سوريا… وراء در! أمام سر!

*صبيحة خليل

حتى بعد أن فعلتها الإمارات وأرسلت وزير خارجيتها عبدالله بن زايد آل النهيان إلى دمشق، يصعب على غالبية السوريات والسوريين المنقسمات/ين جغرافيًّا بين الداخل والخارج، أو سياسيًّا بين الموالاة والمعارضة وما بينهما من رماديين وصامتين، أن يصدقوا أن تعود بهم عقارب التاريخ إلى ما قبل 2011، حيث سطوة أجهزة الأمن وآلة القمع، والوقوف بصمت في طوابير الأفران والمؤسسات التموينية تحت صور القائد الواحد الأحد الذي دونه يُحرق البلد، و ترديد الهتافات والشعارات الصباحية التي توارثتها الأجيال خلال نصف قرن في المدارس وثكنات الجيش. وكما لو أنه لم تكن هناك ثورة! ولم يُقتل أكثر من نصف مليون إنسان! ولم يهجّر نصف سكان البلد بين نازح/ة ومهجّر/ة! في وقت لايزال فيه الغموض يلف مصير الآلاف من المغيبات/ين في السجون والمعتقلات! بينما لاتزال جغرافية البلد مقسمة بين أكثر من ثلاث سلطات أمر واقع تدعمها عدة احتلالات. 

إذًا، هل يمكن الاستدارة إلى الوراء بمجرد تلقي الأوامر!، تمامًا كما كنا نُجبر على فعلها أثناء دروس التربية العسكرية في المدارس الإعدادية والثانوية؛ وراء در! أمام سر!. هكذا ببساطة متناهية تبدو الأمور بالنسبة للكثير من الدول التي تفكر في إعادة التطبيع مع النظام، فهل يمكن للسوريات والسوريين تنفيذ الأوامر والاستدارة لتكرار ماضي الخوف والرعب والتوحش؟

بداية لا بد من الوقوف على المقدمات التي دفعت بكثير من الدول لمراجعة مواقفها تحديدًا من النظام السوري ومن المقتلة السورية عمومًا، وهنا يمكننا القيام بعملية فرز على ثلاثة مستويات تقليدية. 

أولًا. المستوى الإقليمي: 

وتشمل دول إقليمية مجاورة لسوريا وعلى احتكاك مباشر مع الحدث السوري، وتأتي إسرائيل في مقدمة تلك الدول، ويكتسب موقفها دورًا مهمًا لجهة استشفاف مآلات وخواتيم الحلول في سوريا. لما لها من أثر وتداخل حيال الموقف الأمريكي والروسي. بدت إسرائيل لكثير من المراقبات/ين، حائرة في اتخاذ موقف واضح وصريح تجاه ما يجري في سوريا، سيما بعدما ضربت موجتي داعش والنصرة المنطقة ونمو شوكة الفصائل الراديكالية التي ضربت مصداقية الحراك الشعبي السوري، واستقواء النظام بحليفه الاستراتيجي إيران ومن خلفها جوقة طائفية امتهنت صناعة الحروب والأزمات مثل حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية. لذلك اكتفت إسرائيل بمراقبة الأوضاع طالما النتيجة واحدة، تدمير سوريا وتفكيكها، ويتصدر هذا الأمر قائمة أولويات إسرائيل، وهذا ما يفسر تدخلها عبر ضربات جوية تحد من تمترس إيران عسكريًّا في الجغرافية السورية، وإبعادها عن الحدود الجنوبية. أما بالنسبة للعراق ولبنان المرتهنتين أساسًا ومنذ عقود للأجندات الإيرانية، فقد بدت الأمور تحصيل حاصل وذلك من خلال التدخل العسكري المبكر مروراً من النفق الإيراني، وباستخدام أذرع عدة معروفة لدى متابعات/ي الشأن السوري. 

بينما يبقى موقف الأردن الذي لا يختلف كثيرًا عن موقف إسرائيل، سوى أن الأولى استقبلت آلاف اللاجئات/ين السوريات/ين ومارست حيادًا أقله في شكله الظاهري، ولم تنكر قلقها من تزايد نفوذ إيران على حدودها مع سوريا، بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية المتصاعدة والتي كانت سبباً مباشراً لطلب بعض الصفح عن النظام السوري والتوسط له مع أمريكا للسماح بفتح معبر نصيب الحدودي واستثنائه من بعض تبعات قانون قيصر، عدا عن صفقة خط الغاز العربي الذي سيقدم فوائد مزدوجة للنظام، اقتصادية وسياسية،  ويشكل خرقًا للعقوبات المفروضة عليه، وقد يتحول الاستثناء إلى قاعدة فيما بعد، وإن في مراحل متأخرة!. 

أما الدور التركي فقد كان الأكثر تخطيطًا وتعقيدًا من حيث مسار تعاملها مع الحدث السوري وطرق تدخلها؛ من دولة جارة وصديقة للنظام، قدمت له النصح والإرشاد في بدايات الثورة، إلى معادية له ومؤيدة للحراك الشعبي ولاحقاً مرحّبة باللاجئات/ين الفارات/ين من بطشه. ولكن منذ 2016 وتحديدًا بعد دورها (تركيا) في سقوط حلب ودخولها في مسار آستانة مع حليفي النظام، روسيا وإيران، عبر اتفاقيات خفض التصعيد، بدأت الخرائط العسكرية تتغير نحو الانسحابات العسكرية المتكررة للمعارضة وبضغط وتخطيط تركي، مقابل أجندات محددة مرسومة بعناية ومنذ أمد طويل، وفق مصالح أمنها القومي الذي وجد في التخلص من الوجود الكردي المتمثل بذريعة تواجد حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، تحول هذا الأمر إلى أولوية تركية في سوريا، وبات إسقاط النظام السوري آخر أولوياته، وبقيت التصريحات السياسية التركية للاستهلاك الإعلامي والشعبوي. ومع الوقت استطاعت تركيا تغيير دفة المعارضة العسكرية والسياسية كليًّا عن جبهات مقارعة النظام، وتوظيفها لصالح كواليس مخرجات الآستانة، عدا عن استخدام الفصائل كمرتزقة مأجورين خارج حدود بلدهم في صراعات وأزمات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وبطبيعة الحال لا يمكن تجاهل ورقة اللاجئات/ين السوريات/ين، والتي أضحت ورقة تركية رابحة لابتزاز الغرب من جهة، وكورقة ضغط في أروقة الآستانة بمواجهة كل من روسيا وإيران اللتان تجدان في إعادة إنتاج النظام واعتباره منطلق الشرعية في البلاد، وهذا ما دعمته تركيا بطريقة مواربة من خلال استخدامها لاتفاقية أضنة مع النظام السوري لشرعنة تدخلها في الشريط الحدودي شمال سوريا، لذلك يمكن اعتبار إعادة تفعيل اتفاقية أضنة بداية تأهيل النظام والتطبيع معه، على الأقل هذا من الناحية العملية!.

ثانيًّا. تخبط الدول العربية حيال الملف السوري:

المستوى الثاني يتمثل بالعمق العربي الذي يعاني بالأصل من جملة مشاكل داخلية أفرزتها موجات الربيع العربي، وما رافقتها من ارتدادات، بالإضافة إلى جملة توترات خارجية مهمة للغاية ناتجة عن مطامع كل من إيران وتركيا في بلدان العالم العربي. وهي مطامع قديمة انتعشت على خلفية موجات الربيع، وتدخل الأخيرة أي تركيا، على وجه التحديد كان له تداعيات عميقة في المواقف العربية إزاء أطراف المعارضة السورية المتمركزة في إسطنبول، وهذه واحدة من النقاط الخلافية المهمة والتي دفعت ببلدان عربية عدة للتقرب من النظام ولو بشكله الأمني، في ظل تصاعد مخاوفها من تيارات الإسلام السياسي الطامحة لاستلام دفة الحكم. 

بالعموم شكّل غياب الدور العربي المؤثر في مجريات الأحداث بعد سقوط مدينة حلب عسكريًّا، فرصة ذهبية للنظام لإعادة ترتيب أولوياته. وكان للأزمة الخليجية بالغ الأثر على ترك سوريا لقمة سائغة بين مصالح تركيا وإيران. هذا الخلاف الذي ظهر للسطح متأخرًا لكنه على ما يبدو كان سببًا رئيسًا في الأداء السيء للمحور العربي في حل الصراع السوري. وعلى الرغم من الصحوة العربية التي ظهرت مؤخرًا، إلا أن تجاوز هذا التقصير لا يمكن أن يتم بسهولة، ولهذا ربما نجد هذا الإسراع في التقرب من النظام في محاولة للحد من نفوذ تركيا وإيران. 

المستوى الثالث. موقف أمريكا وأوروبا: 

للأسف حتى حينما تطلب أمريكا من العالم أن تحل مشاكلها بعيدًا عن إسناد دور الشرطي لها، يصرّ جميع الفرقاء سماع صوت صافرتها للقول أن اللعبة قد انتهت، وبالمجمل يبقى الهم الأول لأمريكا في سوريا، أمن إسرائيل ومحاولة إبقاء إيران على الحياد ما أمكن، وهو ما تفعله إسرائيل بنفسها وبتنسيق كامل مع أمريكا وروسيا، ويأتي كذلك محاربة إرهاب داعش الذي شارف على الانتهاء وتاليًا تقترب لحظة الانسحاب الأمريكي من سوريا كما فعلت في أفغانستان، ونذكر هنا أنه سبق أن تراجعت أمريكا عن مطلب إسقاط النظام واستبدلته بعبارة “تعديل سلوكه”. في الوقت ذاته لا تخفِ أمريكا جهارًا عن تراجع اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط وتوجيه بوصلتها نحو التنين الصيني وبحرها، لكن كل هذا لا يمنع أن ينتظر الكل صافرة مرحلة جديدة من اللعبة السورية، بما في ذلك روسيا. 

أما أوروبا التي ربطت مسألة عودة اللاجئات/ين وإعادة الإعمار بالحل السياسي وحدوث تقدم ملموس في مفاوضات جنيف، تبدو ضمن المواقف الأكثر توازنًا ومصداقية ولحد ما مع سياساتها، وينبع ذلك من تزايد مخاوفها من تدفق لاجئات/ين جدد في حال استمرار الأزمة والصراع وتردي الوضع الإنساني في سوريا. من جهة أخرى تعطي المحاكم الجارية ضد بعض مرتكبي الجرائم في سوريا بموجب الولاية القضائية العالمية على أراضي دول أوروبية، مؤشرًا سياسيًا أن لأوروبا وجهة نظر مختلفة يمكن البناء عليها بأدوات جديدة. 

ختامًا، من المؤسف أن نحّمل فشلنا كسوريات وسوريين في تيارات المعارضة على اختلاف مشاربنا ونرمي به دائمًا على المجتمع الدولي وحده، وهذا لا يعني بالضرورة أنه لا يتحمل الكثير من تبعات هذا الفشل، إلا أننا بالمقابل كـ معارضة نتحمل حصة كبيرة من هذا الفشل، خاصة وأننا لغاية اليوم لا نمتلك القدرة على المراجعة والتقييم ولا على رسم استراتيجيات وطنية تعبر بنا إلى مستقبل تتحقق فيه كرامة السوريات والسوريين في وطن حر ومستقل بعيدًا عن أجندات الاحتلالات التي أخذت تنخر بالبلد وتنذر بأن القادم أسوأ. 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية