خطف النساء والفتيات في سوريا جريمة مستمرة -آثار مجتمعية عميقة
- updated: 21 أكتوبر 2025
- |
*كبرياء الساعور
منذ مطلع العام الحالي اختفت عشرات النساء والفتيات في سوريا في مشهد يعكس تصاعدًا مقلقًا للعنف ضد النساء عقب سقوط النظام وانهيار مؤسسات الدولة. هذا التصاعد ليس حالة طارئة بل امتدادٌ لمسار طويل من الانتهاكات ضد النساء، من أبرزها الخطف، حيث استخدمته أطراف النزاع لإرهاب المجتمعات المحلية خلال سنوات الحرب والنزاع في سوريا.
تعاني الناجيات من الخطف من آثارٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ تتراوح بين الصدمات النفسية والوصمة الاجتماعية، مما يزيد من عزلتهنّ ويعيق وصولهنّ إلى العدالة. بل إن جريمة الخطف لا تمس الضحايا فقط، بل تصيب العائلات والمجتمع بأكمله بجروح عميقة، وسوريا ليست استثناءً، حيث حدثت حالات مشابهة من خطف النساء في دول شهدت نزاعًا مسلحًا، مثل السودان، ليبيا، العراق واليمن، والتي تعد مؤشرًا على تصاعد العنف القائم على النوع الاجتماعي.
لا ينبغي النظر إلى خطف النساء في سوريا كجرائم جنائية منفردة، بل هي ممارسات منهجية لاستباحة النساء وتهديد وجودهن في الفضاء العام. إن خطف النساء في سوريا فعل اجتماعي وسياسي في ظل تعتيم إعلامي وتستر على هوية الجناة، يقابله صمت من عائلات الضحايا خوفًا من الوصمة الاجتماعية، في الوقت الذي تترك فيه الناجية دون أي دعم أو حماية. إن السكوت عن خطف النساء ينذر باستمرار هذه الممارسات، بل يهدد بأن تتخذ أشكالاً أكثر استباحة في ظل تنامي الخطاب الذكوري.
يسعى هذا المقال لتفكيك أسباب وتداعيات ظاهرة الاختطاف، وطرح تساؤلات نقدية حول استجابة المنظمات النسوية، وهل كانت على المستوى المأمول؟
الأسباب البنيوية والسياسية وراء استهداف النساء بالخطف
ترتبط ظاهرة خطف النساء بعوامل بنيوية وسياسية معقدة تتداخل فيما بينها، تعكس نمط من الانتهاكات المرتبطة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي والعنف الجنسي، كما ورد في مقال لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي في جريدة عنب بلدي “لا يمثل خطف النساء في حالات النزاع وما بعده جرائم فردية منعزلة، بل هي ظاهرة ممنهجة مرتبطة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي والعنف الجنسي”.
وتنبع الأسباب البنيوية من طبيعة المجتمع السوري، الذي تحكمه عقلية أبوية تبرر الانتهاكات ضد النساء وتلوم الضحايا. فضلاً عن التطبيع مع العنف ضد النساء طوال سنوات الحرب وانتشار الفصائل والعسكرة.
أما الأسباب السياسية، فتتمثل في استخدام النساء كأدوات حرب وإذلال للمجتمعات وكسر إرادتها من الداخل وتكريس الهيمنة في ظل غياب مؤسسات قضائية مستقلة وغياب آليات المحاسبة وتكريس ظاهرة الإفلات من العقاب.
لا تعد حالات خطف النساء ظاهرة جديدة، لكن هذه الظاهرة برزت بشكل ملحوظ بعد سقوط النظام في مناطق سورية مختلفة. لا توجد إحصائيات دقيقة ومكتملة لحوادث الخطف، بالرغم من التوثيق للعديد من هذه الحالات من قبل منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية، فقد كشفت المنظمة عن تلقيها تقارير موثقة منذ شهر شباط تفيد باختطاف ما لا يقل عن 36 امرأة وفتاة من محافظات اللاذقية، طرطوس، حمص وحماه، وفي جميع الحالات تقاعست عناصر الشرطة عن إجراء تحقيق جدي لمعرفة مصير المختطفات.
تتعدد أسباب خطف النساء في سوريا، ولا تقتصر على الحصول على الفدية؛ إذ يتم ابتزاز العائلات لدفع مبالغ مالية كبيرة دون ضمان عودة الضحية، وفي حالات أخرى تمثلت بالزواج القسري، الاتجار بالبشر أو الانتقام الطائفي، وهذا ما أكده تقرير منظمة العفو الدولية.
ترافقت هذه الظاهرة مع موجات من الصمت والإنكار ومحاولات ممنهجة للتضليل بنشر روايات كاذبة في العديد من الحالات ادّعي أن اختفاء النساء تم بإرادتهن أو “هروبهنّ مع الحبيب” لتبرير الغياب ونفي تعرضهن للإكراه والعنف، ورغم خطورة هذه الجرائم نشهد تجاهلاً ومحاولات تعتيم من قبل السلطات. وفي هذا السياق، لم يتضمن تقرير اللجنة الرسمية للتحقيق في انتهاكات الساحل أي إشارة إلى ورود شكاوى تتعلق بحالات خطف نساء.
على الرغم من أن حوادث خطف النساء حصلت في مناطق سورية مختلفة لكنها اتخذت بعدًا هوياتيًا متصاعدًا، واستخدمت كسلاح رمزي، فقد أشار تقرير وكالة رويترز إلى إن تركز حالات الخطف في طرطوس واللاذقية وحماة يدل على استهداف طائفي ممنهج، حيث يشكل خطف النساء من الطائفة العلوية أداة للانتقام وتصفية الحساب أو عقاب جماعي بهدف عزل الطائفة، مما يعيد إنتاج العنف. كما أن تواطؤ السلطات الأمنية أو تجاهلها يعد عنفًا رمزيًا، حيث يعيد إنتاج الصمت كأداة للقمع، فقد اشتكت الكثير من العائلات من تجاهل قوات الأمن لبلاغات الخطف. هذا يؤثر على العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث يفضي إلى مزيد من انهيار الثقة بين مؤسسات الدولة الرسمية وبين المواطنين/المواطنات.
في السياق ذاته، ترافق العنف المسلح مع حالات خطف نساء كأدوات ضغط ومساومة للاستخدام في صفقات تبادل الأسرى، كما أن الخطاب إعلامي سعى لطمس الحقيقة والتغطية على الجهات المتورطة من الفصائل المسلحة أو غيرها. برز هذا النمط بشكل واضح في محافظة السويداء، حيث أشار موقع درج إلى اختفاء أكثر من ستين امرأة بعد الهجوم على المحافظة.
آثار وتداعيات خطف النساء والفتيات على المجتمع والنساء أنفسهن
يمكن القول إن ظاهرة خطف النساء والفتيات تحولت إلى أداة عنف مركب، تتجاوز الجريمة الفردية لتصبح فعلاً ذو دلالات عميقة، ورسائل موجهة إلى الطائفة والجماعة وحتى الهوية الوطنية، يتمثل بتداعيات سياسية واجتماعية تسهم في تغذية الخطابات الطائفية والانقسامات المجتمعية التي تعمق الأزمة الوطنية.
تتجلى التداعيات الاجتماعية في تفكك النسيج المجتمعي وتفكك الروابط المجتمعية وزيادة الانغلاق الاجتماعي، خاصة في المناطق المهمشة والريفية. كما تواجه النساء وصمة مجتمعية كضحايا للعنف، يؤدي ذلك إلى نبذهن وإسكاتهن، مما يعيق عملية التعافي، حيث تعاني الضحايا من الاضطرابات النفسية و الإصابات الجسدية بسبب العنف والتعذيب. ان جرائم الخطف تعيد إنتاج العنف ضد النساء وتكرس بنية اجتماعية تحمل المرأة مسؤولية العنف الواقع عليها وتقصيها من دوائر الحماية والفعل.
إن آثار خطف النساء لا تتوقف على الضحايا فقط، بل تطال النساء بشكل عام، ويؤدي ذلك إلى تراجع مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية، كما يتم وضع قيود على حركة الفتيات والنساء من قبل الأهل والمجتمعات المحلية تحت تأثير الخوف من الخطف، الأمر الذي يحد من وصول النساء إلى التعليم، العمل أو حتى الخروج من المنزل، وفرض قيود باسم الحماية، مما يزيد من التمييز ضد النساء في المجتمع.
موقف المنظمات النسوية، هل خفت صوتها؟
بعد سقوط النظام السوري البائد تغيرت موازين القوى السياسية، التي كانت موحدة في مرحلة الثورة ضد نظام الأسد، حيث بدأت تعيد تموضعها وفق مصالح جديدة، مما أدى إلى تفكك التحالفات القديمة وبروز استقطابات جديدة، بعضها قائم على الهوية أو الدين وغيرها، هذا الاستقطاب السياسي أضعف صوت وحضور المنظمات النسوية وضيق المساحات المشتركة التي كانت تتيح لها النضال ضد قضايا الاختطاف والعنف الجنسي، ففي كثير من الأحيان تحول الحديث عن الاختطاف إلى صراع سياسي يتم فيه كيل الاتهامات بالانتقائية والتحيز تبعًا للجهة التي ينسب إليها الجناة، مما يجعل الضحايا عرضة للتشكيك والتوظيف السياسي.
السؤال الذي يطرح نفسه، هل كان تفاعل المنظمات النسوية ضعيفًا؟
نعم، يمكن القول إن موقف كثير من المنظمات النسوية أقل من المتوقع بسبب طبيعة وتعقيد المرحلة الانتقالية، وتشتت جهودها، وبسبب الانقسام الداخلي حتى داخل الحركة النسوية، لقد برزت خلافات حول أولويات العمل الذي أضعف الجهد الجماعي، يُضاف إلى ذلك الخوف من الانتقام والتشهير الذي تعرضت له نساء حاولن فضح جريمة الاختطاف. لذا، يجب العمل على إعادة بناء خطاب نسوي قوي حول القضية، وإعادة بناء تحالفات عابرة للطوائف والانقسامات السياسية، لإعلاء صوت الضحايا فوق الحسابات السياسية، وذلك بالشروع في حوار بين المنظمات النسوية السورية المختلفة، بهدف تجاوز الانقسام وبناء جبهة موحدة.
إن مواجهة تداعيات خطف النساء يتطلب مقاربة وطنية شاملة تربط بين العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للناجيات، وفتح مجالات النقاش العام حول العنف الجندري والطائفي، والسعي لتغيير الخطاب المجتمعي لمكافحة الوصم والتمييز.