النساء في سوريا بعد عام من سقوط الديكتاتور: فرصة تاريخية أم نضال متجدد؟

*نضال جوجك

 

تُظهر التجربة السورية بعد سقوط نظام الأسد أن قضايا النساء لا يمكن فصلها عن الإطار الأوسع للعدالة الانتقالية وإعادة بناء الدولة. فالدراسات النسوية المعاصرة تؤكد أن مشاركة النساء في المراحل الانتقالية ليست مجرد مطلب حقوقي، بل شرط أساسي لتحقيق تحول ديمقراطي شامل. إذ تكشف الأدبيات أن تجاهل النساء في عمليات صنع القرار يعيد إنتاج أنماط الإقصاء القديمة، ويضعف فرص بناء مؤسسات قائمة على المساواة والعدالة.

وفي هذا السياق يكتسب القرار الدولي 1325 حول المرأة والسلام والأمن أهمية خاصة؛ إذ يرسخ مبدأ إشراك النساء في جميع مراحل إدارة النزاع وما بعده ويلزم الدول والمجتمعات الانتقالية بضمان حضورهن في عمليات صنع القرار، بما في ذلك العدالة الانتقالية وإعادة البناء المؤسساتي. كما يؤكد على أن مشاركة النساء ليست خيارًا ثانويًا، بل التزامًا قانونيًا وأخلاقيا يضمن استدامة أي عملية تحول ديمقراطي. 

 بعد عام واحد على سقوط نظام بشار الأسد، تبدو سوريا وكأنها تقف على أرض رخوة لم تتلمس بعد طريقها نحو بناء مستقبل مستقر رغم مضي عقد ونصف من الصراع. ولا نبالغ إن قلنا أن المرأة السورية تقف في عين العاصفة، ليست منفعلة ومتلقية للحدث بل كمشارك فعلي، فلا يمكن اختزال تواجد النساء السوريات في الشأن العام إلى ما بعد سقوط نظام الأسد؛ بل تعود جذورمشاركتهن إلى عقود سابقة، حيث لعبن أدوارًا مهمة في التعليم، العمل الأهلي والمبادرات الاجتماعية، رغم القيود السلطوية التي فرضها نظام البعث. ومع اندلاع الثورة، تعزز هذا الدور بشكل ملحوظ، فكانت النساء في الصفوف الأمامية للحراك المدني والإغاثي والإعلامي، وأسهمن في بناء شبكات دعم محلية ومبادرات مجتمعية ساعدت على صمود المجتمع في وجه القمع.

 

من الظل إلى الساحة العامة:

اليوم، ومع الانتقال السياسي غير المستقر، يواجه واقع النساء السوريات تناقضات حادة تكشف عن طبيعة المرحلة الانتقالية وصعوبتها. فمن جهة، أثبتن قدرتهن على المشاركة الفعلية في إعادة بناء المجتمع، ومن جهة أخرى، ما تزال مشاركتهن رهينة غياب مؤسسات مستقرة وضمانات قانونية تحمي مكتسباتهن وتمنح حضورهن استمرارية. إن هذا التداخل بين الإرث الطويل لمشاركة النساء وبين التحديات الراهنة يوضح أن دور المرأة في سوريا ليس طارئًا أو ثانويًا، بل جزء أصيل من مسار التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة.

إن إدماج النساء في صياغة السياسات الانتقالية، سواءً عبر المشاركة السياسية أو عبر المبادرات الاقتصادية والاجتماعية، يمثل فرصة تاريخية لإعادة تعريف المواطنة في سوريا الجديدة. ومن هنا، يصبح الحديث عن النساء ليس مجرد سرد معاناتهن، بل إطاراً نظرياً لفهم طبيعة التحول الديمقراطي ذاته، حيث يشكل حضورهن معياراً لقياس مدى جدية المشروع الوطني في تجاوز إرث الاستبداد وبناء دولة القانون. 

ومع ذلك، فإن هذا المسار ظل محفوفًا بعقبات ملموسة بسبب غياب مؤسسات الدولة الرسمية و بطء تشكيل هياكل محلية مستقرة، مما جعل مشاركة النساء مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الأمنية المتقلبة وبمواقف القوى المسيطرة على الأرض. في بعض المناطق، وإن أتيح للنساء هامش واسع من الحركة والمبادرة، إلا أن هذا الحراك بقي متمثلاً في مجالات محدودة مثل منظمات المجتمع المدني وقطاع الخدمات، بينما في مناطق أخرى بقي حضورهن مقيدًا أو مشروطًا باعتبارات اجتماعية وأمنية. نسبة قليلة من النساء استطعن تجاوز تلك المساحة وانخرطن في العمل السياسي أو في ريادة الأعمال، بينما في أماكن أخرى كان الحضور النسوي ضعيفًا لا بل معدومًا، للأسباب الأمنية ذاتها بالإضافة للقيود المجتمعية التي كانت تفرض على النساء وتشكل وصمة اجتماعية لمن تتجاوز تلك القيود. هذا التفاوت يعكس هشاشة البنية السياسية والقانونية التي يفترض أن تحمي مشاركة النساء وتضمن استمراريتها. وبالتالي، يمكن القول إن النضال النسوي في سوريا ما بعد الثورة يتسم بالفاعلية من جهة، لكنه يظل مقيّدًا بغياب الضمانات المؤسسية من جهة أخرى، وبالتالي هو بحاجة إلى حماية تتجاوز المزاج الاجتماعي المتقلّب وتؤسس لشرعية مشاركة النساء كجزء أصيل من عملية إعادة بناء المجتمع.

 

الأمن المنفلت… يهدد كل شيء:

لا يمكن تقييم وضع النساء بمعزل عن الواقع الأمني. ورغم أن سقوط النظام فتح أبواباً للحرية، إلا أنه أيضًا خلّف فراغًا استغلته مجموعات مسلّحة مختلفة. في هذا السياق، تبقى النساء أول المتضررات من انعدام الأمان، وأخطر التحديات التي تواجه النساء السوريات ظاهرة الخطف التي باتت مشكلة مزمنة تجرح الضمير السوري، وتهدد منظومة القيم العامة بالانهيار، عدا عن التحرش والاستغلال الاقتصادي إلى العنف الأسري الذي ازداد بفعل الضغط النفسي والاجتماعي.

 

اقتصاد على حافة الانهيار، ومسؤولية مضاعفة على النساء:

يقف الاقتصاد السوري بعد سقوط النظام على حافة الانهيار، وهو ما ضاعف المسؤوليات الملقاة على النساء. فالحرب كانت قد حمّلت المرأة السورية عبئًا استثنائيًا، ومع انهيار البنى الاقتصادية التقليدية وفقدان المعيل الذكوري، وجدت كثيرات أنفسهن مضطرات لتولي مسؤولية إعالة أسرهن. هذا الواقع دفعهن إلى دخول سوق عمل غير منظم، يتسم بغياب الضوابط القانونية وانتشار أنماط الاستغلال والمخاطر المهنية.

ومع سقوط النظام، ازدادت هشاشة النساء نتيجة تداخل المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. فمن جهة، واجهن الاستغلال وغياب الضمانات في سوق العمل، ومن جهة أخرى تعرضن للتحرش والتمييز، فضلًا عن ارتباط فرص العمل بالقوى المسيطرة محليًا، ما جعلهن عرضة لتقلبات سياسية وأمنية. كما أن عودة النازحين والنازحات إلى مناطق مدمرة أو اضطرارهم/ن للعمل في بيئات جديدة غير مألوفة زاد من احتمالات الاستغلال، فيما كان الوضع أكثر قسوة على من بقين في المخيمات، حيث تراجعت سلل الإغاثة وأُهملت الخدمات الأساسية، تاركة النساء وأطفالهن في مواجهة مصير مجهول محروم من أبسط مقومات العيش والحقوق الإنسانية.

على الرغم مما أفرزته الظروف القاسية من حراك نسائي ملحوظ، والذي تجلّى في انخراط النساء بشكل أوسع في سوق العمل، واستنادهن إلى خبرات عملية تراكمت خلال سنوات الحرب، فإن هذا الحراك بقي محكومًا بحدود بنيوية واضحة. فغياب مؤسسات اقتصادية مستقرة، وانعدام الأطر القانونية التي تكفل الحماية من الاستغلال، حالا دون تحويل هذه المبادرات النسائية إلى مسارات تنموية مستدامة. ومن ثم، فإن تعزيز استقلالية النساء المالية وضمان مشاركتهن الفاعلة في إعادة البناء الاقتصادي يتطلب تأسيس بنى مؤسسية وقانونية صلبة، قادرة على حماية مكتسباتهن وتثبيت حضورهن كركيزة أساسية من ركائز التعافي المجتمعي.

 

العنف القائم على النوع الاجتماعي، ملف مفتوح بلا نهاية قريبة:

إن آثار الانتهاكات خلال الحرب تستمر ثقيلة على كاهل النساء، والحديث عن العنف الجنسي أو المنزلي ما يزال محاطاً بالخوف والوصمة، رغم ازدياد برامج الدعم النفسي والقانوني. المشكلة ليست في غياب المبادرات، بل في غياب الدولة القادرة على إنفاذ القانون وتضمين حماية النساء فيه. إذ لم تقتصر معاناة النساء السوريات على العنف القائم على النوع الاجتماعي، بل امتدت لتشمل انتهاكات على أساس طائفي وإثني، حيث تعرضت نساء من طوائف وإثنيات مختلفة لتمييز ممنهج، سواءً عبر الاستهداف المباشر أو عبر حرمانهن من المشاركة في مؤسسات الحكم الناشئة. هذا التمييز الطائفي أضاف طبقة جديدة من الإقصاء، إذ لم يُنظر إلى النساء فقط كأضعف حلقة في المجتمع، بل أيضًا كجزء من جماعات مهمشة سياسيًا. ونتيجة لذلك، تراجعت فرصهن في الوصول إلى مواقع صنع القرار، وأصبح حضورهن في المشهد السياسي رهيناً بالانتماءات الطائفية أكثر من الكفاءة أو الدور الفعلي. إن معالجة هذا البعد الطائفي يعد شرطاً أساسياً لبناء دولة سورية جديدة قائمة على المواطنة المتساوية والعدالة الشاملة.

إن السؤال الحقيقي لا يقتصر على كيفية حماية النساء في اللحظة الراهنة، بل يتجاوز ذلك إلى كيفية بناء منظومة عدالة انتقالية تعترف بما جرى، وتمنع تكراره، وتعيد الثقة بالعدالة. غير أنّ الاقتصار على العدالة الانتقالية وحدها لا يكفي لتأمين حماية النساء، رغم تركيزها على معالجة إرث الانتهاكات وتثبيت ضمانات عدم التكرار، لكنها لا توفر آليات يومية لمواجهة العنف الجنسي أو الخطف أو الاستغلال الاقتصادي، أي أن هناك حاجة ملحّة إلى منظومة أوسع تتكامل فيها العدالة الانتقالية مع إصلاح قانوني ومؤسساتي قادر على إنفاذ القوانين، وبرامج اجتماعية واقتصادية تعزز استقلالية النساء، إضافة إلى جهود ثقافية تغيّر البنى الاجتماعية التي تشرعن التمييز. وفي هذا السياق، يكتسب القرار الدولي 1325 حول المرأة والسلام والأمن أهمية خاصة، إذ يرسّخ التزامًا دوليًا بضرورة إشراك النساء في جميع مراحل إدارة النزاع وما بعده، ويُلزم الدول والمجتمعات الانتقالية بضمان حضورهن في عمليات صنع القرار وحمايتهن من العنف القائم على النوع الاجتماعي. 

 

بين الخوف والأمل:

بعد عام من السقوط، تبدو قصة النساء في سوريا أشبه بمرآة تعكس وضع البلاد كله؛ طاقة هائلة للتغيير، يقابلها خطر كبير للتراجع. فالفرصة التاريخية أمام النساء واضحة تشتمل المشاركة السياسية، الإصلاح القانوني، إعادة تشكيل الثقافة الاجتماعية. لكن بالمقابل، فإن كل مكسب ما يزال مهدداً بالانهيار إن لم تتوافر الإرادة السياسية لفرض دولة قانون حقيقية.

إن تحليل وضع النساء السوريات بعد سقوط النظام يوضح أن قضيتهن ليست مجرد ملف اجتماعي أو حقوقي، بل هي مدخل أساسي لفهم طبيعة التحول السياسي والاقتصادي في سوريا. فالدراسات النسوية والعدالة الانتقالية تؤكد أن إدماج النساء في عملية إعادة البناء هو شرط جوهري لضمان استدامة أي مشروع ديمقراطي. كما إن استمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي، والتمييز الطائفي، وظاهرة الإخفاء القسري، كلها تكشف أن التحديات أمام النساء هي انعكاس مباشر لأزمة الدولة والمجتمع معاً.

وبالمقابل، فإن المبادرات النسائية في الداخل والشتات، سواءً عبر المشاركة في منظمات المجتمع المدني أو عبر المشاريع الاقتصادية الصغيرة، تمثل مؤشراً على قدرة النساء على تحويل الهشاشة إلى قوة، وعلى إعادة تعريف المواطنة في سياق ما بعد الاستبداد. كما إن نجاح هذه المبادرات مرهون بوجود إرادة سياسية تضع العدالة والمساواة في صلب عملية الانتقال، وتضمن أن تكون النساء شريكات فعليات في صياغة مستقبل سوريا. وعليه، يمكن القول إن معركة النساء اليوم هي معركة على شكل الدولة الجديدة نفسها، دولة قانون ومواطنة أو دولة تعيد إنتاج الإقصاء والتمييز. وهكذا فإن إدماج النساء في كل مستويات القرار ليس خيارًا ثانويًا، بل معيارًا لقياس جدية المشروع الوطني في تجاوز إرث الحرب والاستبداد، أما إذا تم تهميشهن أو إسكاتهن، فإن سوريا ستخسر نصف طاقاتها، وبالتالي قدرتها على النهوض من تحت الركام.

إن مستقبل سوريا بعد السقوط يكتب الآن… والنساء هنّ أحد أهم أقلام وصناع هذا المستقبل.

 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية