دور منظمات المجتمع المدني داخل وخارج سوريا
- updated: 9 أكتوبر 2020
- |
*نضال جوجك
منذ انطلاقة الحراك الثوري في سوريا في عام 2011 بدأت تتشكل مجموعات من الشابات والشباب السوري الحر من طبقة المثقفات/ين والأكاديميات/ين لتنظيم مؤسسات تخدم الثورة، بمعزل عن المؤسسات الحكومية التي حاربت كل من ثار في وجهها، وقامت بملاحقتهن/م واقصائهن/م عن ممارسة حقوقهن/م في العمل والتعليم واعتقال كل من شارك في الحراك الثوري السوري، وهذا ما ترتب عليه مخرجات أثرت سلباً على سبل العيش وتأمين أدنى حقوق المعيشة في أوساط المدنيات/ين.
كانت منظمات المجتمع المدني هي البديل أو الصيغة الأمثل لتعبر عن النشاط الثوري بصورة مدنية، وفي الوقت ذاته تمنح فرص عمل ومشاركة للسوريات/ين في تنظيم مجتمعهن/م وقيادته بأسلوب حضاري حر بعد أن التفت النظام البعثي الشوفيني لمحاربة الشعب في فكره وقوت يومه.
لم تكن هذه المنظمات موجودة قبل الثورة، رغم أن عملها يقتصر على المساعدات الإغاثية وتأمين الحاجات الضرورية للمدنيات/ين النازحات/ين والمهجرات/ين أو المحاصرات/ين، ولكن كان لها دور إيجابي أيضاً في تمكين النساء ومنح المرأة فرص العمل وتعليم الحرف والمهن على اختلافها. أصبحت المرأة بعد الثورة قيادية في تلك المنظمات خاصة ذوي الشهادات الجامعية وأصحاب الكفاءات، حيث ساهمت المرأة بنسبة 60% من العاملين في تلك المنظمات وفي تسيير نشاطاتها وإدارة المشاريع الإنمائية الصغيرة أو إقامة ورشات العمل في كافة الأطر الاجتماعية، في الوقت الذي حرمت شريحة واسعة من المتعلمات/ين والمثقفات/ين من الحصول على فرص عمل ووظائف حكومية قبل وبعد الحراك الثوري.
تقول /ج.أ/ ناشطة في منظمات المجتمع المدني في الداخل في مناطق خارج سيطرة النظام؛ على أن هذه المنظمات رغم كثرة انتشارها وتنوع نشاطاتها المدنية من مشاريع تنموية وطبية وتعليمية ومهامها التوعوية، إلا أن دورها اقتصر على ذلك واستمر الحال كما هو سياسياً. فهذه المنظمات كانت نتاج للحرب التي استمرت تسع سنوات ولا زالت، ولم تكن بتلك الاستقلالية الذاتية لتسهم في تحسين الوضع الاجتماعي بسبب تحكم قوى وسلطات الأمر الواقع في كافة المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام على اختلاف ايديولوجيتها. على سبيل المثال في منطقة عفرين في الشمال السوري، حيث كانت تسيطر قوات الـ PYD على المدينة وأريافها، كانت غالبية منظمات المجتمع المدني تعمل تحت مراقبة تلك القوات ورغم الدور السلبي الذي مارسته هذه الجماعات ضد أهداف الثورة ومسارها إلا أنها لم تكن بتلك الصورة السلبية والسوداوية بتأثيرها على عمل ونشاطات تلك المنظمات بعد سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على عفرين بعد عملية غصن الزيتون، فقد تراجع دور النساء في العمل ضمن منظمات المجتمع المدني والجمعيات التابعة لها، حيث كانت المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل حضوراً وفعلاً ولم يكن هناك تضييق على تحركاتها خارج نطاق منطقتها، تقول /ج.أ/: “كانت الفتيات الشابات يخرجن مع الشباب في حملات التلقيح على مدار العام ويجلن القرى القريبة والبعيدة من مدينة عفرين دون التعرض لهن أو محاسبتهن على لباسهن أو فرض نمط لباس معين ودون محاسبتهن رغم عملهن برفقة الشباب”.
أما الأسوأ في عمل تلك المنظمات هو الفساد الإداري والمالي الذي استفحل أكثر فأكثر بعد أن تغيرت وتبدلت القوى المسيطرة في مناطق تواجد تلك المنظمات والجمعيات، حيث باتت تعيينات الوظائف على أساس المحسوبيات والواسطات أو الانتماء بكل أشكاله. تقول /س.أ.ف/ ناشطة ومعتقلة سابقة لدى سجون النظام: “إن أسوأ ما حدث معي بعد خروجي من المعتقل هو محاسبتي على أساس طائفتي رغم أنني اعتقلت بسبب التظاهر من أجل سوريا موحدة بلا طائفية ودون أي شكل من أشكال التمييز بين السوريات/ين”. لقد أصبحت بعض منظمات المجتمع المدني تابعة لأشخاص وجماعات معينة مما أثر بشكل ملحوظ على آلية توظيف الناشطات/ين والفاعلات/ين، واستبدالهم بالمقربات/ين من المسؤولات/ين والإداريات/ين في تلك المنظمات والجمعيات. وهناك قلة النزاهة في إدارة وتنفيذ المشاريع في غياب الرقابة والمحاسبة عند إدارة أو تنظيم أي مشروع، أصبح اهتمام هذه المنظمات منصب على الأعمال الإغاثية، مما جعل غالبية العوائل تعتمد على السلة الغذائية بسبب قلة الاهتمام بالمشاريع الإنمائية والخدمية التي توفر فرص العمل والتشجيع على تعلم المهن والحرف، ويرجع سبب ذلك أيضاً إلى نتائج عمل تلك المنظمات السورية التي لم تراعي حساسية الصراع الناتج عن ثورة المدنيات/ين ضد نظام مستبد مما خلق صراعات من نوع آخر في الداخل السوري، إذ أن استمرارية العمل المنظماتي منوط بالتمويل الخارجي، مع أنه في الحالة الطبيعية وفي ظل وجود دولة القانون من المفترض أن تقوم الحكومة بدعم وتمويل تلك المنظمات، ويكون العمل ضمن هذه المنظمات تطوعي في الغالب وهذا صعب في الحالة السورية حيث لا يوجد تمويل مستدام، ومن الصعوبة بمكان خلق هكذا تمويل في ظل حكومة استبداد كل همها بقاءها في الحكم مهما كان الثمن.
تقول الناشطة /ن.ب/: “أكبر مشكلة واجهتني هي المبالغة بالحوكمة وتحويل الناشطات/ين من مؤمنات/ين شغوفات/ين بالعمل المدني إلى موظفات/ين. وحتى الموظفات/ون لا يشعرن/ون بالأمان لأن مصيرهن/م متعلق بالتمويل والتمويل غير مستدام، فتموت في هذه الحالة روح التطوع وروح المجتمع المدني الحقيقي”. هناك تداعيات أخرى كطريقة التوظيف التي تقوم على تعيين أشخاص غير مؤمنين حقاً بقيم المجتمع المدني، وهن/م مجرد موظفات/ون لا يستشعرن/ون بالحقوق بقدر إيمانهن/م وسعيهن/م لتوظيف مهام العمل المنظماتي لخدمة هذه الحقوق وممارستها الفعلية، لأنهن/م ببساطة في مهمة وظيفية لا أكثر.
أما المنظمات المدنية في دول الجوار السوري فهي بطبيعة الحال تحصل على تمويلها إما من مؤسسات حكومة تلك الدول أو رجال الأعمال والجمعيات الخيرية الكبرى. قد لا تفرض هذه الجهات بالمجمل شروط أو أجندات خاصة أو حتى مشاريع معينة لكنها تتحكم بالمدة الزمنية لتنفيذ تلك المشاريع وضمن شروط خاصة قد يتحول النشاط من تحقيق هدف أو إنجاز يترك أثراً وتبعات إيجابية إلى التيه والغرق بالتقنيات وآلية تحقيق المشروع، وبالتالي هو إنجاز مهمة موكلة إلى طاقم من الموظفات/ين أكثر منه عمل مدني يحقق غايات وأهداف طويلة الأمد.
في مناطق اللجوء في دول الجوار ورغم الخدمات التي تقدمها تلك المنظمات للاجئات/ين، من توظيف للسوريات/ين وجلسات التوعية للنساء والمراهقات وتعليمهن المهن الحرة للاعتماد على ذواتهن، إلا أنها لم توفر فرصة لحماية شؤون العاملين وخاصة العاملات في تلك المنظمات.
تقول /أ.ش/ من إقليم كوردستان: “تعرضت للمساءلة مرتين بسبب تقرير رفعوه للجهة الممولة عن طريقة لباسي، مع أني معتدلة بطريقة اللباس لكنهم لم يكونوا راضين وكدت أخسر وظيفتي لولا أنني استكنت للأمر وصرت ألبس كما يريدون، لكي أحافظ على وظيفتي”، وتضيف: “صرنا نعاني من نقص التمويل وهكذا تراجع أداء منظمتنا وتحولت لمؤسسات لتوظيف الأيدي العاملة المحلية، لأن الأوضاع العامة في العراق ازدادت سوءاً. صارت المواطنات/ون العراقيات/ون يقبلن/ون بالرواتب الضئيلة التي تدفعها تلك المنظمات للسوريات/ين، مع أنهن/م في بداية الأزمة لم يكونوا ليرضوا بهكذا رواتب، بالإضافة لتوظيف أناس غير أكفاء في مواقع لا يستحقونها ولا يدركون أسلوب إدارتها، عدا عن أنهم غير سوريات/ين مع أن هذه المنظمات وجدت لمساعدة ودعم اللاجئات/ين السوريات/ين، وهكذا لم تعد لهذه المنظمات أي دور تنموي أو تمكيني”.
إن غياب الرقابة والمتابعة لعمل ونشاطات هذه المنظمات فسح المجال للفساد المالي والأخلاقي، إن لم نقل كلها فأغلبيتها، وبات حالها حال الحكومات التي تتحكم بمصائر شعوبها دون رادع أو محاسبة للمقصرات/ين والمفسدات/ين. كما أن وجود هذه المنظمات ضمن إطار دائرة معينة خلف آثاراً سلبية على الهدف الذي وجدت من أجله هذه المنظمات والجمعيات. ومن هذه الآثار السلبية مثلاً خلق جماعة المنظمات ذوي الدخل الكبير على حساب الفئات المستهدفة. وكذلك المشاريع التي استهدفت المرأة لم تكن برامجها معدة بما يتناسب مع ثقافة مجتمعاتنا، فالبيئة المحافظة بقيت خارج مشاريع تمكين المرأة. أيضاً المشاريع التوعوية لم تستهدف الرجل مما عزز الفجوة بين الرجل والمرأة. كما أن أغلب المشاريع ومواضيع تمكين المرأة مكررة وتشبه بعضها البعض، وهي تقام حسب الدارج وليس بما تقتضيه الحاجة.
تقول الناشطة /أ.ن/ من إحدى دول الجوار السوري: “كان من الممكن أن يكون أداء هذه المنظمات أفضل لو أنها درست الاحتياجات وقدمت المشاريع بما يتناسب وضخ الأموال التي مولت تلك المنظمات بمساهمة المستهدفات/ين، وتغيير آلية العمل بحيث لا يبقى حكراً على المجموعة ذاتها لوقت طويل، وكذلك الابتعاد عن الهرمية في العمل حتى يتاح المجال للفئات الشابة بالمساهمة في صياغة المشاريع وتنفيذها”.
بالإجماع هناك تراجع ملحوظ في أداء معظم منظمات المجتمع المدني سواء الإغاثية منها أو التنموية، وسواء كانت في الداخل السوري في مناطق خارج سيطرة النظام أو في دول الجوار، ومن أهم الآثار السلبية هو عدم وجود مشاريع تنموية مستدامة تخدم الشريحة التي هي بحاجة فعلاً للمساعدة والمؤازرة، مع أن التمويل يكون أحياناً بمبالغ هائلة لكن توظيف هذا التمويل ليس بمستوى الحاجات المحلية، وغياب الرقابة والمحاسبة على عمل هذه المنظمات ومتابعة المشاريع الصغيرة لتوسيعها مع الوقت بدلاً من إلغائها أو الاكتفاء بالعمل الإغاثي أو ورشات العمل التمكينية.
إن الدعم أو التمويل لهذه المنظمات ليس مستداماً، ما يخلق نوع من التخوف لإقامة المشاريع الكبيرة والتي تؤمن دخلاً مادياً لشريحة واسعة من اليد العاملة السورية في دول اللجوء أو الداخل السوري، وإن كان لبعض هذه التمويلات نهج وايديولوجية معينة تحاول فرضها على طريقة عمل تلك المنظمات أحياناً.
إن احتكار جماعة معينة لإدارة وقيادة هذه المنظمات أغرقها في روتين جامد لم يعد هناك نتائج حقيقية ملموسة من عمل تلك المنظمات وتطوير آلية إدارتها، وكذلك سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على هذه المنظمات خاصة في مناطق خارج سيطرة النظام قلص من دورها الفاعل في تأمين احتياجات المدنيات/ين النازحات/ين منهن/م أو المواطنات/ين المحليات/ين، فمن خلال دراسة مصغرة لنشاط بعض منظمات المجتمع المدني ونتاج عملها مقارنة مع التمويل الهائل لدعمها، وجد فارقاً كبيراً أيضاً بما قدمته هذه المنظمات من إنجازات وما نالته من استحقاقات مادية تمويلية لعملها. وليس هذا فحسب، فقد أصبحت سلطات الأمر الواقع ذات الطابع الإسلامي المتشدد تتدخل حتى في برامج التوعية وتفرض النهج الجهادي والفكر المتطرف على المحاضرات المخصصة للشباب وكذلك على الكتب والمنشورات التي تستخدمها بعض المنظمات في الدورات التعليمية مما خلف آثاراً سلبية تعاني منها تلك المناطق ولا زالت تحصد نتائجها، مع أنه من المفترض أن تكون تلك المنظمات حيادية في سياستها، لا أن تكون مقرات لترويج الفكر المتطرف، مع أنها تتلقى معظم دعمها من الدول الغربية والأوروبية.
إن الحراك الثوري في سوريا كان قبل كل شيء لمحاربة الفساد المستفحل في كل أجهزة الدولة، والسبب المباشر لذلك الفساد احتكار جماعة معينة للحكم وإدارة شؤون الدولة لعقود من الزمن، وهذا الحراك كلف الشعب السوري الكثير الكثير، ولا زال يدفع الثمن غالياً في سبيل تحقيق الحرية والعيش بكرامة، ولكن بعض أشكال الفساد تجسد للأسف في عمل ونشاط بعض منظمات المجتمع المدني رغم دورها الإيجابي في مراحلها الأولى. ولكي تحافظ هذه المنظمات على استمراريتها في خدمة المدنيات/ين، ومن أجل نتائج أفضل لجهود بعض الناس الذين يعملون بجدية وضمير إنساني حي لا بد من متابعة جدية ومحاسبة عادلة وهادفة لعمل هذه المنظمات حتى تكون في خدمة المدنيات/ين ولصالحهن/م قدر المستطاع، كذلك من أجل تأهيل أجيال قادرة على متابعة مسيرة الحرية والحياة المدنية التي يستحقها الشعب السوري.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة