حول الدستور… وفصل السلطات

*سلمى الدمشقي

لمناقشة موضوع فصل السلطات والذي هو المطلب الأساسي لأي دولة مدنية حديثة وهو أساسًا أهم نقاط الدستور لابد أن ننوه عن ماهية الدستور بالأصل، فالتعريفات المتداولة للدستور بأنه لائحة حقوق أو أنه مجموعة من القوانين العامة والخاصة للدولة، مفصلة أو مختصرة، دائم أم مؤقت، تعرفه شكلاً وليس مضموناً، إلا أنه في الحقيقة الملموسة والواقعية يضطلع بدور الأداة لتثبيت السيطرة الطبقية ويجسد تناسباً معيناً للقوى الطبقية. 

“إن جوهر الدستور يتلخص في أن القوانين الأساسية للدولة عموماً والقوانين الخاصة بالحق الانتخابي في الهيئات التمثيلية وصلاحياتها… الخ إنما تعبر عن التناسب الفعلي للقوى في الصراع الطبقي”.

 فكل الدساتير عبر التاريخ عبّرت عن مستوى سيطرة إحدى الطبقات على الدولة والمجتمع من الدستور الإنكليزي 1689، أمريكا الشمالية 1776، فرنسا 1789. ففي بريطانيا كانت سيطرة النبلاء الإقطاع والأثرياء، وفي الولايات المتحدة عبّرَ أيضًا عن سيطرة أصحاب الإقطاعيات والبرجوازيين الناشئين الجدد، وفي فرنسا عبّرَ عن سيطرة ورثة الحكم الأوتوقراطي والكنسية وهم البرجوازية الحديثة أيضاً.

مع العلم بأن تناول الدستور لكل مناحي حياة المجتمع من تنظيم وقوننة والأهم دخول فكرة الحريات ومفهوم (حكم الشعب نفسه بنفسه) وهي الديمقراطية التي تحولت بالمضمون إلى آليات عمل سياسية يمكن أن تُدور زواياها بكل بساطة ويمكن أن يفعل رأس المال فعله دون أن يخرق (الديمقراطية) وبديمقراطية.

فالدولة هي المُعبر المباشر الأقوى عن السلطة السياسية وهي تجسيدها المادي والتنظيمي المكثف حيث تتركز السلطة في أيدي الطبقة المسيطرة اقتصاديًا والتي تمارس بواسطة القوة المنظمة – جهاز الدولة – العنف فتقمع مقاومة الخصوم الطبقيين وتعمل على تسيير شؤون الدولة لصالحها، فتحتاج بذلك للقوانين والدساتير التي تبدو وكأنها نتيجة لتوافق المجتمع وتنفيذًا لرغبته وتعبر عن المصالح العامة وبمثابة انعكاس لأفكار العدالة السامية والعقل والوفاق الاجتماعي وبمثابة تقييد ذاتي لسلطة الدولة… الخ. 

حيث يبذل إيديولوجيو البرجوازية قصارى جهودهم لستر الجوهر الطبقي الحقيقي للدستور والمغزى الطبقي الأناني للأحكام الدستورية ومبدأها الرئيسي الذي يتلخص في استقرار الملكية الخاصة باعتبارها أساس لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، وطبعًا لا تحمي وريقات كتب عليها الحقوق من التعسف والاضطهاد والاعتقال والتنكيل وقتل الأفراد وحتى المجازر الجماعية ومصادرة الحريات وغيرها مما يمارس في الدول القمعية والدكتاتورية.

 فإذاً، الدستور هو اللائحة الحقوقية الأساسية التي يتعين عليها (طبقًا لمصالح وإرادة الطبقة السائدة) أن تعبر عن الأعمدة والأنظمة الأساسية لنظام الدولة والمجتمع وترسيخها في هذه اللوائح حيث تثبت فيها مبادئ تنظيم ووظائف الهيئات التمثيلية للدولة وكذلك حقوق المواطنات والمواطنين وحرياتهن/م، والدستور بهذا المعنى قد ظهر كأداة خاصة للنظام الحقوقي للدولة حين بدأ عصر استلام البرجوازية للسلطة، ففي المجتمعين العبودي والإقطاعي مع ما يلازمهما من امتيازات فئوية وتشتت وانقسام كانت هناك عدة لوائح حقوقية منفصلة تتسم في الغالب بأهمية محلية وليس عامة.

فإذاً، إن الحاجة للقانون الأساسي الموحد (الدستور) الذي يتميز بالأولوية الحقوقية على سائر القوانين مشروطة موضوعيًا بالتمركز الاقتصادي والسياسي وبظهور الدول الوطنية البرجوازية.

إذاً، إن المغزى الحقيقي للدستور في ظل الأنظمة الطبقية يجب أن نراه في التناسب الفعلي للقوى في الصراع الطبقي، وهذا التناسب بالذات هو الذي يشكل الدستور الفعلي خلافًا للدستور المدون فالتنازلات التي يمكن أن تقدمها السلطات الحاكمة الاضطرارية (مثلا النظام السوري في الـ ـ2012) بالتأكيد وهمية فنسأل ونقول ما هي الضمانات للاعتراف الفعلي بهذه الحقوق؟ إن ضماناتنا الوحيدة هي في قوة طبقات الشعب التي أدركت هذه الحقوق واستطاعت أن تحرزها، ذلك هو الدستور الوحيد غير الوهمي.

والقوة هنا لهذه الطبقات هي في إمكانية سيطرتها حيث تصبح رقمًا لا يمكن تجاوزه عند صياغة القوانين. فالقصة تبدأ من البداية بطريقة اختيار الممثلات/ين الحقيقيات/ين للشعب وهذا الاختيار يعبر أولاً عن تمكن الطبقات الشعبية في إثبات ذاتها ومعرفة مصالحها الحقيقية وإمكانية الدفاع عنها، وثانيًا عن مستوى الديموقراطية (التي تخوض الجماهير الفقيرة حربًا دائمة لتثبيتها) التي ترافق هذه العملية، ففي كل الدساتير عبر التاريخ، وخاصة القديمة منها، كانت طبقة النبلاء هي المستفيدة الأولى من تسطير لوائح الحقوق وكلما تقدم واحتدم الصراع الطبقي في القرن العشرين كلما انتزعت الطبقات الشعبية حقوق وكان لها القدرة على حمايتها.

فإذاً، طبيعة السلطة هي التي تحدد مستوى شمولية الحقوق والطبقات المستفيدة من هذه اللوائح ومرونة وفعالية هذه القوانين المكتوبة على الورق.

وفي المستوى الثاني عندما تبدأ التحولات الطبقية لصالح الطبقات الشعبية فالموضوع الذي يأتي بأهمية الدستور الديموقراطي العادل هو مسألة وصول الممثلات/ين الحقيقيات/ين لهذه الطبقات للجمعية التأسيسية أو للجمعية العمومية، والتي سيكون عليها مهمة تسطير لائحة الحقوق ورسم الطريقة التي ستتم بها عملية الانتخاب وقوانينه، حيث ستكون هذه القوانين والآليات محددة لنوعية وطبيعة الممثلات/ين، فمثلاً إن كانت ضمن قوانين الانتخابات عدة دوائر مقسمة لعموم الوطن والانتخاب على مرحلة واحدة سيكون هناك ممثلات/ين مختلفات/ين عن قانون انتخاب يعتمد كامل الوطن دائرة انتخابية واحدة، أو إذا كانت مثلما يتم الآن في معظم الدول الأوروبية انتخابات مبنية على الحزبية بدائرة انتخابية واحدة، وهناك الكثير من محاولات الالتفاف من قبل الطبقات البرجوازية والملاكين مثلاً دور المرأة كمنتخبة أو كناخبة وتسهيل تمكينها بالعملية الانتخابية. فالعملية الانتخابية أيضًا هي معركة تخوضها الطبقات الشعبية لتستطيع إيصال ممثلاتها وممثليها المدافعات/ين عن مصالحها.

لقد كان للتجارب الاشتراكية في العالم أثر بارز في موضوع بناء الدولة وبناء أدواتها، فمنذ انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا والشعوب المجاورة لها بدأ دفق الأفكار من التحرر من نير الاستعباد إلى التحرر من الاستعمار إلى وعي إمكانيات الطبقات الشعبية في التغيير وقلب السيطرة في بلدانها إلى وعي موضوع السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي والسياسي عن الغرب الاستعماري، وتصاعدت هذه الأفكار حتى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية بانتصار الاتحاد السوفييتي ودخوله بالمنافسة مع العالم الرأسمالي في كسب تأييد الدول الساعية إلى الاستقلال أو المستقلة حديثًا وبدأت التجاذبات الدولية بتأثيرها على سير تطور بلدان (العالم الثالث) فدعمت المنظومة الاشتراكية مسألة السيادة والاستقلال الاقتصادي، وأيضًا نقلت تجاربها الداخلية خاصة المتعلقة بسيطرة الحزب الواحد على الدولة وعلى أدوات الدولة من سلطة تشريعية وقضائية وكان للعسكرة التي دفعت بها لمواجهة الغرب أيضًا دور في تصديرها إلى هذه الدول حديثة البناء وحديثة العهد بالمؤسسات العميقة التي تبقي الدولة متماسكة، وهي عقد اجتماعي لكل الطبقات فاستلهمت البرجوازية الصغيرة الأكثر عددًا والحائزة على تعليم متوسط ولها طموح مزدوج هذه التجربة بأن تحكم وتغتني مع بقاء علاقتها قوية بالطبقات الفقيرة ودون الانفصال عنها لأنها القوة الضاربة لخصومها من البرجوازيات الوطنية الكبيرة .

ففصل السلطات في الدول الاشتراكية ليس له معنى كون الحزب الثوري الذي أطاح بالطبقات البرجوازية والمستبدة أصبح هو الوصي الشرعي على مصالح المجتمع ككل وله أحقية التشريع والتنفيذ ومراقبة القضاء وتسييره بما يخدمه، وهذه الأيديولوجيا الشمولية اتبعتها البلدان الأكثر قربًا من المعسكر الاشتراكي والذين استفادوا من الدعم السياسي والعسكري فاستباحوا مجتمعاتهم ودولهم بطبقة بيروقراطية نهاية انفصلت عن جذورها وتناحرت مع نظيراتها من البرجوازيات الوطنية الأخرى وابادتها أو شاركتها بأرباحها وسيطرت عليها سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا.

وحتى الدول التي بدلت تحالفها من الشرق إلى الغرب لم تكن بحال أفضل حيث لم تستطع أن تبني دول بسلطات منفصلة وتعمل بمبدأ تداول السلطة، فالغرب أيضا لم تكن تعنيه السياسة الداخلية لهذه الدول بقدر تبعيتها العامة له السياسية والاقتصادية.

وهكذا نرى أن تجارب أغلب الدول في فصل السلطات والنص عليها في الدستور تحكمها القوة المسيطرة في هذه الدول وولائها الأيديولوجي ومصلحتها الاقتصادية، ولم يتم العمل بهذا المبدأ إلا بما بتناسب ويخدم مصالح هذه القوى ويضمن استمراريتها في الحكم في وجه خصومها.


*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية