الوجه الآخر للتنمر

*عُليّا الشلق (اسم مستعار)

إن التنمر بوجه عام ظاهرة عدوانية وغير مرغوب بها، تنطوي على محاولة لفرض السيطرة والهيمنة باتباع بعض السلوكيات الشاذة المصحوبة بشيء من التهديد والتخويف.

ويعدُّ التنمر السياسي أحد أنواع التنمر، حيث انعكس في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وأخذ أشكالاً عديدة لفكرة الاستقواء من دول على أخرى استناداً إلى مبدأي القوة والثروة، ويظهر هذا جلياً في تركيبة مجلس الأمن الدولي والعديد من المؤسسات الدولية. أحد التعاريف تقول إن التنمر السياسي يحدث عندما  تسيطر دولة ما على دولة أضعف، وعادة ما يتم عن طريق القوة والتهديد العسكري أو هو ما تمارسه الدول القوية من تهديدات عسكرية وتحالفات ضد الدول الضعيفة“.

لكن حداث الربيع العربي والتحولات الكبيرة في الدول العربية منذ ٢٠١١ وحتى اليوم كشفت عن بعد آخر للتنمر السياسي تجلى بتمسك أصحاب السلطة بسلطتهم مهما كانت الفاتورة غالية الثمن غير مبالين بالشرعة الدولية أو قوانين حقوق الإنسان، وكل هذا يحدث بالتزامن مع تراجع قوة الردع الأخلاقي والسياسي في النظام الدولي الذي كانت تحركاته خجولة ولا ترقى لمستوى الحدث.

لم يكن التنمر السياسي بعيداً عن العقل السياسي السوري قبل ثورة ٢٠١١ حيث تمثل بوضوح بمنهجية النظام السوري وشخوص حكامه، وهنا سنتناول التنمر السياسي ضمن السياق السوري.

التنمر السياسي في نهج النظام السوري

منذ أن استلم البعث السلطة إلى الآن سعى إلى الحفاظ على نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية ونهب الثروات العامة، باستخدام وسائل عديدة يتم شرعنتها بآليات عمل حكومية رسمية واتباع نمط حكومة يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة، وذلك كله على حساب الصالح العام فأنشأ بذلك نظاماً ديكتاتورياً متنمراً.

ففي بلد كسوريا يمكن أن تنتهك فيه كرامة الإنسان وحقوقه لأتفه الأسباب ويزج في السجون ليتم تعذيبه وتغييبه عن العالم، وفي مجتمع مقهور كالمجتمع السوري القائم على الأبوية، يخرج التنمر عن بعده الفردي ليأخذ أبعادا اجتماعية وسياسية أوسع ويصبح شكلا من أشكال الاستبداد.

إن أنماط التنمر السياسي التي نهج النظام السوري على اتباعها عديدة، وهي ما أوصلنا لما نحن عليه من أزمات وحروب وتهجير لنصف الشعب، واعتقال وملاحقة النصف الآخر، ونذكر منها: 

1- تزاوج السلطة والدين

من أحد أنماط تنمر النظام السوري السياسي رعاية علاقة وثيقة بين الدولة وعلماء الدين، بدأت بإدراج ديانة الرئيس الإسلام في الدستور، ثم بإنشاء معاهد الأسد لتحفيظ القرآن في زمن الأسد الأب وازدياد عددها في زمن الابن، بالإضافة لخلق مجموعة القبيسيات والجمعيات الخيرية، وتوسيع صلاحيات وزارة الأوقاف وعدم التجرؤ على تحديث القوانين، فجاءت مؤخراً تعديلات قانون الأحوال الشخصية خجولة ومخجلة ومحافظة على هذه العلاقة.  وكل هذا لتمزيق الهوية الوطنية للبلاد بالبعد الطائفي المخفي وإضعاف مفاصل الدولة للحول دون إيجاد دولة مدنية حقيقية.

2- مصادرة الفضاء العام

مارس النظام السوري التنمر السياسي باتباع سياسة الإقصاء والترهيب ضد باقي القوميات، فكانت معاملته للأكراد كمواطنين من الدرجة الثانية خير شاهد على هذا. عادة يتم ممارسة العزل الاجتماعي في التنمر، أما النظام السوري فقد مارس سياسة العزل
السياسي ليس فقط ضد أي شخص مخالف بالرأي والفكر والأيديولوجية السياسية، بل كل داعومساند له
، فكانت سجونه مليئة بالمعتقلات والمعتقلين، بدءاً باعتقالات ما يسمى الحركة التصحيحية، مروراً بأحداث حماه، وليس انتهاءً بأطفال درعا.

3- خلق مجتمع مخصي

ينتج التنمر السياسي شعوباً عاجزة على صعيد الفعل واتخاذ القرارات فمنذ عقود وبالعودة إلى ٢٠١١ نرى إن حالة التنمر التي مارسها الأسد على الثورة لم تقتصر فقط بما صدر منه، إنما من خلال قدرته على خلق فئة من المتفرجين الذين يشهدون كل ما يجري ولا يحركون ساكناً، وهؤلاء إما غير مهددين بخطر تنمره (وهم قلة) أو يساندونه خوفاً منه وهم من اعتاد المعارضين على تسميتهم بالرماديين، وأنا اسميهم (المعتقلين الاجتماعيين).

4- عرقلة السلام

حرص النظام السوري على أن يبقى حجر عثرة أمام أي مشروع لحل سياسي فمن قبل كان التنمر خارجيا  تجاه لبنان واحتلاله بشكل غير مباشر، وورقة المقاومة والقضية الفلسطينية والقائمة تطول، أما اليوم يتجلى التنمر على سوريا بتعطيل مسار الحل السياسي، وربطه المسار العسكري
بالمسار السياسي
، لأنه على يقين أن العملية السياسية تضع حدا  لنهايته وانتصاراته الوهمية في الوسط السياسي، وما تزال أشعار الجعفري حاضرة في المحافل الدولية والتغني بالسيادة الوطنية وآخرها تعطيل اللجنة الدستورية.

التنمر كصفة لرأس النظام السوري 

من أحد ملامح التنمر السياسي ظهور زعماء متنمرين يمارسون التنمر على شعوبهم بطرق مختلفة. سبق وأن أكدت الدراسات على الأذى النفسي الذي يتركه التنمر في نفوس من تعرضوا له، وأنه لربما قد يستمر مدى الحياة فكيف هي الحال إن كان المتنمر حاكماً يمارس كلّ أنواع العنف على الشعب ويحيط نفسه بمجموعة من المتعطشين لإيذاء الآخر وتهميشه.

في تموز عام ٢٠٠٠ عندما نُصب بشار الأسد خلفاً لوالده بتعديل دستوري هزلي لم يصدّر نفسه بالبداية كزعيم، بل رئيس شاب جديد مختلف، له كاريزما خاصة وقراءة جديدة للأحداث وللمستقبل وللإصلاح. حتى أنه أُطلِق على بداية عهده ربيع دمشق، لكن سرعان ما تأكد السوريون/ات أن ذهنية القبيلة لم تغادر سلوك بشار الأسد السياسي وتحالفاته المشبوهة، وكزعيم متنمر نزع بشار الأسد إلى اجترار عواطف الشعب، واللعب على وتر المقاومة والوطنية والسخرية من معارضيه ونعتهم بأبشع الصفات.

ونذكر هنا أن أحد القوى الخارقة للمتنمّرين قدرتهم على الإفلات بأفعالهم لوقت طويل، قد يمتدّ لسنين وربما يموتون دون أن يطالهم شيء، والتاريخ شاهد، فهم يعتمدون تكتيكات سلوكية تخدع الآخرين وتجعلهم غير متأكدين من سوء نيته، فتراهم يشكّكون بحكمهم عليه على أنّه متنمّر وهذا ما يضمن له قدرته على الاستمرار في ما يفعل ونلاحظ هذا بجملة (هو منيح بس لي حواليه مو مناح).

الحد من التنمر

ظهرت الرغبة بالحد من سلوك التنمر السياسي للنظام السوري في الثمانينيات لكنها قمعت بشدة وما زلنا نعيش نتائجها إلى الآن، ثم تكررت الرغبة من جديد مع بداية ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، فكانت ثورة ٢٠١١ والتي مرّت بعدة مراحل، حيث بدأت بالحاجة للانقلاب على الواقع وتغيير البيئة المحيطة بالمجتمع، فخرجت المظاهرات السلمية وأُطلقت الشعارات والهتافات المطالبة بالتغيير وصولاً إلى إسقاط النظام.

ثم انتقلت إلى شكل آخر سلبي إلى حدٍ ما أتى على شكل الابتعاد عن المشاركة وربما الانعزال، حيث لم تثبت كيانات المعارضة أنها قادرة على تمثيل كل السوريات/ين، بالإضافة إلى الشعور بالخذلان الدولي.

وأخيرا خطت خطواتها الأبعد بابتعاد المعارضتين، السياسية والمسلحة، عن مسار الثورة كلياً، بل وممارستها للتنمر بالطريقة ذاتها، أهمها عدم استقلال قرارها الوطني وتعدد مرجعياتها.

التنمر السياسي الإقليمي والدولي في سوريا 

لم يصعب كثيرا التنبؤ بالمستوى الذي سيكون عليه التنمر السياسي الإيراني في سوريا مع بداية الثورة السورية، فقد كانت العراق من قبل ساحة لمنظومة إرهابه.

إن تشابك مصالح النظام السوري مع إيران دفع نظامها الإيديولوجي لممارسة التنمر السياسي الإقليمي والانخراط بشكل مباشر بحربها الطائفية في سوريا واستعراض عضلاتها العسكرية على أراضيها، إما بواسطة ميليشياتها أو ذراعها الأيمن حزب الله، فباسم حماية المزارات والقضاء على الإرهاب تغير إيران سوريا ديموغرافياً، وتبرم العقود الاقتصادية وتطيل عمر حليفها. 

أما التنمر السياسي الروسي تمثل باستخدام سوريا كنقطة انطلاق له لتوسع مصالحه وتأثيره في الشرق الأوسط.

حيث اكتفى التنمر الروسي بمراحله الأولى بتوفير حماية سياسية للنظام السوري من تعطيل مجلس الأمن وإطلاق المبادرات السياسية الداعمة له ثم تطور في أيلول ٢٠١٥ حيث تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا وجعلت منها حقل تجارب لأسلحتها بالتوازي مع قيامها بتفريغ مسار جنيف التفاوضي وعقدها لصفقات اقتصادية كانت ثمن الفيتو والتدخل العسكري، والآن هي في مرحلة ترتيب خروجها من المستنقع السوري من خلال مساري أستانا وسوتشي، والعمل على إعادة جميع المناطق السورية لسيطرة النظام.

وبالتأكيد لن ننسى التنمر السياسي التركي الذي رغم اتخاذه موقف الداعم للمعارضة لم يخرج عن حماية مصالحه ورغبته بإبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن حدوده والتغيير الديموغرافي والمنطقة الآمنة وتحوله من الحرب بالوساطة من خلال الجيش الوطني إلى القتال المباشر على الأرض ولعبه بورقة اللاجئات/ين. 

أما التنمر الأكبر هو تنمر المجتمع الدولي والانفلات في سلوكه وتراخيه في تطبيق القرارات والقوانين الدولية أو حتى بإعطائه الضوء الأخضر لكل من سبق غير عابئ بمصير الشعوب، وهذا إن دل على شيء يدل على انتكاسة كبيرة في أخلاق الأسرة الدولية. 

إن العالم كله مستفز ومصدوم من الأحداث القاسية التي تمر بها المنطقة، والخلل الرهيب في الممارسات السياسية والتي تمثل نقطة تحول حقيقي في مسار التنمّر السياسي سيما وأنه بات يطال الشعوب ويحمي الأنظمة، مما يدعو الباحثين لإعادة النظر في تعاريفه طالما أن سقف القصف السياسي ما يزال مفتوحاً.

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة