الحل السياسي في سوريا… سبب الاستعصاء وآفاق الحل

 

*محمد الدريد

 

انطلقت الثورة السورية بتاريخ 15/3/2011، وجل ما كان يتمناه الشعب السوري منها هو إصلاح النظام، فانطلقت الحناجر تصدح بهذا، لكن النظام السوري قرر من اللحظة الأولى سحقها بالقوة المفرطة. بتاريخ 25 نيسان 2011 اقتحم الجيش السوري مدينة درعا بالدبابات فغيّر الثوار مطلبهم من إصلاح النظام إلى إسقاط النظام، وبدأت أحداث دراماتيكية أدت إلى تدمير النظام للبلاد وتشريد الملايين واستجلاب الجيوش الأجنبية من روسيا وإيران وتشريع أبواب البلاد للمليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية والأفغانية وغيرها. الآن بعد حوالي 12 عاماً على انطلاق الثورة أصبحت سوريا بلداً مدمراً متخلفاً وأخذ الصراع فيها منحى المراوحة في المكان. هنا من المفيد التذكير أن الأمم المتحدة منذ عام 2012 وضعت أسس الحل السلمي للأزمة في سوريا فأصدرت بتاريخ 30 حزيران يونيو 2012 اتفاق جنيف الأول، ثم أعقبته في عام 2015 بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وهما ينصان على ضرورة حل الأزمة في سوريا من خلال وقف إطلاق النار والإفراج عن المعتقلات/ين والبدء بعملية انتقالية يتم من خلالها تأسيس مجلس انتقالي كامل الصلاحيات التنفيذية لتهيئة الجو لتأسيس دولة ديمقراطية وتعددية وإجراء انتخابات حرة والتصويت على الدستور الجديد. لكن النظام السوري كان يرفض دائماً كل هذه المقترحات ويتهرب منها بأساليب ملتوية يتقنها جيداً. في نهاية المطاف ونتيجة لهذه السياسة وبعد مرور حوالي 12 عاماً تحولت سوريا إلى دويلات متناحرة تحكم فيها قوى الأمر الواقع، وهذه القوى هي:

  • دويلة بشار الأسد والكلمة العليا فيها لروسيا وإيران. لديها مؤسسات حكومية مختلفة. 
  • دويلة قسد في شرق نهر الفرات والكلمة العليا فيها لأمريكا. لديها مؤسسات حكومية مختلفة.
  • دويلة المعارضة في شمال غرب سوريا والكلمة العليا فيها لتركيا. لديها حكومة مؤقتة.
  • دويلة جبهة تحرير الشام في إدلب. لديها حكومة الإنقاذ. 

تعالوا نحلل هذه الدويلات ونحلل مواقفها ومواقف الجهات الأخرى المستفيدة ونرى نظرتها للحل السياسي:

دويلة بشار الأسد: تقاوم بكل ما أوتيت من قوة أي حل سياسي ولا تعترف حتى اللحظة بوجود معارضة سورية. محترفة في تضييع الوقت والمماطلة. إن أي حل سياسي سيؤدي بالضرورة إلى تغيير النظام السياسي في سوريا عاجلاً أم آجلاً. بالتالي فإن بشار الأسد لا يريد لهذا الحل أن يرى النور، ويستخدم كل أنواع المظاهر السياسية الخادعة لإثبات أحقيته في الحكم فيقوم بإجراء الانتخابات الصورية ويفرج بين فينة وأخرى عن بعض المعتقلات/ين وينظم المسيرات المؤيدة له في المدن والقرى. إنه مستعد للتضحية بآخر سوري/ة ولن يغّير موقفه، وما شعاره “الأسد أو نحرق البلد” “الأسد أو لا أحد” والذي رفعه منذ الأيام الأولى للثورة لأكبر دليل على سياسته التي لم ولن يغيرها. وإن انفتاح بعض الدول على النظام وإعادة العلاقات معه وتصريحات غير بيدرسون منذ أيام حول عدم إمكانية صلاحية القرار 2254 للتطبيق وتصريحات الإدارة الأمريكية قبل ذلك أنها لم تعد معنية بتغيير النظام بل بتغيير سلوكه. كل ذلك يعطي النظام السوري دافعاً قوياً للاستمرار في هذه السياسة.          

روسيا: لقد حصلت روسيا من سوريا أكثر مما كانت تطمح له. فبفضل وقوفها إلى جانب النظام السوري أصبحت ولأول مرة تملك قواعد عسكرية برية وجوية وبحرية على شواطئ البحر المتوسط، وامتلكت القرار السوري الخارجي وصارت عرّابة المصالحات وتغلغل جنودها في المدن والقرى السورية. لا بل أكثر من ذلك لقد با تابعة إن أي حل سياسي سيكون ضد مصالحها هذه و سيحد من نفوذها و سيجعلها تفقد هذه الورقة، لذلك نراها تماطل ولا تضغط على حليفها النظام السوري للقبول بالحل السياسي وكل همها الإبقاء عليه بالحل السياسي أو بدونه. 

إيران: بفضل استنجاد النظام السوري بإيران استطاعت الأخيرة التغلغل في نسيج المجتمع السوري ونشر التشيع في المدن والقرى. ولأن النظام أفرغ الخزينة العامة فقد استنجد بإيران التي تمده بالخطوط الائتمانية وتكبله بالاتفاقيات التي تجعلها سيدة القرار الداخلي في البلاد. جلبت إيران معها إلى سوريا ميليشياتها الهمجية التي تقاتل بإشارة من المرشد دون وعي. تستغل إيران الوضع السوري وتغدق الأموال على الناس لنشر المذهب الشيعي وتبذل جهوداً كبيرة في تغيير ثقافة البلاد. إن أي حل سياسي سيُفقدها كل هذه الميزات لذلك تستمر في دعم بشار ولن ترضى بتغييره.   

الولايات المتحدة الأمريكية: استغلت أمريكا وجود داعش والنصرة في سوريا ودعمت الأحزاب الكردية السورية شرق الفرات تحت مسمى محاربة الإرهاب، ثم أرسلت بعضاً من جنودها وأقامت القواعد الأمريكية على الأراضي السورية، وأنشأت في عام 2014 التحالف الدولي لمحاربة داعش. برأيي المتواضع فإن ما يحكم السياسة الأمريكية في سوريا هي المصالح الإسرائيلية. تستطيع الولايات المتحدة تغيير النظام السوري، ولديها الكثير من الأدوات التي يمكن أن تستخدمها ضده لو أرادت، خاصة بعد استخدام الكيماوي في الغوطة وانتهاك النظام السوري للخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأمريكي. لكن أي حل سياسي سيضع حداً للفرصة الذهبية التي تشكلت وسيوقف مسلسل التدمير الذي انتهجه النظام السوري وستضيع الفرصة على إسرائيل في تدمير دولة مهمة على حدودها. لذلك ارتأت أمريكا أن تتبع سياسة التصريحات الرنانة ضد النظام السوري دون اتخاذ أي خطوة فعلية ضده، وسلوك طريق مجلس الأمن الذي لا يؤدي إلى نتيجة ورمي الكرة على روسيا وتحميلها المسؤولية لأنها باستخدامها حق النقض لا تسمح للمجلس بالتدخل. 

الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا: هي منطقة سوريّة تمتدّ في شمال وشرق سوريا وتشمل أجزاء من محافظات الحسكة، الرقة، حلب ودير الزور. أُنشئَ فيها حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع. تسيطر على المنطقة قوات سوريا الديمقراطية. تأسست قوات سوريا الديمقراطية عام 2015، وتتألف من وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وقوى أخرى، وتهدف إلى التحالف مع أمريكا لمحاربة داعش. تتلقى الدعم من أمريكا وشكلت مع مرور الوقت مؤسسات لإدارة المنطقة وأصبح جلياً طموحها للاستقلال أو الإدارة الذاتية. من المؤكد أن أي حل سياسي سيحد من طموحها ومن سلطاتها لذلك نعتقد أنها لا تسعى إلى الحل السياسي في سوريا إلا إذا كان يضمن لها الإدارة الذاتية أو الفيدرالية على غرار كردستان العراق. 

تركيا: لقد استطاعت تركيا، عكس كل دول الجوار، أن تضمن لنفسها موطئ قدم في سوريا وأن تحتل أراض فيها وأن تنشأ إدارات تابعة لها وتفرض إدارتها ومناهجها التعليمية في تلك المناطق. ومازالت تركيا حتى الآن تتطلع للاستيلاء على أراض سورية جديدة. إنها تسيطر على المعارضة السورية وتتحكم بقراراتها. من الواضح جداً أن الحل السياسي المنشود في سوريا لن يكون في صالح المخططات التركية. 

المعارضة السورية السياسية: لقد فقدت المعارضة السورية السياسية، والمقصود هنا هو الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض، قرارها المستقل منذ البداية بسبب التمويل الخارجي لها. وفقدت مع مرور الوقت تأييد الشعب السوري لها فأصبحت معارضة شكلية ليس لها وزن على الأرض ولا تأييد شعبي، وصار جل همها أن تستمر الدول التي ترعاها بالرضى عنها وألا ينقطع عنها الدعم المالي وأن تبقى تنعم بالسفريات والفنادق والمؤتمرات. هذه المعارضة ستصبح خارج المعادلة في حال تطبيق الحل السياسي وستفقد كل المزايا التي تُعطى لها الآن. 

جبهة تحرير الشام “النصرة”: تشكلت كفرع من القاعدة تحت ذريعة نصرة السوريات/ين، وهي تستولي الآن على القسم الأعظم من محافظة إدلب. لديها حكومة ومؤسسات في إدلب. من الواضح أن العالم يغمض عينيه عنها ولعله يرضى عنها ويريدها الاستمرار في مهمتها لغاية لا تعرفها إلا أجهزة المخابرات الدولية. ليس من الصعب أبداً اكتشاف أن الحل السياسي في البلاد لن يكون في صالحها.   

المعارضة السورية العسكرية: إنها فصائل كثيرة ولها أجندات متعددة، لكنها جميعاً يجمعها شيء واحد؛ وهو أنها بسبب ما حدث في سوريا صارت تملك المال والرجال والأرض والعتاد والمعابر والسجون، وصارت تتحكم برقاب العباد ومصائرهم، وصار لها ميزانيات ومحاكم و… الخ. إنها المتضرر الأكبر إذا ما تحقق الحل السياسي. 

إسرائيل: هي اللاعب الذي يقف خلف الكواليس والذي يقتنص الفرصة ولا يضيعها. تعرف تماماً أنه لولا النظام السوري لما عرفت الحدود السورية الإسرائيلية الهدوء الكامل منذ عام 1973 وحتى الآن. تعرف إسرائيل أن النظام السوري يطلق العنان للجمل الإنشائية التي توهم الجماهير أنه مقاوم وممانع بينما في واقع الأمر مطبّع وخاضع للإرادة الإسرائيلية. كل هذا يفسر لماذا إسرائيل لم تغتنم فرصة الصراع في سوريا وتتخلص من النظام. نعم هي لن تجد جهة أخرى على سطح الكرة الأرضية تستطيع أن تفعل ما فعله النظام السوري الذي دمر البلاد وفرّغها من نصف سكانها وجعلها دولة فاشلة خارج التاريخ. هذه المصلحة الواضحة لإسرائيل جعلتها المستفيد الأكبر من استمرار النزاع وغياب الحل السياسي.

أفق الحل: لكل هذه الأسباب؛ وبسبب مصالح الجهات الفاعلة في الملف السوري، والتي لا تنطبق مصالحها مع الحل السياسي، نرى أن هذا الحل يراوح في المكان منذ حوالي 10 سنوات، وغاية ما في الأمر هو عقد الاجتماعات وإصدار البيانات وإضاعة الوقت. بينما الوقت يجري والشعب السوري يعاني؛ لا يبدو أن هناك أمل في تطبيق الحل السياسي في الأفق المنظور والمتوسط وربما البعيد. وكل المؤشرات تدل على أن الأطراف المذكورة أعلاه تعوّل على الوقت لتثبيت الدويلات الأربع (هناك احتمال لدمج دويلة المعارضة في شمال غرب سوريا مع دويلة جبهة تحرير الشام) وتحويلها إلى دول والوقت يمضي لصالح هذا الحل. وما نسمعه من مؤتمرات ونشاطات وبيانات ما هو إلا ذر الرماد في العيون وما الهدف منه إلا تمرير الوقت لصالح تثبيت تفتيت سوريا. المشكلة أن الشعب السوري ليس له أصدقاء حقيقيين بعكس النظام السوري.  وفي هذا النفق المظلم أرى أنه يجب على المخلصات والمخلصين من الشعب السوري أن يأخذوا المبادرة ويقلعوا شوكهم بأيديهم. لذلك أعتقد أن هناك فرصة ضئيلة لكنها قد تغير المشهد، وهي تتمثل في ضرورة أن تقوم ممثلات/و المجتمع المدني السوري والناشطات/ون والخبيرات/الخبراء السوريات/ون في الخارج والداخل المؤمنات/ون بالحل السياسي بتأسيس جسم سوري يعتمد على الأفراد لا الأحزاب، يأخذ على عاتقه التنظيم لعقد مؤتمر تأسيسي تُوضع فيه المبادئ الأساسية لسوريا الجديدة. يُدعى إلى المؤتمر كل السوريات/ين النافذات/ين في العالم والمؤمنات/ين بالحل السياسي على أن تكون كل النفقات المترتبة على ذلك من جيوب السوريات/ين. يضع المؤتمر نظاماً أساسياً له وينتخب لجنة من عدة عضوات وأعضاء للتواصل مع الدول واستخدام نفوذ عضواته/أعضائه للوصول إلى صنّاع القرار في العالم وطمأنة الجميع بأن سوريا الجديدة ستكون دولة ديمقراطية مسالمة، هدفها النهوض بشعبها ولن تدخل في أي أحلاف سياسية أو عسكرية. يجب أن يكون هذا التشكيل نموذجاً لسوريا الجديدة، وهذا من شأنه شد الانتباه إليه وكسب التأييد رويداً رويداً.  

 

  

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية