رأي في النسويّة

*خولة يوسف برغوث

عندما أفكّرُ بالذي يدفعني لأتبنى الفكر النسوي لا أستطيع تحديد تاريخ البداية، فمنذ بدأ تشكل الوعي عندي تجلت لي أهمية الفكر النسويّ ولم أكن في ذلك الوقت اسميه فكراً ناضجاً عندي بل كان سلوكاً رافضاً للظلم والتنمر والتمييز في مواجهة تحديات المجتمع الذكوري، فالحياة في مجتمعاتنا المفرطة في الذكورية والفظة حتى درجة العنف بأنواعه وأشكاله المختلفة تستدعي من النساء أن يبدأنَ يتساءلن لماذا يحدث كل ذلك، ويحاولنَ التفكير بحلولٍ يستطعنَ من خلالها تحصيل الحقوق الأساسية من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، وأهمها والذي يتزايدُ الاحتياج إليه في مجتمعاتنا هو فرض الاحترام الفردي على المحيط المجحف بحق الإنسان عموماً والنساء بشكل خاص.

كنت أراقب منذ طفولتي من خلال المجتمع حولي، كوني ابنة طبيبة جل تعاملها مع ما تعانيه النساء نتيجة الاضطهاد المجتمعي، كيف تنكفئ النساء لأسباب كثيرة ومختلفة وترضَينَ مرغمات بأوضاع غير مقبولة إنسانيّاً ولا تليقُ بكرامتهنَّ في معظم الأحوال، وكيفَ تخضعنَ لآلة القمع المجتمعي من أصغر حلقاته -العائلة – حيث تُلغى أبسطُ حقوقهنَّ كما لو أنهنَّ أنقص وأقلُ استحقاقاً من صبيان العائلة، كانت الفتيات الصغيرات يقعنَ ضحايا هذا التمييز المجحف بالتعامل اليومي ما بين الممنوع الكثير والمسموح القليل لهنَّ، مما استدعى عندي الرفض الفطريّ الذي سبَّب لي كثيراً من المواجهات الصغيرة أو الحاسمة مع محيطي في محاولاتي لفهم أسباب هذا الظلم وأصله.

وكي لا أبتعد كثيراً إلى العموميات، وفي مرحلة تالية أصبَحَ هذا الصراع شخصياً بالنسبة لي حين اضطرني الوضع آنذاك أن أقف في وجه المفاهيم الذكورية التي يفرضها المجتمع كقوانين وأعراف وتقاليد للدفاع عن حق أولادي في حضانتي بعد وفاة والدهم ضد مؤسسة ذكورية بحتة كانت تدعى القضاء الشرعي -وما زالت – كانت حجة المحامي الخصم وقتها أنني لا أليق وغير مؤهلة لتربية أطفالي فأنا كما قال في مرافعته حرفياً كسبب وحيد “ارتدي البنطلون الجينز والحذاء الرياضي” رغم أنني كنت ما زلت في ذلك الوقت ارتدي غطاء الرأس. 

كانت أمومتي بالنسبة لهم منقوصة فأنا مجرد وعاء وحاضنة لا تملك حق الدفاع عن سلامة أطفالها النفسية واستقرارهم وخاصة بعد وفاة الأب، فالأم والأطفال في شرعهم ملكية منقولة للذكور في عائلة الزوج يستطيعون أن يتحكَموا بها كما يشاؤون. في ذلك الوقت بدأت معالم الطريق تتوضح لي بأن واجبي تجاه أطفالي هو حقهم علي بأن أكون لهم الأم القوية والقادرة أن تدافع عنهم وتحميهم ضد الإكراه والارغام والتجبر. 

لذلك أظنّ أن النسويّة منهج تفكير وصراع حقوقيّ يفرض نفسه على النساء بدرجات مختلفة.

ما هي النسويّة؟ سيكون الحديث طويلاً عند هذه النقطة فهي باعتقادي مسألة شائكة وإشكالية وهي ضرورية والأهم فيها أن نواجه تحدياتها بتعاريف حقيقية واقعية شجاعة وأن نسمي الأشياء بمسمياتها دون لف أو دوران حول المعاني، لذلك سأكتب باستفاضة وبالتدريج كيف أضع تعاريفي وكيف أفكَرُ بها.

إن طريقة ممارسة الإنسان الحر لحريته هي جزء أساسيّ من هذه الحرية. بمعنى أن الإنسان حرٌ في اختيار متى وكيف يحيا حريته، والقوالب الخاصة به ومعاركه الشخصية التي تتوافق مع أولوياته ومبادئه، وما يختاره لنفسه من قيم. ولا يستطيع أحد إملاء قواعد الحرية على الإنسان الحر لأنها بكل بساطة تنبع من خبرته ونظرته الخاصة، وهي طريقة حياته وأسلوبه في انتقاء ما يريد الخوض به أو تأجيله حسب تقيمه الشخصي للمساحة التي يمارس بها هذه الحرية التي يعبر بها عن ذاته دون ضغط أو إكراه أو وقوع تحتَ الشعور بالتذنيب المجتمعي أو بالعار نتيجة اختلافه وفردانيته، وحسب ما يجد أنه الأهم لمسيرة نموه النفسي والحياتي في كل مرحلة. وبنفس الوقت هذا الإنسان كي يكون حراً بحق يجب أن يؤمن بطواعية نابعة من أصالة الحرية فيه بأن الآخر ومهما كان مختلفاً عنه هو حر ومساوي ومكافئ عن جدارة واستحقاق ودون أي انتقاص أو تحديد وأنه يملك حق الاختيار تماماً كما يؤمن أن لنفسه هذا الحقّ بلا جدل فيه ولا شك بأحقيته.

وهنا تكمن فكرة النسويّة بالنسبة لي في تعريفها العام وفي سرها الخاص المميز.

إذاً، وكما أعتقد النسويّة ليست تمرداً سلبياً من أجل التمرد، ولا تحدياً تقوم به النساء في مواجهة المجتمعات المُغرقة في ذكوريتها الثقافية والدينيّة وانحيازها التاريخي ضد الأضعف من أجل التحدي، ولا يمكن للنسويّة أن تكون ردة فعل فقط ضد التمييز الجندري العنصري بمضمونه الأعمق. إنها بكل بساطة ممارسة النساء لحريتهنَّ التي هي أول شروط لتحقيق إنسانيتهنَّ، المساوية تماماً للجنس الآخر الذي يقتسمنَ معه كل تفاصيل الحياة.

وهذه الحرية لن تكون مُحققة إن لم تختبر النساء مساحاتها من خلال الأفكار والأفعال الموجودة التي يتبناها المجتمع سواءً بالاختبار الجمعيّ أو الفرديّ، وأن تدرسنَ بشكل علمي ومعمق منابع القيم السائدة المتوارثة ويناقشنَها بناءً على واقعهنَّ المُعاش ويقسنَ صلاحها أو عدم ملاءمتها لهنَّ قياساً على مدى تطور واتساع مساحة فعاليتهنَّ في محيطهنَّ وقابلية بناء قدراتهنَّ وتمكينهنَّ ودعم إمكانياتهنَّ في مجالات الحياة المختلفة والتي يتكاملنَ فيها مع الرجل بنفس الدرجة دون أدنى اختلاف. 

لا يكون الإنسان حراً عندما يقبل الامتهان والتعنيف والانتقاص وعدم التساوي مع إنسان آخر، أو أن يقبل التدخل في ما يخص حقوقه كلها دون استثناء، أو الإملاء وأن يفرض عليه ما لا يراه مناسباً له. إذاً، الأولى أن لا يكون هذا مقبولاً من النساء اللواتي يشكلنَ أكثر من نصف المجتمع، وهنَّ في الحقيقة المؤثر الأول في هذا المجتمع وحجر أساسه. وبالتأكيد الإنسان الحر يجب -وأشدد على ذلك – أن يعمل على أن يمتلك أدوات استقلاله في حياته ومفاصلها كلها والأهم في حرية خياره لمعتقده، وحريته في جسده. والنساء هنَّ الأولى أن يكنَّ كذلك لأنهنّ البناءات اللواتي يستقيم على أكتافهنَّ المجتمع، فكيف يمكن أن يتممنَ دورهنَ وهنَّ يرزحن تحت ما لا كرامة لهنَ فيه؟ 

وأعتقد أن الإنسان الحر، امرأة أو رجلاً، نسويّ بالضرورة، لأنّ النسويّة كما أفهمها هي آفاق معرفية واسعة ومساحة حرة تساهم ببناء مجتمع متوازن ينعم فيه كل الأفراد بالحقوق والاحترام المتساوي. 

ولكن طبعاً الممارسات اليومية والميراث الطويل من التمييز المبني على قواعد مجتمعية مختلفة المصادر تحتاج للتفنيد والتثقيف والإضاءة حولها وأسباب وجودها وأهمية التدريب لتجاوزها. وهذه الإجراءات مرتبطة بالقدرات الخاصة بالأفراد ومدى إدراكهنَّ/م لتأثيرها الإيجابي في حياة الناس وتطور المجتمع.

النسويّة في أحد معانيها هي أن تربي النساء أولادهنَّ على قيم العدل والحرية والحق والالتزام بالتساوي بين الجنسين، وأن يغرسنَ هذه المعايير في طفلاتهن/أطفالهنَّ ويتبنينَها في تفاصيل حياتهنَّ اليومية وطرقِ تعاملهنَّ مع الواقع. 

للمجتمعات خصوصيتها في التفاصيل وفي مدى تقدمها على مستوى الحقوق الفرديّة والواجبات العامة، وهذا تراكم معرفي وثقافي بالإضافة إلى أنّه صراع حقوقيّ ينضج مع الوقت والتجارب، لكن التشابه يكمن في السعي الذي تبذله النساء في المجتمعات المختلفة للحصول على أفضل ما يمكن تحقيقه ضمن الظرف المتاح والمضي به إلى الأمام قُدماً في دفع للحدود بما يتعلق بالحقوق الخاصة بهنَّ. 

الحركة السياسية النسويّة السوريّة تتبنى المفاهيم النسويّة المتفق عليها عموماً على أساس المواطنة المتساوية دون تمييز. ومن أهم أولوياتها دعم وتمكين النساء ليكنَّ شريكات حقيقيات في العمل العام والتمثيل السياسي وللوصول إلى مراكز صنع القرار. 

وعلى صعيد النقاش الداخلي النسويات يمارسنَ تبادل الرأي والخبرات ويناقشنَ بشفافية القضايا النسويّة في تفاصيلها الدقيقة باتجاه بناء وعي متكامل وواضح حول فكرة النسويّة السوريّة بخصوصيتها، ووسائل وإمكانية التأثير والتغيير في المحيط الضيق والعام من أجل مستقبل سوريا حرة وديمقراطية وعادلة لكل أفرادها باختلاف الجندر والدين والعرق على المستويات الحقوقية والسياسية والمجتمعية كافة. 

طبعاً وكما أعتقد أن ممارسة الحقوق ستزداد مساحتها عندما تكون هناك قوانين ناظمة لحياة الأفراد تبنى على قيم حقوق الإنسان دون أي تمييز، ومن هذه النقطة سنجد أن أولويات النساء ستتفاوت بين البيئات التي يتواجدنَ فيها، وستتأثر بنمط الحياة ونوعية السلطة الموجودة في كل منطقة ومالذي تتبناه هذه السلطة من قيم أو قوانين، وقد تكون استبدادية لخصوصية الوضع أو لأن طبيعة السلطة هي كذلك. 

ولا ننسى خصوصية حالة الحرب وعدم الاستقرار التي تحياها النساء في سوريا عموماً، ولكن كما أعرف إن للنساء السوريات طموحات واسعة وعمل جاد وأنهنَّ أثبتنَ شراكتهنَّ وفعاليتهنَّ بقدر الممكن فردياً واجتماعيّاً في كل المجالات التي استطعنَ التواجد فيها. ولأكون أكثر دقة في طرحي أنا لا أطالب النساء في الشمال السوري أن يواجهنَ الآلة الذكورية العنيفة المتطرفة دينيّاً من أجل التحدي فقط، لأنهنَّ سيكُنَّ في هذه الحال ضحايا لا مبرر لها، طالما هناك وسائل أخرى يستطعن من خلالها الحصول على حقوقهنَّ الأساسية في الحياة الشخصية وأنهنَّ يستطعنَ إثبات حضورهنَّ وجدارتهنَّ بأساليب لا تستدعي عليهنَّ عنفاً إضافيّاً وخاصة في هذه الموجة من التحريض على الكراهية التي يوجهها البعض. وأمّا النساء السوريات في خارج مناطق الصراع وخارج سوريا فهنَّ يملكنَ كل الحق بأن يعبّرنَ بالطريقة التي يجدنَها أنسب عن ما يطمحنَ للوصول إليه من حقوق وحضور ومشاركة في المجالات التي يخترنها.  

أما عن شطر الليبرالية أو العلمانية أو التمسك الديني فاعتقد أنها مساحة واسعة للعمل عليها وبناء وعي مشترك بين النساء يكون أساسه الحرية التي يجب أن تتوفر لهنَّ ليكون حقهنَّ بالاختيار لأنفسهنَّ بما يردنَهُ مصاناً ومحميّاً، مهما كان هذا الحق إشكاليّاً بالنسبة للثقافة المتوارثة والأعراف السائدة والدين. والأهم أن تصل درجة الوعي من خلال الخبرات الحياتية وتبادلها بينهنَّ لقبول اختلافهنَّ والانفتاح على هذا الحوار النسويّ دون تشدد أو تعصب أو أحكام مسبقة ودون تذنيب أو تكفير من طرف الملتزمات بتعاليم مختلفة.

وأرجو أن هذا ليس مستحيلاً للوصول إليه من أجل سوريا المستقبل حرة وكريمة لجميع بناتها وأبنائها. 

وبناءً على كل ما سبق، كل منصب أو مجال يجب أن يكون متاحًا بالكامل للمرأة كي تعمل وتتواجد فيه، وهذا أول شروط في المجتمعات وهو المساواة في الحقوق والواجبات، وبالتالي نعم، يحق للنساء أن يترشحنَّ لرئاسة الدولة وكل المناصب التي يجدنَّ أنهنَّ يستطعنَ خدمة بلدهنَّ من خلالها وأن يتقدمنَّ ببرامج انتخابية ويكون الفصل فيها لصناديق الاقتراع.

وأن يكون الدستور المدني في الدولة على أساس المواطنة هو وحده المعتمد كقوانين وتشريعات. وإلّا ما معنى المطالبة بالحرية والعدالة إن كان سيكون هناك تمييز جندري أو عرقي أو ديني بين فئات الشعب؟ 

 وفي موضوع الزواج المدني فأعتقد وكما في البلاد الديمقراطية هو خيار متاح للأفراد من شاءت اتبعت العرف الدينيّ في الزواج ومن شاءت اتبعت القانون المدنيّ فيه، هذا من أول حقوق الإنسان في الاختيار. 

إن بناء دولة العدل والمواطنة هو طريق طويل من الخبرات الإنسانيّة التراكميّة المبنيّة على احتياجات المجتمعات ومفاهيمها، وهو بلا أدنى شك نضال شاق بالنسبة للنسويّة في كل العالم وليس فقط في بلداننا ومجتمعاتنا الشرق أوسطية بتنوعها الديني والعرقي. 

للنسويّة السوريّة خصوصيتها الرائعة والرائدة فنحن نرى كيف تتنوع انتماءات النسويّات لكنهنَّ قادرات على تشكيل قناعات ووجهات نظر أكثر انسجاماً وأكثر وضوحاً حول قضاياهنَّ وأن يكنَّ ملتفات حولها ومخلصات لها فيما بينهنَّ بشكل أكثر احترافية ومهنية ووعي من معظم التشكيلات الذكورية الموجودة، حسب رؤيتنا للواقع الذي نعيشه منذ اندلاع الثورة في صفوف المعارضة. بالإضافة إلى نقطة أساسيّة هي أن المفهوم النسويّ هو مفهوم عن الحرية واحترام الحقوق الإنسانيّة في تدرجات لونها دون تمييز أو اجتزاء أو شروط المسموح به اجتماعيّاً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وهذا هو المقياس. 

لقد شاركت النساء سواءً المؤمنات بالطرح النسوي أو من لا يتخذن هذا الطرح كأحد أولوياتهن في الثورة وكل تنظيماتها وحملن كل تبعات الوقوف في وجه الاستبداد منذ اللحظة الأولى، وفي أوقات كثيرة تحملن أكثر من الرجال في ما يتعلق بأعباء الأطفال والتهجير والمأوى والتعليم والرعاية للجرحى والمصابين ولا أحد يستطيع أن ينكر كل ما حققنَهُ في الحراك السلميّ المدنيّ وهذا موثق وبالتفاصيل المسهبة. ولكن دائماً كانت النسويّات بشكل خاص هنَّ من يحملنَ عبء التغيير ويسعينَ لتمثيل القضايا التي تخص النساء عموماً بالإضافة لقضايا الوطن السوري، ولم يتوانينَ عن العمل لفرض تواجدهنَّ وحقوقهنَّ في الحضور القيم والفعال وكنَّ شجاعات في مواجهة التيارات الذكورية المتضاربة على الساحة السياسية واجتزاء مساحة للفعالية والانجاز الملموس الأثر. 

ينحو البعض للتصنيفات والتساؤل حول كيف يمكن أن تكون المرأة النسويّة ليبرالية أو لا دينية أو أن تكون تقليدية في توجهاتها، وكيفَ تجمعهنَّ منظومة فكريّة واحدة تتبنى الفكر النسويّ؟

كما أشرتُ أنفاً لا يمكن برأيي أن يكون هناك إنسان، امرأة أو رجل، يؤمن بالحرية والعدالة ولا يتبنى القيم النسويّة، وطبعاً هذا يحتاج لكثير من الشجاعة للاعتراف بذلك وللعمل وفقه في مجتمعاتنا الذكورية العصبوية، وخاصة أن النسويّة هي توجه ديمقراطي حر مناوئ لكل ما هو عكس ذلك والنسويّة تثبّت مفاهيمها في كل مجالات الحياة الفردية والمجتمعية. 

حيث يبدأ الوعي الحر من الأسرة وهي الخلية الأولى في المجتمع وأساسها الأفراد من كلا الجنسين، لذلك تبدأ القيم من هناك أيضاً، باعتقادي يجب أن تصل النسويّة لتكون مفهوم اجتماعي متشابك مع الثقافة ولا ينفيها أي اعتقاد أو تقليد اجتماعي. وبالحقيقة يجب العمل على التوعية المدنيّة بكل أشكالها إلى أن تتبلور النسويّة لتصبح أسلوب يومي ووحدة قياس للسلوكيات والقوانين في المجتمع، وهذا يحتاج للعمل على كل الأصعدة والفئات وبكل الطرق المتاحة. 

إن الحراك النسويّ هو جزء من الحراك الثوري، بل إن النسويّة هي قضية ثورية جذريّة على مستوى الوعي الإنساني، وربما يكون في هذا منفعة التنافس الإيجابي بين النساء كلٌّ منهنَّ من مكانها للتحسين والتطوير في الرؤى والأداء وخلق الحالة المتوازنة الأنسب. 

وإن كنتُ ما زلت أعتقد أنها جهود ترقى لتكون أكثر من فرديّة وضمن تجمعات نسويّة صغيرة ومساحات محدودة للعمل على سياقات ضيقة، ولكن النسويات عموماً يسعينَ بجد لتوسيعها ودفع محدوديتها ضمن تحديات كبيرة وصعبة، ولكنها مثابرة وتعرف أهدافها. وكما أرى أن الحراك النسويّ واعد باستقطاب أعداد كبيرة من الشابات والشباب ذوي الفكر الحر والرؤى المستقلة الخارجة عن الآبائية الاجتماعية التقليدية ومن منطلق وعي مختلف وأكثر إلماماً ومعاصرة للعالم وقضاياه الكبرى وتتبنى المفاهيم الحديثة في الحرية والديمقراطية المنفتحة على الثقافات والتنوع والاختلاف. 

ولطالما كان هناك فرق بين الحراك المدني والعمل الحقوقي ولكنهما يتكاملان اجتماعياً للوصول إلى النتيجة المعنية، وهنا تأتي أهمية وقوف النساء مناصرات لبعضهن ولقضاياهنَّ وأن يرفعنَ أصواتهن ويرفضنَ كل ما يسيء لكراماتهنَ الإنسانية من كل أشكال التحرش واستغلال المنصب أو العنف الاجتماعي والأسري أو الإقصاء في العمل والتمييز ضدهن بوصفهنَّ بالأضعف والأقل، فهنَّ بذلك الحراك الإيجابي يفرضنَ قواعد اجتماعية جديدة وضرورية ليتحرك الراكد في نقاش مجتمعي ومطالبات متنوعة تنبع من الواقع الذي يعشنَه، ويُبنى على أساسه لدساتير جديدة تنسجم مع تطور الوعي الاجتماعي النسويّ والعام وترقى بالمجتمع من الناحية الحقوقية كما النواحي الأخرى وهذا يتضمن حق العمل والتعليم والتمثيل السياسي ضمن حقوق المواطنة المتساوية دون قيد أو شرط. 

ورغم حساسيتها لا أعتقد أن توجيه بعض النسويّات الضوء على القضايا الجنسانيّة ترفاً لا مبرر له، بل أظنّ أن نقاش ذلك ضرورة، فهذا الجانب هو جزء إنسانيّ يتكامل مع كل المطالب والحقوق الأخرى التي يجب أن يكفلها الدستور ويحميها لكل أفراد المجتمع. وخاصة ً أن الذكورية السامة في بعض الممارسات هي نوع من الاضطهاد والاستغلال الجنسي للمرأة، وجميعنا يعرف معاناة النساء في هذا الشأن وأخص بالذكر قضايا الاغتصاب والاعتداء والإكراه الجنسي فكيف يمكن أن يكون النقاش حول هذا الموضوع ترفاً ثقافياً؟! لا بل إنني أعتقد أنه في صلب النقاش النسويّ الحقوقي. 

تتعرض النساء جميعهنَ للإقصاء كدرجة أخيرة بعد كل أنواع التعنيف، وتتفاوت النسبة والشدة حسب درجات الوعي الاجتماعي والوسط الذي توجدنَ فيه، ولكن وللأسف تتعرض النسويات له بشكل أكبر وخاصة حين يعبرنَ عن مواقف يختلفنَ فيها مع المحيط سواءً في الرأي السياسي أو في النضال المدني المجتمعي وخاصة بما يتعلق بقضايا حقوق النساء والأطفال، ويتم هذا الإقصاء بكل الطرق الذكورية الممكنة والمتاحة والتي تُصنف تحت أنواع العنف المعنوي والعنصرية الجندرية والتي قد تصل إلى التعامل غير الأخلاقي في بعض الأوقات. وأعتقد أن هذا واضح ومعروف كآلية استباقية خوفاً من طرف الذكورية أن تخسر موقعها المسيطر ومنافعها بالهيمنة والتسلط، ولذلك يجب الوقوف ضد هذه السلوكيات واعتبارها مخالفة للقوانين ويتم العقاب عليها ردعاً للجاني الذي قد تمتد جنايته إلى درجة جريمة قتل عن سبق إصرار.

وفي ردة فعل وكنوع من التعنيف يسخر الكثيرون من الحراك النسويّ ويعتبرونه مجرد “موضة” أو تقصداً للظهور، أو لتفكيك المجتمع والتلاعب بقيم الأسرة، ولكن هذا اتهام قاصر له منطلقات ضيقة واستبدادية رافضة لقيم الحرية ولكن وكما أعتقد يستطيع أن يقول من لا يفهم أهمية ومعنى النسويّة أي شيء وكما يشاؤون – هذا شأنهم ومقدارهم من العلم -. 

فالنسويَة كالثورة كانت وما زالت حاجة مجتمعية مُحقّة بدأت تطور وسائلها وطرقها وتستنبط تعاريفها من خلال خصوصية واقعنا السوريّ، وما تزال تخوض تجاربها وتتلاقى على معظم النقاط التي يتلاقى عليها كل إنسان طامح للحرية المسؤولة والبنّاءة والواعدة بتحقيق القيم التي تكفل كرامة الأفراد في مجتمعاتهم السليمة من الاستبداد. 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة