بين الطواعية والإكراه الراتب والميراث حق مسلوب للنساء في سوريا 

 

*سيرين العوض (اسم مستعار)

 

تُعتبر قضية حرية تصرف النساء بممتلكاتهن في الميراث والراتب من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحساسة التي تلامس حياة عدد كبير من النساء في سوريا، فبين الطواعية والإكراه يفقدن حقهن في التمتع بممتلكاتهن المالية أو العينية، فالعادات والتقاليد المجتمعية، غالباً ما تضع قيوداً تحد من حقوقهن الشرعية والقانونية خوفًا من العواقب، ما يجعلهن أكثر عرضة للتمييز، ويمنعهن من الحصول على مستحقاتهن من رواتبهن أو ميراثهن.

“في كل مرة استلم راتبي، أشعر أنه ليس لي. عملي لساعات طويلة وجهدي المبذول يتحولان إلى مجرد أرقام تذهب لدعم الجميع، إلا أنا. “بهذه الكلمات تبدأ سعاد (اسم مستعار) حديثها، وهي أم لثلاثة أطفال تعمل بمنظمة كعاملة دعم نفسي في إدلب، ورغم أنها المصدر الوحيد لدخل عائلتها، إلا أنها لا تملك القرار في كيفية إنفاق دخلها.

سعاد، امرأة في الأربعينيات من العمر، تحملت مسؤولية الإنفاق على أسرتها، حيث يُنظر إلى دخلها كالتزام عائلي على حد وصفها: “حاولت مرارًا توفير مبلغ صغير لشراء مكنسة كهربائية لتسهيل أعمال المنزل، لكن زوجي يجبرني على تخصيص كامل دخلي لتغطية احتياجات المنزل والأسرة، حتى أبسط احتياجاتي الشخصية يعتبرها رفاهية غير مسموح بها.”

ما تعيشه سعاد ليس حالة فردية؛ بل هو انعكاس لواقع تواجهه العديد من النساء العاملات منذ القدم في سوريا، حيث يتعمق جذور العنف الأسري، وتجبر العديد من الأسر النساء على التنازل عن دخلهن أو حصصهن في الميراث، لصالح الأسرة أو يتحكم به أزواجهن أو أفراد عائلاتهن دون استشارتهن.

يشير تقرير حديث بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر على موقع “المؤشر السوري لاستطلاعات الرأي” تحت عنوان “النساء العاملات في شمال سوريا… أنثى فاعلة رغم التحديات” إلى أن النساء العاملات في شمال سوريا يواجهن قيودًا مجتمعية وقانونية تمنعهن من التصرف بأموالهن بحرية، حيث تتعامل الأسر مع دخل المرأة باعتباره جزءًا من الدخل العائلي العام، دون أي اعتبار لحقوقها الشخصية أو احتياجاتها.

إضافة إلى ذلك، تعاني النساء من غياب الدعم المجتمعي والقانوني، مما يتركهن عرضة للتمييز خلال تقسيم الميراث والاستغلال المالي من قبل الزوج أو الأسرة، حيث تشير الإحصائيات وفق التقرير إلى أن أكثر من نصف النساء العاملات يواجهن تحديات اقتصادية تعيق تطورهن المهني.

 

عبء النفقات وتحمل المسؤوليات

“عندما طُلِّقَت والدتي، وجدت نفسي فجأة الأم والأب لإخوتي، أصبحت أنا المسؤولة عن كل شيء، الطعام واللباس وحتى تعليمهم” بهذه الكلمات بدأت فاطمة (25 عامًا) حديثها عن معاناتها التي بدأت منذ طلاق والدتها، حيث اضطرت إلى تحمل أعباء الأسرة بالكامل.

فاطمة، تعمل لساعات طويلة كمدخلة بيانات في منظمة غير حكومية، تحلم بمستقبل أفضل لها ولإخوتها، لكنها أُجبرت على مواجهة واقع مختلف تمامًا تقول: “أعمل ساعات طويلة ولا أملك وقتًا لنفسي، دخلي بالكاد يكفي لسد احتياجاتنا الأساسية، ومع ذلك أعيش بقلق دائم بسبب التزاماتي العائلية.”

تتحمل العديد من النساء أعباءً مالية كبيرة نتيجة التفكك الأسري أو وفاة الزوج أو حتى عدم وجود دعم مالي من الأب، تضطر النساء في هذه الحالات إلى العمل في وظائف غير مستقرة ذات دخل محدود، مما يضعهن في مواجهة تحديات اقتصادية قاسية.

 تقرير المؤشر السوري لاستطلاعات الرأي يشير أيضا إلى أن النساء في هذه الظروف يواجهن تحديات اجتماعية إضافية، حيث يُنظر إليهن كمعيلات فقط دون أي اعتبار لاحتياجاتهن النفسية أو الطموحات الشخصية.

رغم كل ما تواجهه فاطمة، فإنها ما تزال تسعى لتحسين وضع إخوتها بكل طاقتها: “أريد أن أرى إخوتي يكبرون ويحققون أحلامهم، هذا ما يجعلني أستمر، رغم كل ما أواجهه من صعوبات.”

تسعى النساء والعاملات السوريات إلى تحسين الواقع المعيشي لأسرهن، بما يقدمنه من تضحيات كبيرة بالتخلي عن رواتبهن أو ميراثهن -طواعيةً أو إكراهًا- على حساب الأساسيات الخاصة بهن وطموحاتهن الخاصة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تقديم دعم أكبر لهنَّ، سواءً كان قانونيًا أو نفسيًا أو من خلال تقديم المساعدة الاجتماعية، التي لربما تمكنهن من تحقيق التوازن بين العمل والأسرة.

 

ميراث معلق… وحق ضائع في متاهة العُرف

“قال لي والدي: هذا نصيبك، ثلث قطعة أرض زيتون، وثلث من قطعة أرض أخرى غير مزروعة، وأعطاني سند التمليك، لكنه أضاف أنه سينتفع من ممتلكات البنات حتى مماته لأننا جميعا متزوجات، في حين سيتمكن إخوتي الصبيان من الاستفادة من كامل ميراثهم، فتفهمت أنا وأخواتي الثلاث أن والدي قسم الميراث ولم يعد لديه أي مصدر دخل”.

بهذه الكلمات تصف منى (70عامًا) كيف تحولت حقوقها في الميراث إلى عبء بدلًا من أن تكون مصدر أمان لها.

لكن المفاجأة أن والد منى بقي يستفيد من قطعة ميراث البنات حتى بلغ من العمر 103 سنوات، وبعد وفاته كانت قطعة الأرض قريبة من مناطق التماس بين النظام والمعارضة وقد تعرضت معظم أشجار الزيتون فيها للحرق والاحتطاب جراء العمليات العسكرية، وحاليًا تستفيد من قطعة الأرض بإنتاج قليل من الزيت والزيتون تكاد لا تكفيها مع أبنائها وأحفادها. 

تقول منى: “غالبية النساء في إدلب يجدن أنفسهن أمام خيارين، إما الحصول على ميراثهن بالتراضي أو المحاكم أو التخلي عنه للمحافظة على علاقة الود مع الإخوة الذكور، والعرف السائد هنا هو أن تتنازل عن ميراثها أو حق الانتفاع منه خجلاً وتكرمًا منها لأبويها أو لإخوتها، حتى بات واقعًا تعاني منه كل النساء، حتى لا يضطررن للجوء للمحاكم والمخاصمة مع إخوتهن”.

تشير دراسة لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة و العدالة” بعنوان: “إسكات وتحريض: قمع متعدد الأوجه يواجه عمل النساء في شمال غرب سوريا” إلى أن حرمان النساء من حقوقهن في الميراث يُعد من أكثر أشكال العنف الاقتصادي انتشارًا في شمال سوريا، حيث تُفرض قيود عرفية واجتماعية تجعل النساء عاجزات عن التصرف بممتلكاتهن.​

العديد من النساء في سوريا يجدن أنفسهن في مواجهة تقاليد تفرض عليهن تبعية مستمرة، مما يمنعهن من استغلال حقوقهن لتحقيق الاستقلال المالي أو دعم أسرهن.

 

العمل المدني النسائي… نضال مستمر في وجه التحديات

وفقًا لتقرير “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، فإن التحديات التي تواجه العمل المدني النسائي تبدأ من الذهنية المجتمعية، التي لا تعترف بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء، وتمتد إلى قيود المؤسسات الدينية، ثم إلى السلطات الحاكمة التي تفرض أنظمة تعرقل جهود تمكين النساء بشكل خاص.

“أعمل مع منظمة نسائية، ورغم التحديات اليومية التي نواجهها، فإن أصعب ما يمر بي هو الشعور الدائم بالخوف، سواءً كان ذلك بسبب تهديدات مجتمعية أو سياسية، فإن حريتنا مقيدة، وجهودنا غالبًا ما تصطدم بعوائق أكبر منا.” بهذه الكلمات تبدأ مريم (اسم مستعار)، وهي ناشطة في إحدى منظمات المجتمع المدني النسائي شمال غرب سوريا، حديثها عن التحديات التي تواجهها يوميًا في سعيها لتمكين العديد من النساء ودعمهن.

تشير مريم إلى أن العقبات التي تواجه العمل المدني النسائي ليست واحدة، بل تتنوع بين قيود الأسرة والمجتمع، التي ما تزال تنظر إلى عمل المرأة بعين الريبة، وأن النساء يسرقن فرص الرجال في العمل، وصولاً إلى القيود التي تفرضها السلطات السياسية والعسكرية في المنطقة، والتي تُعقد الوضع أكثر.

ووفقًا للتقرير، ترى مريم أن نقص الدعم المالي المستدام أحد أبرز التحديات التي تواجهها المنظمات النسائية، حيث ترتبط غالبية التمويلات بأجندات الجهات الممولة، مما يعيق استمرارية العمل على المدى الطويل، تضيف مريم: “أحيانًا نشعر أن كل الجهود تُبذل لمجرد البقاء، وليس لتحقيق الأهداف التي نطمح إليها.”

 

عبء المسؤولية بين العمل المدني والواقع الاقتصادي

تمثل التحديات التي تواجه النساء في شمال سوريا لوحة متداخلة من العقبات الاقتصادية والاجتماعية، فإذا كانت النساء العاملات يواجهن قيودًا على حريتهن في التصرف بمداخيلهن، أو يُجبرن على تحمل مسؤوليات مالية ضخمة نتيجة التفكك الأسري والفقر، فإن العديد من العاملات في مجال المجتمع المدني النسائي يواجهن أعباءً إضافية تتمثل في التهديدات والتضييق من قبل المجتمع والسلطات.

هذا الرابط بين المحاور يعكس واقعًا أكثر تعقيدًا؛ حيث إن نسبة جيدة من النساء في سوريا يعانين من تعدد أشكال العنف الاقتصادي والاجتماعي، وإذا كان العمل المدني يهدف إلى دعم النساء وتمكينهن من تجاوز هذه التحديات، فإن هذا العمل نفسه يواجه تضييقًا وتهديدات تعيق تقدمه.

إن دعم المرأة في سوريا يحتاج إلى مقاربة شاملة تجمع بين تعزيز استقلال النساء الاقتصادي، وحماية حقوقهن، وتمكين العاملات في المجتمع المدني من مواصلة جهودهن دون عوائق.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية