جيل الحرب والسلام: أثر النزاع على الوعي السياسي للفئة الشابة في سوريا
- updated: 22 أغسطس 2025
- |
*هناء الخضر
إن التجربة السياسية والاجتماعية التي عاشها جيل الشباب/ات السوري تعتبر من التجارب الاستثنائية التي تشكلت ملامحها خلال سنوات طويلة من نزاع مسلح حاصر أحلامهم وتوغل في أنماط حياتهم وأعاد تعريف مفاهيم الأمان والانتماء بالنسبة لهم، فكان هذا الجيل يختلف اختلافًا كليا عمن سبقه، إذ أن وعيه السياسي لم يتشكل عن طريق الكتب أو الاجتماعات الحزبية أو الأخبار ذات المصدر الواحد، بل تشكل عبر مجموعة من الأحداث السياسية التي أثرت على واقعه وتوغلت حتى في تفاصيل حياته الشخصية.
لم تكن القرارات التعليمية ولا المهنية ولا خيارات السكن والتنقل متاحة بحرية خلال سنوات النزاع، لقد كانت السياسة العامل الأساسي في استمرار هذه الظروف خلال تلك السنوات، وقد نشأ جيل الشباب/ات وتشكل وعيه السياسي متأثرًا بالخوف والغياب والتهجير، إلا أن التجربة التي عاشها وتعايش معها زرعت بداخله الرغبة في تشكيل مستقبل مختلف وقوة دافعة نحو التغيير وبناء السلام.
ملامح الطفولة السياسية لجيل الحرب
تكوّن الوعي السياسي لجيل الشباب/ات السوري في بيئة مشبعة بالاضطراب وفقدان الاستقرار؛ فلم تكن المدرسة ومناهجها هي المصدر الوحيد للمعرفة؛ بل رافقتها وقائع يومية فرضتها العمليات العسكرية التي كثيرًا ما عطّلت العملية التعليمية وأدت إلى موجات نزوح وتهجير متكررة، وخسائر مادية ومعنوية، وفقدان للأحبة والأصدقاء، ومعاينة مشاهد جديدة أزالت مفهوم الحياة الطبيعية من الذاكرة الجماعية، كحواجز التفتيش، والانفجارات المتكررة، والحدود الداخلية غير المعلنة التي قسّمت البلاد إلى مناطق نفوذ متناحرة، لكل منها سلطة مركزية خاصة بها، وقد نشأ هذا الجيل وهو يدرك أن السلطة لا تقتصر على الحكومة المركزية، بل يمكن أن تتمثل في فصيل محلي أو مجموعة مسلحة تسيطر على حي أو قرية أو معبر.
تشكلت الحساسية السياسية لدى جيل الشباب/ات من خلال خبرة ميدانية مباشرة بعيدة عن القنوات الرسمية التقليدية كالصحف والنقاشات العائلية، فشباب/ات اليوم عندما كانوا أطفالاً في حصار غوطة دمشق وحلب وحمص أدركوا أن السياسية هي من تحدد إن كان الخبز سيصل بيوتهم أم لا، وعندما هجروا إلى مخيمات الشمال أدركوا أن المعارك ليست فقط على الجبهات بل هناك معركة أشد ضراوة، وهي معركة تأمين لقمة العيش، وفهموا أن القرارات السياسية قادرة على تحويل مدارسهم إلى أنقاض وأحلامهم إلى كوابيس، فلم تكن الخبرة السياسية لهذا الجيل وعيًا نظريًا أو معرفيًا؛ بل خبرة مكتسبة من تكرار التجربة الحية كالتعامل مع الخوف، والتكيف مع غياب الخدمات، وفهم أن الاستقرار يمكن أن يتبدد في أي لحظة، وهو وعيٌ محملٌ بعبء الصدمات والمآسي مما جعل مواقفهم اللاحقة متأرجحة بين الانخراط الحذر في الشأن العام أو الانكفاء التام في الشأن الخاص.
إن الطفولة السياسية لجيل الحرب صاغت إدراكًا قام على النجاة، وعلى ربط السياسة بالأزمات، والسلطة بالقوة العسكرية، والعدالة بالانتصار لا بدولة القانون والمؤسسات. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مضاعفًا في تشكيل هذا الوعي، لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب على مصراعيه أمام التضليل والاستقطاب، ما جعل الوعي السياسي المبكر لدى جيل الشباب/ات هشًا، عاطفيًا، وحدّيًا، وإن نضوج هذا الوعي وتطوره يتطلب أن تتوفر البيئة الحاضنة التي تخلق المسار الطبيعي لهذا الوعي الذي يصبح فيه قويًا قادرًا على إحداث التغيير.
الأثر النفسي العميق للنزاع على موقف الشباب/ات السياسي
خلفت سنوات الحرب تراكمات نفسية هائلة انعكست على الموقف من الانخراط في الحيز العام، فالعديد من الشباب/ات يشعرون بأن السياسة “لعبة مغلقة” لا مكان لهم فيها، وهذه التراكمات تركت ندوبًا عميقة في بنية الصحة النفسية للشباب/ات وأثرت بشكل كبير على موقفهم من السياسية أو عدم انخراطهم فيها، فتراهم يربطون أي نقاش سياسي بمدى الخطر الذي قد يتعرضون له أو الخسارة الناجمة عنه في حال مشاركتهم فيه، فيفضلون الانسحاب والانكفاء.
وفي المقابل هناك حالة الاحتراق السياسي التي أصابت العديد من النشطاء الذين انخرطوا بعمق في العمل السياسي أو الثوري، ثم اصطدموا بالواقع القاسي، وفقدوا حافزهم للاستمرار، وتجربة الشابات في هذا السياق أكثر تعقيدًا، فهن يواجهن تحديات متعددة ما بين المخاطر الأمنية والاجتماعية، والأعراف التي تحد من تحركاتهن، إلى جانب العنف القائم على النوع الاجتماعي، فكانت المشاركة السياسية بالنسبة لهن أكثر تكلفة وأكثر خطورة.
وهنا تظهر الفروق الجندرية بقوة في هذه التجربة، فالشبان غالبًا واجهوا خطر الاستدعاء للخدمة العسكرية أو الانخراط القسري في النزاعات، ما جعل السياسة بالنسبة للبعض مرادفة للخطر الشخصي المباشر. أما الشابات، فبالإضافة إلى الخوف من العنف العام، واجهن قيودًا اجتماعية صارمة، ومخاطر مضاعفة في التنقل أو العمل في المجال العام، ما دفع الكثيرات منهن للانكفاء إلى أدوار اجتماعية أقل ظهورًا، وقد أفرزت هذه الظروف نوعًا من “السياسة السلبية”، منها متابعة الشأن العام عن بعد، والانخراط فقط في قضايا محلية صغيرة أو عبر قنوات آمنة، مثل العمل التطوعي المحدود أو النشاط عبر الإنترنت بأسماء مستعارة.
الشباب/ات في مسارات السلام
إن القرار الأممي 2250، الصادر عام 2015، وضع الشباب/ات في قلب عمليات السلام والأمن، لكنه في السياق السوري ظل أقرب للنصوص النظرية من التطبيق العملي، وعلى الرغم من أن سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 كان من الممكن أن يفتح للشباب/ات أبواب السياسية؛ إلا أن ذلك لم يحدث؛ فما زالت الطاولة التي تحدد المسارات الكبرى حكرًا على فئات سياسية وعسكرية لم تفسح المجال للفئات الشابة سوى للمشاركة الرمزية دون منحهم أدوارًا حقيقية في صياغة السياسات أو اتخاذ القرارات إلى جانب غياب القنوات المؤسسية لمشاركة الشباب/ات، وضعف البنية التحتية للمجتمع المدني في كثير من المناطق، والنظرة التقليدية التي ترى أن الشباب/ات “بحاجة التوجيه” وليسوا شركاء متساوين، مما يزيد من حجم الهوة بين ما يطمح إليه الشباب/ات وما يُسمح لهم بفعله.
وعلى الرغم من ذلك هناك العديد من الشباب والشابات استثمروا طاقاتهم وإمكاناتهم في خلق المبادرات المحلية المتنوعة في مختلف المجالات، وهذه المبادرات تثبت أنهم قادرين على أن يكونوا جزءًا من الحل إذا أُتيحت لهم المساحة.
المشاركة كطريق للتعافي
إن التعافي النفسي والسياسي للشباب السوري والشابات السوريات لا يمكن تأجيله إلى ما بعد السلام؛ بل يجب أن يبدأ في قلب المرحلة الانتقالية، فالمشاركة الفاعلة ليست فقط أداة للتأثير في المستقبل، ولكنها أيضًا وسيلة لإعادة بناء الثقة بالنفس وبالمجتمع، فعندما يُشرك الشباب/ات في صنع القرار، فهم يعيدون تشكيل وعيهم السياسي بعيداً عن دور الضحية، ويتحول هذا الجيل إلى فاعل حقيقي في رسم المسار الجديد، لأن المشاركة تحوِّل طاقة الغضب والحزن إلى دافع للإبداع، وتخلق بيئة تتطور فيها القيم الديمقراطية من القاعدة إلى القمة. فهي ليست فقط وسيلة لإعادة الإعمار المادي، بل أداة لإعادة إعمار الثقة بين الأفراد، وبين المواطن/ة والدولة، وهي الثقة التي تحطمت بفعل الحرب.
وفي هذا الإطار يمكن أن تكون منصات الحوار المفتوحة أداة هامة تربط الشباب/ات بصناع/ات القرار المحليين والوطنيين، بما يعزز مشاركتهم وتفاعلهم في الشأن العام إلى جانب دمجهم في المجالس المحلية، ولجان إعادة الإعمار، وهيئات العدالة الانتقالية، وأيضا دعم المبادرات التي يقودونها خاصة في المناطق المهمشة أو التي تشهد توترات ونزاعات متلاحقة، ما يعزز قدرتهم على المشاركة في الحياة المجتمعية والسياسية. ومن المهم أيضًا الاستثمار في التعليم والتدريب المهني لتمكين الشباب/ات اقتصادياً، فجميع هذه العوامل يمكنها مجتمعة أن تضعهم في موقعهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هذا الموقع الذي يسمح لهم بتغيير الواقع وصناعة الغد.
جيل الشباب/ات السوري الذي نشأ خلال سنوات النزاع هو جيل ذاكرة حية للألم، وفي ذات الوقت هو جيل يمثل فرصة حقيقية للمشاركة في صياغة سلام أكثر عدالةً ورسوخًا، وإن دفع هذا الجيل وإعطاؤه المساحة الكاملة ليكون فاعلًا ومؤثرًا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإزالة الحواجز البنيوية والثقافية التي تبعده عن مراكز القرار، فالشباب والشابات يجب النظر إليهم كشركاء حقيقين في صناعة سلام سوريا ومستقبلها، فهم الصوت واليد والعقل الذي يمكنه تصور ملامح المستقبل، وجعل هذا المستقبل واقعاً معاشًا.