اللجنة الدستورية محكومة بالفشل، من المسؤول؟

*سحر حويجة

الحلقة المفرغة التي تدور بها اجتماعات اللجنة الدستورية، منذ جولتها الأولى إلى الجولة الخامسة التي انتهت إلى فشل ذريع، أشبه بحوار الطرشان. والاستعصاء الذي يحكم عملية الحوار في اللجنة الدستورية، لا يختلف عن الاستعصاء الذي حصل في المفاوضات منذ عام 2014 على أمل تحقيق انتقال سياسي، وفقًا لبيان جنيف عام 2012 والقرار الأممي 2118، اقتصرت حينها مطالب النظام على نقطة وحيدة إدانة الإرهاب والثوار. ورفض الدخول في بنود بيان جنيف والقرار 2118، وفشلت وتوقفت المفاوضات لمدة عامين، إلى حين صدور القرار الأممي 2254، جاء هذا القرار على أنه تفسيراً للقرار 2118 ولبيان جنيف، بعد أن قسَم العملية السياسية التفاوضية إلى أربع سلال: – هيئة الحكم الانتقالي ـ دستور جديد ـ انتخابات – محاربة الإرهاب. بدا المجتمع الدولي عاجزًا عن تحريك العملية السياسية، حتى تم التوافق في اجتماع فينا في كانون الثاني 2018 من خلال مسار آستانة إلى عقد مؤتمر حوار سوري في سوتشي، حشدت له موسكو بموافقة تركيا، نتج عن المؤتمر بيان يتألف من اثنا عشرة بنداً، سميت المبادئ الأساسية لمخرجات مؤتمر سوتشي للحوار السوري، وهي نفس مخرجات تأسيس اللجنة الدستورية، بعد أن طورتها هيئة التفاوض بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وفي ملخص لهذه المبادئ التي دعت إلى سوريا جديدة، أكدت على احتكار مؤسسات الدولة ذات الاختصاص لممارسة القوة، وحددت فيها دور الجيش ومهامه في حماية الحدود الوطنية والسكان من التهديدات الخارجية ومن الإرهاب، ودعت إلى إعادة هيكلة بناء المؤسسات الأمنية والمخابرات، على أن تكون مهمتها حفظ الأمن، وتعمل وفقًا للدستور وتخضع للقانون، وتحترم حقوق الإنسان.
كما دعت إلى العمل على محاربة الفقر ودعم المسنات/ين والفئات الضعيفة الأخرى، والتي تمثل ذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام وضحايا الحرب.
أما على صعيد حماية حقوق الإنسان والحريات العامة، أكدت على مساواة الجميع في الحقوق والفرص بغض النظر عن العرق أو الدين أو الإثنية أو الهوية الثقافية أو اللغة أو الجنس أو أي أساس آخر للتمييز، وأكدت على الفرص المتساوية للمرأة، واتخاذ تدابير فعالة لضمان مشاركتها في المؤسسات ودوائر صنع القرار، مع اعتماد آليات تهدف لضمان مستوى تمثيل للمرأة، لا يقل عن 30% وصولًا إلى المناصفة.

نشير إلى أن تمثيل المرأة في اللجنة الدستورية، جاء مقبولًا بنسبة تقارب 30% نتيجة مطالب المنظمات النسوية، وضغط الأمم المتحدة، مع العلم أن نسبة تواجد المرأة في قيادة مؤسسات المعارضة والمجتمع المدني مازالت ضعيفة، أقل بكثير من نسبة تمثيلها في اللجنة الدستورية، هذه النسبة تشكل فرصة هامة للمرأة السورية لإظهار كفاءتها وقدراتها على أنها لا تقل شأنًا عن الرجل في أكثر المواقع أهمية وحساسية، وعلى أن جودهن ضمانة لجميع نساء سوريا من أجل إعداد دستور متوافق مع الجندر، ويضمن حقوق المرأة ومساواتها الكاملة مع الرجل.

منذ سوتشي وروسيا تمسك بقوة بالملف السوري، أمام تراخي قبضة باقي مراكز القوى الدولية المؤثرة، حيث نجحت روسيا من نقل الملف السوري من  جنيف إلى سوتشي، بعد أن أجرت تعديلًا جوهريًا على مسارات التفاوض، وأجبرت القوى الداعمة والمؤثرة على المعارضة، خاصة تركيا والأمم المتحدة الراعية للمفاوضات على السير معها  والقفز والتجاوز من سلة تشكيل هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة، إلى تشكيل لجنة دستورية من أجل صياغة دستور، فالانتقال السياسي يشير إلى نهاية الصراع بل نهاية دور النظام وتحجيم الدور الروسي في سوريا، ولن يتحقق ذلك إلا بقرار دولي حاسم، ينفذ رغمًا عن إرادة روسيا والنظام، وخارج هذا المسار لا خيار سوى اللجوء لروسيا ومساومتها من أجل الضغط على النظام باعتبارها الطرف الأقوى الذي يستند النظام على استمراره ووجوده.  حيث لا مشكلة بين المجتمع الدولي والمعارضة السورية، التي وافقت بشكل كامل على القرارات الدولية وتطالب بتطبيقها، وكان الانتقال من سلة الحكم الانتقالي إلى سلة كتابة الدستور ما هو إلا تنازل مشروط أمام روسيا، على أمل أن تقوم بدور ضاغط على النظام لتحقيق تسوية، على الرغم من موافقة روسيا على القرار 2254 شكلًا، لتضع مسافة بينها وبين النظام أمام المجتمع الدولي على الأقل، ولتمسك القضية السورية كوسيلة للضغط والمساومة في تسوية خلافاتها مع القوى الإقليمية والدولية ومع النظام أيضًا بما تمليه المصالح الروسية. لكن من المؤكد أنها ليست على عجلة في تحقيق تسوية وفرضها وليست مستعدة للتفريط بالنظام السوري، وأنها تعمل على تسوية تضمن مصالحها حتى لو تغير النظام. ولذلك يعتبر كسب الوقت والمماطلة والضغط والمساومة وفرض تنازلات أهداف تتفق فيها روسيا وإيران مع النظام.  

تخطت روسيا ومعها النظام تشكيل هيئة حكم انتقالي إلى كتابة دستور، ومنحت النظام عمرًا جديدًا، ولدت اللجنة الدستورية بعد مخاض طويل وصعب، ورغم الولادة العسيرة، غاب عن بال جميع الأطراف أن اختيار سلة الدستور ليس إلا  تعبيراً على أن الدستور القائم لم يعد صالحًا وعاجزًا عن تسيير الحياة السياسية في سوريا، وأنه بمجرد تشكيل اللجنة الدستورية، كان يجب اعتبارها سلطة تأسيسية أصلية لدستور جديد، تتمتع بصلاحيات مطلقة أيضًا، في سعيها لتكوين النظام السياسي الجديد، الذي يتفق مع المفهوم الجديد للنظام الاجتماعي الذي سوف يحل محل النظام السياسي والاجتماعي السابق.

حول أسلوب تشكيل اللجنة الدستورية:

تشكلت اللجنة الدستورية بإتباع أسلوب العقد بين السلطة والمعارضة برعاية دولية، هذا الأسلوب يعتبر أحد الأساليب غير الديمقراطية في كتابة الدساتير، حتى في حال الاستفتاء على مسودة الدستور، حيث لا يستكمل وجوده قانونًا ويصبح نافذًا إلا إذا عرض على الشعب، واقترن بتصديقه، رغم أهمية الاستفتاء كأسلوب في الدول الديمقراطية، لكن لا أهمية كبيرة له في دولة تفتقر إلى الممارسة الديمقراطية، وإلى الحريات الإعلامية والسياسية، حيث تحتاج مناقشة مواد الدستور ومراجعتها ونقدها إلى وقت طويل سيترك تأثيره على سير العملية السياسية المعطلة لفترة طويلة.

إن الخطوة الأولى والأهم، ذات فاعلية وتأثير على مجمل العملية السياسية والتي غابت عن مهندسي اللجنة الدستورية، كان ضرورة إصدار قرار دولي يترافق مع بداية عمل اللجنة، يطالب بوقف العمل بالدستور القديم وأن تتحول السلطات القائمة إلى سلطة تصريف أعمال ريثما يتم الانتهاء من عمل لجنة صياغة الدستور ولو تم إقرار هذا المبدأ، لكانت فقدت شرعيتها أي انتخابات يقدم عليها النظام، سواءً انتخابات مجلس الشعب أو انتخابات الرئاسة، لأن الاتفاق على كتابة دستور جديد يعني أن الدستور القائم لا يعتبر صالحًا لإدارة سوريا الجديدة، وأن الدستور الجديد هو من ينشأ السلطات، وبناء عليه يجب وقف العمل بالدستور القديم، واتخاذ هذا الإجراء كان ضروريًا لمصداقية  دور اللجنة ولإنجاز مهمتها بأسرع وقت، لذلك ولدت اللجنة عاجزة وأصبح اللعب على عامل الزمن يفيد روسيا والنظام وإيران!  لذلك تعمل روسيا على طرح فكرة تعديل الدستور القائم تحت حجة كسب الوقت الذي قصدت إهداره، ويلقى هذا الطرح أذان صاغية حتى عند المعارضة وعضوات/أعضاء اللجنة الدستورية الذي يمثلها. إن الانتقال من كتابة دستور جديد وما يعينه ذلك من دور يفترض أن يناط باللجنة الدستورية كسلطة مؤسسة أصلية، منشئة للسلطات إلى مهمة تعديل الدستور القائم، أي تجاوز القفز من سلة إلى أخرى إلى تغيير محتوى السلال!

إن السؤال الذي طرح نفسه بعد إقرار تشكيل اللجنة الدستورية، وشكل حجر الأساس في الخلاف الذي دار بين مؤيدي تشكيل اللجنة ومعارضي تشكيلها، من الذي سيقوم بتطبيق الدستور الجديد؟

غير أن المشكلة الأهم كيف سيولد هذا الدستور؟ حتى في التصويت على بند لإقراره، يحتاج نسبة 75 بالمائة من أصوات اللجنة، ومن الصعب تصور كيف سيتفق ثلاثة أرباع اللجنة أثناء التصويت، هل يمكن تصور أن ربع عضوات/أعضاء اللجنة المحسوبة على النظام سوف تنزاح لتقف مع رؤية المعارضة على أي قاعدة من القواعد القانونية، بعد كل هذا الشرخ والانقسام الحاد الذي يحكم عمل اللجنة أراه ضربًا من الخيال.

من جهة أخرى، هل حقًا يمكن الابتعاد عن السياسة أثناء مناقشة كتابة دستور جديد؟ بعد أن تبين أن القضايا التي يطرحها النظام، ترفضها المعارضة على إنها قضايا سياسية، يتعارض طرحها مع القواعد الإجرائية لعمل اللجنة الدستورية، حيث تمترس النظام حول أربعة بنود كشرط مسبق، وهي: إدانة الإرهاب، إدانة نبع السلام، اعتبار كل من حمل السلاح ضد النظام إرهابي، رفع العقوبات السياسية والاقتصادية عن النظام. في طرح هذه القضايا يسعى النظام لأن تعترف المعارضة بشرعية سلطته، يريدها جبهة وطنية جديدة، النظام يدافع عن وجوده وعن سياساته. مع إن رفض الاحتلالات جميعها، يعتبر مبدأ يجب التوافق عليه واعتماده من كل الأطراف، لكن النظام يميز بين روسيا وغيرها على اعتبار أنه يمثل الشرعية، ودفع المعارضة وجرها إلى الدفاع عن الوجود التركي الشرعي بموجب اتفاقية أضنة. وعليه من المؤكد أن يرفض النظام أي حوار حول الثوابت التي تتعلق بشكل الدولة والنظام الفلسفي الذي ينطلق منه لكتابة دستور جديد.

أما برنامج المعارضة فكان مقدمة الدستور والمبادئ الأساسية في الدستور.

سنناقش في عجالة إمكانية كتابة مقدمة لدستور بدون حوار سياسي واسع من خلال عرض ما يمكن أن تتضمنه مقدمة الدستور، وما هي قيمتها القانونية: تشكل مقدمة الدستور الجزء الأول من الوثيقة الدستورية، وهي مدخل لمتن الدستور، حيث تأتي المواد اللاحقة للمقدمة متوافقة مع المقدمة أو مؤكدة لها.

تحتوي مقدمة الدستور عادةً على المبادئ الأساسية، والأهداف الآنية والمستقبلية، والفلسفة والقيم التي يعتمدها النظام الجديد، ومختلف القواعد المجتمعية التي تؤكد عليها السلطة التأسيسية عند صياغة الدستور.

أهم ما تتضمنه الديباجة أو المقدمة: بيان الأسباب الموجبة لصدور الدستور والاستهلال بسيادة الشعب صاحب السيادة، ومصدر السلطة، وتمجيد تاريخه. وعند وضع دستور بعد حرب داخلية طويلة لا بد من استنكار الاعتداءات والانتهاكات والجرائم بحق الشعب، والإشارة إلى العدالة الانتقالية لجبر الضرر والمحاسبة.

الإشارة إلى أسلوب الحكم وشكله، تحديد شكل الدولة موحدة أم مركبة تبعًا لتعدد السلطات فيها.

تحديد المرتكزات الأساسية للدستور: التي تقوم على أساس الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان وحرياته، بما فيها حقوق المرأة، وتأكيده على عدم التمييز والإقصاء والمساواة بالحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتولي المناصب.

وبناءً على تاريخية الديباجة التي تضمنت إعلانات الحقوق، حيث أن الدستور لا يتضمن المبادئ التي يجب أن توجه سلوك المشرع بل يفرد لها وثيقة خاصة، تحمل اسم إعلان الحقوق، أصل هذه الوثيقة هو الاعتقاد من وجود مجال خاص للأفراد لا يصح المساس به، سماها البعض المبادئ “فوق دستورية”. صدر أول إعلان للحقوق في أمريكا 1780 وكان لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي توج الدستور الفرنسي لعام 1791 عندما أعلنت فيه الجمعية التأسيسية مبادئ فلسفة الديمقراطية القائمة على المساواة والحرية، لكن مع مرور الوقت أصبح مكانها في الدستور في مقدمة الدستور لا في وثيقة منفصلة.

وقد اعتمدت الدول التي وضعت دساتيرها بعد الحرب العالمية الأولى إلى اليوم على تضمين مقدمة الدستور مواد تحدد الأسس الاجتماعية والسياسة للنظام الجديد.

مقدمة الدستور تتضمن نوعين من النصوص الأولى نصوص توجيهية: غير محددة الأهداف، يعمل النظام على تحقيقها أو عبارة عن أصول فلسفية تصور روح الجماعة، مثل: حق العمل لكل مواطن، حق المعونة في حال العجز والمرض والشيخوخة. هذه النصوص تحتاج لتنظيم من المشرع أي اصدار قوانين للعمل بها. الثانية نصوص تقريرية: محددة يستطيع الأفراد المطالبة بها دون تدخل المشرع لتنظيمها، وتعتبر قيد على المشرع وعلى المحاكم من الواجب احترامها، منها: حرية الفكر والمعتقد والتعويض العادل في حال نزع الملكية وفق القانون.

إضافة الى أن الرقابة الدستورية على القوانين تشمل أيضًا مقدمة الدستور.

في عرضنا لجزء مما يجب أن تتضمنه مقدمة الدستور، وأهمية المقدمة ومكانتها القانونية، يبرز حجم القضايا المطروحة للحوار المرتبطة بالسياسة والفكر والإيديولوجيا إضافة إلى القانون.

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة