الوعود لا تطابق الصورة

*مالينا زيد (اسم مستعار)

  لكل أمة أسطورة، وبين كل أساطير الأمم قاسم مشترك واحد وهو معتقد بأنه سيأتي آخرون من وراء البحار سيحمون هذه الأمة من آلة الموت والأهوال الطبيعية والأمراض وينشرون الخير في أنحاء البلاد، لكن سرعان ما يتبين بأنها ضرب من الخيال وبأنه تم استغلالهم وإساءة معاملتهم حتى الموت فكانت الخيبة بحجم الوعود.

لو انتهت الحرب على الصعيد الميداني فلن تنتهي على صعيد المجتمعات ولن يخرج منها أحد منتصرًا، فليس فيها إلا المهزومون منهم من فقدوا نفوسهم ومنهم من فقدوا أرواحهم وإن قلت خسارتهم خرج منها بعاهة، والعاهات الجسدية تهون أمام العاهات النفسية، ودرس الحرب لم ينتهي عند هذا الحد، فثمة جيل جديد ظهر لا يعرف سوى ذكريات العنف بكل أنواعه وما يخزنه في الذاكرة لا يسجله التاريخ، بل ستتوارث هذه الذاكرة من جيل إلى جيل دون معرفة سر لماذا كل هذه الحرب؟ ولماذا كل هذا الدمار؟ 

كل ذلك سيبدو في الجسد المدمى لهذا الجيل والذي يليه، إن سألنا شاب، ماذا ستفعل بعد انتهاء الحرب؟

سيقول: سأبحث عن أرض جديدة تدار فيها حرب أخرى، فأنا لا أجيد إلا القتل.

إن الحروب تترك بصماتها والعنف يتجذر فينا، شبابنا اليوم يبحث عن الخلاص، فلا أمل في مستقبل قادم ولا ثقة بين أفراد المجتمع ولن يبني هذا الجيل ثقة بينه وبين الحكومات القادمة، فصور الميليشيا على الحواجز ترسخت بصور ميليشيا اجتماعية، فالذهنية الميليشياوية ستتفاعل على الصعيد النفسي والاجتماعي والسياسي، فهي ذهنية لا تبالي بالانضباط القانوني ولا المعيار المجتمعي ولا تعير أي أهمية لرمزية ذات قيمة والارتقاء عن الفعل، وبإمكانها في أي لحظة إلغاء الآخر بما يناسب مصالحها فهي وريثة ذهنية الحرب التي استباحت المحرمات وتخطت كل الحواجز النفسية التي تحد من حرية التصرف فما كان خارجيًا سينعكس على النفس، الحواجز التي في الخارج التي ترمز للتفرقة وإلغاء الآخر وتجسد الكراهية والعداء ستصبح داخل كل شخص لتكون ذهنية معينة تستبيح حياة الآخر، وقد يتحول هؤلاء المقاتلين إلى مجرمين ولصوص وعناصر فساد في المجتمع.

فقد توقفت عجلة الزمن منذ بداية الحرب، فكل جيل فقد مرحلة من نموه دون تمييز، الكل تساوى أمام الخطر المحدق وانخرط في دوامة العنف لحد ما، شاء أو آبى، الطفل/ة فقد/ت مساحة وفسحة الأمان للعب ومناخ الطمأنينة، والمراهق/ة تبددت أحلامه/ا الخلاقة وعاش/ت صراع دائم، ونتيجة الإحباط الاقتصادي انجرف الشباب البالغين والأطفال المراهقين نحو عدة تيارات فمنهم من عمل في اقتصاد الظل من تجارة المخدرات والسلاح وكل المحظورات، ومنهم من التحق تحت الراية العسكرية  للاحتلال الروسي في الجنوب السوري للدفاع عن مصالحها في ليبيا وفنزويلا ، وبالمقابل الشباب في الشمال السوري انضوى تحت الراية العسكرية للاحتلال التركي للذهاب للاقتتال في ليبيا، أيضًا للدفاع عن مصالحها.

لم نستثني الشباب التي لم تستطع  السفر لانخراطها في تشكيلات فصائل عسكرية محلية منظمة للدفاع عن محيطها المحلي،  وشباب سعى إلى تشكيل فصائل عسكرية أشبه بالعصابات حيث تنامت الجريمة المنظمة  بانتشار القتل والحوادث الفردية. إن الشباب الذين انخرطوا في هذه الميلشيات سيكون لديهم شعور داخلي بالغبن والإحباط الذي سيلحق بهم من خلال الفظائع التي ارتكبوها في الحرب، ستضع على عاتقهم مسؤولية ضميرهم وسينبذهم المجتمع، وهذا يؤدي إلى شرخ بين المجتمع وبينهم بعد أن تتبرأ منهم قياداتهم لتحصد مكاسبها السياسية. بينما العناصر كانت تعتقد بأنها غير مسؤولة عما ارتكبت من عنف، لأن الأوامر كانت تأتيهم من مثال للأنا مجسد بزعيم أو قائد أو شيخ وكل هؤلاء موضع ثقة بالنسبة لهم.

على امتداد مساحة هذا العنف لا نستطيع فهم الاكتئاب وعلاقته بالاقتصاد إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار “الخسارة” كموضوع لمادة أساسية ضائعة تربط الإنسان بالحياة، إن الفجوة التي أحدثها النزاع بين جيل الشباب/ات السوري/ات كانت كارثية فالتعليم يمكن أن يكون أداة لتخفيف حدة النزاع وأثره من خلال المساواة في إمكانيات الوصول إلى التكافؤ في الفرص الاقتصادية وتعلم المساواة والتسامح.

لكن النتيجة سعي الشباب للهجرة والهروب خارج الوطن للبحث عن وطن جديد وحياة جديدة قائمة على السلام ليتعافى من آفة العنف.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                       

إن فوضى العلاقات الاجتماعية والفساد على كل الأصعدة وذهنية الحرب انتقلت من الحقل الميداني إلى الحقل الرمزي وصولاً للعائلة، الجيل بحاجة إلى إحياء مفهوم الوطن والمواطنة، فالتقديس دائمًا يحمل في طياته أدوات دماره.

تغيب القانون والعقوبة أمام ارتكاب المحرمات من قتل وسرقة وخطف، لم يدفع الناس كلهم لاستباحة بعضهم البعض فكان هناك رادع أخلاقي وتربوي وديني والقيم الإنسانية، حالت دون الانجرار إلى حضيض الحرب والعنف.

هل سيبقى هؤلاء الشباب معلقون بالأمل ويبحثون ضمن هذه الظروف التي قد تحول دون إعادة مكانتهم بين المجتمع واندماجهم فيه؟ هل سيسمح لهؤلاء الشبان بالتكلم وسماعهم وتحويلهم من معتدين إلى ضحايا؟

أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح، وتلاقي إجابات كثيرة، سيكون هناك منهم من يطلب الحكم عليه ويعترف بالذنب ويدعو أن تأخذ العدالة مجراها ضمن القوانين وينال العقوبة ويرضى بها، وبذلك فإنه يطلب استعادة موقعه الإنساني واستئناف حياته. يحق لكل من عاش حياة غير إنسانية ولم تتاح له خيارات أقلها العيش الكريم بأن يعطى حق في الحياة بين مجتمعه، فلن تكن الوعود تطابق الصورة.

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية