من مرة واحدة في أغلب الأحيان.  وتشكل السوريات/ون اليوم أكبر جمع من اللاجئات/ين حول العالم.

 

التهجير، أداة استخدمتها كل أطراف النزاع

شارك في عمليات تهجير الشعب السوري القسري كل أطراف النزاع تقريباً في سوريا، واتخذ التهجير القسري في سوريا أشكال عدة، ممنهج وغير ممنهج، جماعي وفردي، وتحول في حالات عدة إلى أداة استخدمتها الأطراف المتنازعة في سوريا كوسيلة لفرض السيطرة العسكرية، والسياسية، والإيديولوجية. ويعد التهجير القسري الجماعي بواسطة باصات التهجير، والذي تم في عدد من مناطق ومحافظات سوريا نتيجة لما سمي باتفاقيات التهجير والإخلاء، تهجير ممنهج نتج عنه إبعاد عشرات الألاف من السوريات/ين عن منازلهن/م ومناطقهن/م الأصلية. وقد شهد ريف دمشق ولاسيما الغوطة الشرقية أكبر عمليات للتهجير القسري ابتـداءً مـن (نيسـان 2017 وحتـى آذار 2018) ضمن اتفاقيات أبرمت بين فصائل المعارضة وقوات النظام السوري تحت إشراف روسي، تم من خلالها تهجير ما يزيد على 190 ألف مدني وعسكري (من الفصائل المسلحة) ممن رفضوا عقد تسويات مع النظام السوري، من مناطق ريف دمشق إلى مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام.

طارق فليطاني (26عاماً) كان مديراً لإحدى النقاط الطبية قبل مغادرته مع زوجته وابنته الرضيعة مدينته سقبا في الغوطة الشرقية بتاريخ 28 أذار 2018، مع قوافل التهجير التي توجهت نحو الشمال السوري، يقول طارق: “فضلت خيار الذهاب للمجهول، لأنه لم تكن لدي الثقة بما سمي بالتسويات والمصالحات.  فقد وصلني خبراً من أن النظام وبعد فرض سيطرته على منطقة الدوير في غوطة دمشق الغربية، اعتقل عدد من شبانها الذين وقعوا على أوراق تسويات ومصالحات معه”.

ومثل اتفاقيات التهجير تلك، كانت اتفاقيات تهجير لمناطق سورية أخرى خارجة عن سيطرة قوات النظام، كعمليات تهجير من محافظة حلب كانون الأول 2016، حمص في موجات تهجير متعددة ابتداء من (2014 وحتى 2018)، وكان آخرها من جنوب سوريا، محافظة درعا والتي حدثت في عام 2018. ومن اتفاقيات التهجير كان اتفاق أبرم بين هيئة تحرير الشام، والحرس الثوري الإيراني بحسب رويترز، يقضي بإخراج جميع السكان المدنيين وعناصر الميليشيات الموالية للنظام من بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب والبالغ عددهم حوالي سبعة آلاف شخص.

القصف الجوي والبري والعمليات العسكرية لعبت هي الأخرى الدور الأكبر في عمليات تهجير كانت ممنهجة في أغلبها. فبلغ وعلى سبيل المثال عدد النازحات/ين من مناطق شمال غربي (حلب وإدلب وحماة) إلى المناطق الأكثر أمنًا؛ نحو مليون وخمسمئة ألف نازحة/نازح منذ نيسان 2019، نتيجة الحملة العسكرية لقوات النظام والحليف الروسي، بحسب ما وثقه فريق “منسقو استجابة سوريا.

يصف أُبي عزو يوم نزوحه من مدينته سراقب في ريف إدلب في شهر شباط 2020، أثر العمليات العسكرية للنظام وحليفه الروسي للسيطرة على خطوط (M5 M4) بيوم الحشر، فيقول: “أرتال لا تعد ولا تحصى من السيارات والشاحنات والباصات المحملة بالسكان الفارين من بيوتهم ومناطقهم نتيجة للعمليات العسكرية الدائرة في ريف ادلب الشرقي”.

ونزح أكثر من 50 ألف من أهالي تل رفعت شمال حلب في شباط 2016، بسبب عملية عسكرية أدت إلى سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على “تل رفعت ” المدعومة حينها بغطاء جوي روسي.

إلى جانب التهجير القسري الجماعي الممنهج أو غير الممنهج، تعرض أفراد من الشعب السوري ومن مختلف التوجهات الدينية والإثنية إلى عمليات ضغط وملاحقة واعتقال، من قبل قوات النظام، فصائل المعارضة المسلحة، الفصائل والمليشيات الراديكالية، نتيجة لمواقفهم أو سلوكياتهم الغير متوافقة مع الجهات أو الجماعات التي كانت تسيطر على مدنهم وبلداتهم وقراهم، مما أجبرهم على مغادرة مناطقهم الأصلية.

 

التهجير، وآثاره النفسية

يترتب على المهجرات/ين أثارًا اقتصادية واجتماعية وسياسية وقانونية، إلا أن أهمها هو الآثار النفسية لأنها قد تؤدي إلى حالات شديدة من الاكتئاب، والتي تقتل الرغبة في الحياة، وتقلل من قدرة المهجرة/المهجر على مواجهة صعوبات وأثار التهجير.

تخضع ميسون المصري (سارة الحوراني)، لـ (كورسات) مستمرة من العلاج النفسي منذ وصولها إلى كندا في أواخر عام 2018، وسارة صحفية وإعلامية، كانت مسؤولة عن النساء في مركز الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) في مدينة درعا، حصلت على جائزة غاندي للسلام للعام 2020. تم إجلاء سارة وزوجها مع العشرات من المتطوعات/ين في منظمة “الخوذ البيضاء” بعد سيطرة قوات النظام على مدينة درعا في صيف 2018. وتحكي سارة: “حصلنا على تسهيلات قانونية وسكنية وتعليمية وصحية في كندا، ولكن بالرغم من ذلك دخلت أنا في معركة شرسة مع الكوابيس اليومية، والاضطرابات النفسية التي حملتني على مراجعة عيادات الأطباء النفسيين وتناول أدوية مضادة للاكتئاب ولاضطرابات ما بعد الصدمة”.

أما هالة الناصر(60 عاما)، من مدينة الرقة، ذاقت التهجير مع زوجها وابنها الوحيد مرتين، مرة عندما تعرضت الرقة لقصف عنيف من قوات النظام على أثر دخول فصائل الجيش الحر للمدينة في بدايات عام 2013، والمرة الثانية بعد احتلال الرقة من قبل تنظيم الاسلامية في العراق والشام ” داعش”، وبدء تعرض الرقة لضربات جوية من قوات التحالف الدولي. تقول هالة: “أشعر بالخوف الدائم وينتابني الضيق والاختناق كلما تذكرت أن حياة بأكملها تركتها خلفي، كان لدي بيت وأصدقاء، وعالم من العلاقات الاجتماعية والأسرية، انهار وتحطم  فجأة”.

 

ظروف وشروط العودة

سارة فاقدة للأمل تمامًا بالعودة إلى سوريا في الوقت القريب، وترى أن أي شرط ستضعه المهجرات/ون للعودة فهو غير محقق، ولن يكون صوتهن/م مسموعاً وتقول: “لست متفائلة أبدًا بالعودة إلى سوريا في الوقت القريب، فسوريا لا يحكمها فقط نظام الأسد، بل تخضع لحكم الروس والمليشيات الإيرانية، كما أن منظومة الأجهزة الأمنية لاتزال قوية ومتماسكة في سوريا، وزادت قوتها خاصة بعد أن استعاد النظام سيطرته على أغلب المناطق التي كانت تخضع لفصائل المعارضة المسلحة”. في حين أن طارق يفكر بالهجرة مرة ثانية من عفرين إلى أي دولة أوروبية، فيقول: “أريد متابعة دراستي الجامعية التي حرمت منها، أريد أن أشعر بالأمان والاستقرار، وهذه الأمور لن أجدها في سوريا في ظل وجود عشرات الفصائل والقوى العسكرية التي تحكم البلد، إضافة إلى أنني قد أتعرض للاعتقال من قبل تلك الأجهزة إذا رجعت إلى الغوطة الشرقية”.

المحامي محمد الجوجة، عضو الرابطة السورية لكرامة المواطن يقول: “إلى جانب العديد من الجهات والنشطاء نعمل نحن في الرابطة السورية لكرامة المواطن، على إعداد تقارير دورية عن الوضع داخل سوريا، بالاعتماد على شهادات مواطنات/ين ومهجرات/ين، مثبتة بالأرقام والوقائع، وهي تشير حاليًا إلى أن الوضع في سوريا لايزال غير آمن ولا يسمح بعودة المهجرات/ين. كما أن قلقنا من الإعادة القسرية للاجئات/ين في دول مثل لبنان وتركيا، حيث أن البلدين غير موقعين على اتفاقيات اللجوء، يدفعنا إلى رفع تقارير لإعادة تقييم الوضع في سوريا للجهات الدولية ذات الصلة بقضية المهجرات/ين، لتكون محور نقاش اللقاءات معهم، بهدف ضمان عودة طوعية وآمنة للمهجرات/ين”.

ويتابع الجوجة: “إن مفهوم أو شروط العودة الآمنة يختلف بين المهجرات/ين حسب نوعية الأسباب التي أدت إلى الهجرة، ولكن هناك اجماع تقريبًا من قبل المهجرات/ين بأنه لا عودة آمنة مالم يحصل تغيير في الوضع الأمني والسياسي في سوريا. وبالنسبة لأليات العودة الآمنة فهي غير محددة بشكل واضح في القانون الدولي. وأعتقد من وجهة نظري يمكن أن يكون من ضمن التغييرات الأمنية والسياسية المطلوبة لجعل العودة آمنة، أن يتم تأسيس مسار قضائي وطني لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”.


يعرف القانون الدولي التهجير القسري؛ بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.

ولذلك فإن أي تحقيق للعدالة في سوريا يتطلب محاسبة مرتكبي فعل التهجير من أي جهة كانت، وتعويض المهجرات/ين عن أملاكهن/م التي فقدوها أو سلبت منهن/م، وقبل كل ذلك ضمان عودة آمنة وطوعية للمهجرات/ين إلى بيوتهن/م ومناطقهن/م الأصلية.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة