زواج القاصرات، أزمة اجتماعية مستدامة

نضال جوجك

الله يستر عليها”، العبارة التي طالما كانت ترددها النساء عند رؤيتهن لطفلة أو مراهقة أو شابة، ليس فقط في المجتمع السوري، بل في دول عربية وشرق أوسطية أخرى، ولا أنكر أن هذه الجملة كانت لمرحلة عمرية معينة، تروق لي و لغيري من البنات، دون أن نخوض في تفاصيلها ودلالاتها، فلطالما اعتبرناها دعوة صادقة من النساء الأكبر منا سناً، لحياة أفضل بالمفهوم الاجتماعي المعروف، دون التفكر بتداعيات “الستر” المقصود، أي الزواج.

لم تتغير فكرة الزواج في عموم المجتمع السوري، على اختلاف مكوناته وخلفياته، منذ معايشتي للفترة الممتدة من ثمانينات القرن الماضي، وحتى بدء الحراك الثوري في سوريا عام 2011.

لكن تغييرات طرأت على المجتمع السوري بعد الثورة السورية، وطالت عدة نواح حياتية. جاءت هذه التغييرات كنتيجة طبيعية للوعي الثقافي المترافق مع الحراك الشعبي، إلا أن استبداد نظام الحكم في سوريا، حال دون التغيير المنشود، وعزز الشرخ في المجتمع السوري، وكانت وما زالت النساء، باختلاف خلفياتهن، هن الضحايا الأكثر عرضة للانتهاك.

قبل الثورة حملت النساء وزر التقاليد والعادات الاجتماعية، التي أطرتهن بدور “ربة المنزل”. ولعب الزواج المبكر الدور الأكبر في حد قدرات النساء، فغالباً ما تحرم الفتاة من متابعة تعليمها وممارسة حقها في عيش مراحلها العمرية المختلفة وبالتالي اكتساب تجارب حياتية تمكنها من العيش باستقلالية، مما جعلها في موقع الاستكانة للسلطة الذكورية، وكل من هو في موقع مسؤول عن إعالتها مادياً أو اجتماعياً.
الكثيرون في مجتمعاتنا يعتبرون الزواج وسيلة لحماية “عذرية” الفتاة و”شرفها”، وبالتالي الحفاظ على سمعة الأسرة، ويؤكد هذا المعيار السائد على عدم المساواة بين الجنسين، إذ أن هذه المخاوف لا تنطبق على الذكور، فضلاً عن نتائج الزواج المبكر على الفتيات، والذي يشمل مضاعفات الحمل والولادة، واحتمال التعرض للعنف، و ضياع فرص التعليم، والتبعية المادية للرجل، أي تقييد الحرية بشكل عام. 

كانت نسبة السوريات من سن (20- 25)، واللواتي تزوجن قبل بلوغ الـ (18)، تبلغ (13%)، حسب اليونيسيف، قبل بداية الأزمة في البلاد، ولابد لهذه النسبة أن ترتفع في أزمنة الحروب وما ينتج عنها من فقر وتسرب دراسي، الأمر الذي يعد السبب الأول لزواج الأطفال، وهذا ما يؤكد على أهمية معالجة معضلة زواج الأطفال خلال أوقات الاستقرار النسبية للدولة.

إحصائيات وأرقام:

عانت السوريات، بصفة خاصة، من الحرب الطاحنة في سوريا، ودفعن ثمنها غالياً، فمنهن من تركن تعليمهن، مقابل تأمين مستقبلهن ولو كان ذلك على صورة زواج مُبكر، و منهن من أُجبرن على الزواج و هن قاصرات، ما أدى لازدياد استغلال النساء من مختلف الأعمار، وخاصة القاصرات بسبب الفقر، وعدم وجود معيل للأسرة، وهكذا ترسخت فكرة “السترة على الفتاة” بتزويجها مقابل المال، مبرراً لحماية “شرف” العائلة وفي الوقت لكسب بعض المال، فارتفعت نسبة الزواج المبكر إلى (35%) وفق آخر الإحصائيات المنشورة لليونيسيف في ذلك الصدد عن العام 2015، وقد كانت النسبة في العام 2012 (15%).                                            

بدورها تسببت عمليات النزوح واللجوء بمفاقمة الضغط على الفتيات والنساء، وجاء في إحصائية للأمم المتحدة أن “نسبة الإناث في مخيم الزعتري في عام 2017 بلغت (53%)، وأن عدد اللاجئات/ين المسجلات/ين في الأردن، بلغ (660330) يعيش (20 %) منهن/م في المخيمات”.
وتشير إحصائيات أخرى إلى أن نسبة زواج القاصرات في سوريا، كانت تصل إلى نحو (7%) قبل الحرب، وارتفعت خلال سنوات الحرب إلى نحو (14%). وتقول منظمة الأمم المتحدة إن “70% من اللاجئين السوريين هم من النساء والأطفال، وتلجأ الكثير من العائلات أو تضطر- لتزويج بناتها في سن صغيرة، لـ “تأمين مستقبلهن” في ظل الحرب، فتبلغ نسبة زواج اللاجئات القاصرات في لبنان (35%)، أما في مصر فالنسبة (25%)، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف).


أما نساء الداخل السوري، وفي مرحلة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فلم تكن أفضل حالاً، حيث عايشن إرهاباً لايقل عن إرهاب نظام الأسد، ولكن بطابع ديني حيث مورس بحق النساء أسوء أنواع الإرهاب والانتهاك.

ففي مدينة الرقة والتي أصبحت بؤرة للتنظيم المتشدد تم استغلال الأطفال، حيث تم تجنيد الأطفال الذكور في صفوف التنظيم، وتزويج الفتيات لعناصره، ومن العوامل التي ساهمت في انتشار زواج القاصرات:

  • تفشي الفقر، وقيام بعض الأهالي بتزويج بناتهن قسراً لعناصرالتنظيم من المهاجرين، طمعاً بالسطوة والمال لأن هؤلاء كانوا يدفعون مبالغ طائلة مهراً لـ “العروس”، خاصة إن كانت صغيرة السن.
  • اضطرار الأهالي للإسراع في تزويج بناتهم، خوفاً من أن يطلبها داعشي للزواج، ولامجال
    لرفضه.
  • “كتيبة الخنساء” الّتي كان لها دورٌ كبير بتزويج القاصرات لعناصر التنظيم بالترغيب تارةً والترهيب تارةً أُخرى.
  • غيابُ الوعي لدى الأهالي الّذين ما يزال قسمٌ كبير منهم يرى الفتاةَ “عاراً” و”مجلبة للفقر”، لذا يزوجونها باكراً لإزاحة “العبء” عن كاهِلهم.
  • النزوح، حيث وفد إلى الرقة عددٌ كبير من النازحين الذين جلبهم داعش من المناطق التي خسرها، ولم يكن أغلبهم يملك مايكفيه لإطعام أولاده، فقام بتزويج بناته لعناصر التنظيم لكي يضمن لقمة العيش، بالإضافة للفتيات اللواتي كن يقطُنَّ المخيمات وقدمن إلى الرقة فتم تزويجهن في أعمار دون الـ 15، وبـ “مهر” قدره سلةً غذائية مقدمة أصلاً من الأمم المتحدة.

    كثرت هذه الحالات بعد قدوم النازحين إلى المدينة، وكانت أعمار الإناث تتراوح بين الـ 14 والـ 30، وغالباً ما يكون لعائلاتهن عدداً كبيراً من البنات يسعون لـ “تأمين مستقبلهن”، بسبب ظروف الحرب وكثرة النزوح والترحال. كان عناصر التنظيم على اختلاف جنسياتهم، يستغلون جهل الناس وحاجتهم، لينفذوا مخططاتهم الخبيثة.

    تشير التقارير المحلية والدولية، إلى أن الجماعات المسلحة في سوريا والعراق استخدمت زواج الأطفال والزواج القسري، بالإضافة إلى العنف الجنسي، كسلاح لنشر الذعر بين السكان وتطويعهم أو تهجيرهم. وهذا ما خلف نتائج كارثية على النساء والفتيات، ومع ذلك تقف المنظمات الإنسانية عاجزة عن معالجة معضلة زواج الأطفال في سوريا ومجتمعات اللاجئات/ين.

لم يكن في قانون الأحوال الشخصية السوري، رغم محاولة نظام الأسد تعديله، أي بند يمنع أو يعاقب جنائياً أو تجريمياً، وبشكل قانوني، زواج القاصرات.

تنص المادة (12) من قانون الأحوال الشخصية العام، الذي تم تعديله في 2019 على أن:

– يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وبغرامة تبدأ بـ (000.50) وتصل إلى (100.000) ليرة سورية، كل من يعقد زواج قاصر بكر خارج المحكمة المختصة، دون موافقة من له الولاية عليها، أما إذا تم العقد بموافقة الولي، ولكن خارج المحكمة فالعقوبة تقتصر على الغرامة.
 يعاقب بالغرامة من (25.000) إلى (50.000) ليرة سورية، كل من يعقد زواج قاصر خارج المحكمة إذا تم عقد الزواج بموافقة الولي.


 يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنة والغرامة من(50.000) إلى (100.00) ليرة سورية، كل من يعقد زواج إمرأة خارج المحكمة المختصة قبل انقضاء عدتها أو دون توفر شروط.


يعني أن العقاب اقتصر على المال، وهذا من شأنه أن يكرس هذه الظاهرة، فالمقتدر قد يتزوج باسم القانون ويطلق وقت ما يشاء، ويدفع الغرامة. حتى بعد تعديل هذه المادة في 2018 ورفع سن الزواج للشباب والفتيات إلى 18، بقيت الثغرة موجودة، حيث نصت المادة (16) على رفع سن الزواج بالنسبة للذكور والإناث إلى 18عاماً، منعاً لاستغلال القاصرات/ين، فيما نصت المادة (18) على إعطاء الحق للقاضي بتزويج المراهقات/ين عند بلوغهم سن الـ ، في حال رأى أنهم مؤهلون فكرياً.

السوريات اللواتي ثرن وتمردن جنباً إلى جنب ضد النظام الذي ادعى العلمانية، وجدن أنفسهن في مواجهة تيارات إسلامية و تطرف عقائدي واجتماعي، يُمارس عليهن بمسميات مختلفة. فلكل سلطة أمر واقع على امتداد الجغرافيا السورية، أسلوبها القمعي تجاه النساء، مرة بسلاح الدين، ومرة بسلاح المجتمع، وأخرى بذريعة الحماية.

حتى المناطق المستقرة نسبياً، لم تخلُ من هذه الظاهرة، مثل مناطق  الشمال الغربي التي لم تكن نسبة تزويج القاصرات فيها مرتفعة قبل بدء عملية “غصن الزيتون” التي شنتها فصائل معارضة تابعة لتركيا، ففي مدينة عفرين كانت النسبة في تناقص، بسبب تجريم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لهذا الفعل، لكن بعد قدوم النازحين من كافة المناطق السورية عادت الظاهرة مجدداً. ففي آخر إحصائية لزواج القاصرات في مناطق “غصن الزيتون” بلغت النسبة (30%)، بحسب المجلس المحلي في عفرين، وذلك لتزايد الوافدات/ين واختلاف العادات والتقاليد والظروف الاقتصادية. بدورها، لم تحل “قسد” المشكلة جذرياً بل كان تقمعها بالترهيب، عبر الاحتفاظ بالفتاة في مراكز يطلق عليها (بيت المرأة)، حيث يتم غسل دماغ الفتيات لضمهم إلى صفوف المقاتلات، أو في حال رفضت كانت تؤخذ بالقوة من بيت أهلها ولا يجرؤ أحد حتى عن السؤال عنها. 

أما المنطقة الجنوبية من سوريا مثل السويداء، وبحسب شهادات محلية، لا يعتبر زواج القاصرات ظاهرة بقدر ما هو حالات فردية نادرة جداً، وقد تبلغ النسبة حسب الشاهد من الأهالي (2%) منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وتتركز في المناطق النائية والفقيرة جداً في المحافظة. انحسار هذه الظاهرة يعود أيضاً لأسباب دينية، حيث أن الغالبية العظمى في تلك المناطق هم من الطائفة الدرزية، حيث تمنع تعاليمهم الدينية تعدد الزوجات، بالإضافة إلى أن نسبة التعليم مرتفعة في تلك المناطق.

في وقتنا هذا، يعوّل على المرأة في العالم العربي عموماً، وسورياً خصوصاً، النهوض والارتقاء بالمجتمع، لكنها بحاجة لدعم قانوني يساندها، وبيئة آمنة للعيش الكريم، وتكافؤ بالفرص التعليمية والتمكين. النساء هن الأقدر على دعم بعضهن البعض في كل الظروف، ويطلب من النساء الواعيات والمثقفات واللواتي نجحن بالوصول إلى استقلاليتهن، تحفيز تلك الرغبة بالمساعدة والتغيير للتغلب على عقود من القمع والتسلط الذكوري.

*المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة