شراكة لا ملكية

*خولة برغوث

 

إن في إعادة استنباط معاني النسويّة وتكرار صياغة التعاريف أهمية بالغة للتأكيد على أحقية الفكر النسوي في مواجهة الموروث المضاد للمرأة وطرق التفكير التي تهدف لترسيخ التراتبية الجندرية والاجتماعية العنصرية والطبقية التي تصور النساء المطالبات بحقوقهنّ الطبيعية كأنهنّ خارجات عن القيم، كارهات للرجال، يسعينَّ لتقويض مؤسسة الأسرة، متمردات على الدين والتقاليد. وطالما أن الواقع والتطور المعرفي يثبت أن هذه المسلمات السائدة مغلوطة وظالمة وجب الاستمرار في طرح التساؤل حولها والتدقيق في السلوكيات المجتمعية الناتجة عنها لتفكيك الخاطئ منها، ومنع تأثيرها السلبي السام ضد الأضعف في النظام الاجتماعي.

تبدو الصورة في الواقع كالتالي:

إن الامتيازات الذكورية ـ التي يُعتقد تهديد وجودها بسبب هذه المطالبة النسويّة بالحقوق ـ متجذرة وطويلة الأمد وقد ارتبطت بما أصبح غير قابل للنقاش، ويُحمَّل صفة القداسة والمحرمات الدينية والاجتماعية، التي لا تؤدي إلى انتهاكات ضد النساء فقط، بل إنها في الحقيقة تخلق حالة من التمييز الاجتماعي وتسبب عنفًا ظاهرًا ومبطنًا يعاني منه الجميع، وينعكس من خلال الأدوار النمطية المتعارف عليها اجتماعيًا، إذ تفترض أن على الأنثى أن تكون خاضعة للسلطة الذكورية المعتادة التي تقلل من قيمتها الإنسانية. هذه السلطة التي بنفس الوقت تحتقر الذكر الذي لا يتماهى مع تفاصيل هيمنتها السلطوية، ويتبنى قواعدها في الدوائر الأصغر والأضعف فيتم وصفه بعدم الرجولة ـ ليس رجلاًـ لإعادته إلى المنظومة المُعنفة، التي في الوقت نفسه تنعتُ المرأة القوية القادرة على تحقيق ذاتها ضد التمييز الذكوري بـ “المُسترجلة” بما يحمله هذا التوصيف من تنمر واضطهاد، مثلما يتعرض الذكر الأضعف، حيث لا يحميه نوعه الاجتماعي في هكذا معادلة.

 

هل المقياس هو القوة العضلية؟

في الحقيقة نعم، فبشكلٍ غير واعٍ تعزي المجتمعات البدائية التمييز بين الجنسين إلى ذلك كموروث بشري قديم.

إن الفكرة العصرية عن العدالة والتساوي بين أفراد المجتمع لا تستثني فئة عن الفئات ولا تميز فردًا عن الأفراد لأي سبب أو تحت أي شرط بل تعمل القوانين والتشريعات لصالح الجميع على نفس الدرجة والمسافة، بحيث يستقر مفهوم العدالة والمساواة في شكله الأبسط والأوضح والذي بدونه لا تتحقق شروط المواطنة، 

هكذا يجب أن يتم النظر في المسألة وأن تتم التشريعات الخاصة بنظم العلاقات في المجتمع بين الجنسين عليها – رغم الحجة القائمة حول الفروقات الجسدية والتي ينحو إليها من يعتقدون بتفوق الذكر على الأنثى، ترى هل من المقبول التمييز الدستوري والقانوني والشرعي بين ذكرين تحت بند أن أحدهما أضعف من الآخر لسبب ما كالمرض أو العمر أو البنية الجسدية؟ هل على الدساتير والقوانين أن تعطي امتيازات وحقوق أكثر للأقوى والأضخم؟

وفي سياق آخر هل من المقبول أن يبيح الدستور لأصحاب الثروات الأكبر ميزات حقوقية لا يعطيها لمن لا يملكون الثروة بحجة التفوق المادي؟ 

هذا هو صلب الموضوع، إذا قبلنا ذلك فنحن بشكل أو بآخر سنقع في داء التمييز داخلياً وعلى الصعيد العالمي كأمة، إذ سنكون مضطرين لقبول أننا أقل من منظور القوة والثروة، إذًا سنرضخ للاستبداد أو الانتهاك والعدوان أو الاستغلال وكأنه شرط طبيعي ومعيار مقبول. 

لا تقوم المجتمعات دون عدالة حقوقية ومساواة كاملة دون أي استثناءات ولا تنهض. على هذه العدالة والمساواة أن تبدأ من أصغر خلايا المجتمع، الأسرة.

 

مؤسسة الزواج:

إن مؤسسة الزواج هي النواة الأساسية للمجتمع، وفي تعافيها ضمن الشراكة الحقيقية بين الزوجين يكمن المثال الواقعي وتتبلور قدرة المجتمع على النماء والتطور والأنسنة والاستمرار كحاضن إيجابي للأفراد على تنوعهم، وبالمقابل إن انعدام الشراكة المتساوية يفرز ويحرض على سلوكيات تكرس التمييز، ويضع أحد الأطراف في موقع أقل من الآخر فيختل ميزان الشراكة وتظهر العقبات والإشكاليات التي تؤدي لتشوهات اجتماعية سيكون تأثيرها منتشرًا وغير محصور في هذه المؤسسة فقط. 

 

هل هو عقد شراكة أم عقد نقل ملكية:

الملكية: تباع وتُشترى، يُحددُ لها ثمن، يُضافُ عليها، يسُتفادُ منها حتى تُستهلك، قابلة للاستبدال، خاضعة لمعايير الطلب والعرض، واقعة تحت تصرف المالك (أب، أخ، زوج).

الشراكة: تساوي بين الطرفين المتكافئين في الحقوق والواجبات، اتفاق على التفاصيل وتوافق عليها، دعم متبادل لإنجاح المؤسسة، مصلحة متبادلة على أساس واضح يحترم الكيانين بحيث يراعي كل منهما الآخر لتحقيق أفضل النتائج، منافع الشراكة تعم على الطرفين والمحيط، وتواجه صعوباتها منهما معًا، التوافق على الخروج من الشراكة -كما تم الاتفاق على دخولها- معًا. 

إن تقليل المرأة من ذاتها ضمن مفاهيم عقد التمليك من الأب والأخ إلى الزوج (التشييئ) يعود بالمضرة عليها وعلى الطرف الآخر، فهي بهذا التنازل عن قيمتها المتساوية كإنسان بالغ عاقل راشد متكافئ شريك وند تكرس سلوكيات مجتمعية تزيد من انتقاصها، وتضع الطرف الآخر في موقع مُعتدي أو مُعنف أو مُنتقص من قيم الشراكة، وهذا سيستدعي سلوكيات غير سوية ومجحفة بحقها مثل: 

  • استباحة أموالها الخاصة وأملاكها وما تجنيه من عملها (على اعتبار أنها وما تملكه تحت سيطرة المالك).
  • إرغام الطفلات القاصرات على علاقة جنسية تحت مسمى الزواج، وما يتركه هذا من أضرار نفسية وجسدية.
  • الطلاق التعسفي ومزاجية التعامل مع حقوقها الزوجية.
  • حق حضانة أطفالها المنقوص (ضمن مفهوم أن المرأة وعاء للحمل والإرضاع). 
  • الإيذاء المُتعمد والمكارهة لاسترجاع الأموال المدفوعة في حال الطلاق.
  • إجبارها على البقاء ضمن حالة من الهجر المقصود (فهي لا تملك حق الطلاق). 
  • الزواج المتعدد (الذي يضعها في موقع مهين بأنها غير كافية).

 

إن التوصيفات الاجتماعية التي تدعي التفوق الذكوريّ تجعل من الذكر مُعتدياً ومستبدًا دون شعور بالذنب ودون محاكمة أخلاقية تُلزمه حدّه الواجب للحفاظ على سلامة المؤسسة التي يكون جزءًا منها في الأسرة أو في العمل أو في النظام السياسي. 

الفكر النسويّ هو مرحلة تنويرية ضرورية ولا يسعى لتحقيق نفسه على حساب الآخر، بل إنَّهُ في مضموناته يؤكد مفاهيم الشراكة العادلة والمواطنة المُستحقة لكل أفراد المجتمع.

قبول النساء للتمييز ضدهنّ كالرضوخ للتعنيف بأنواعه المذكورة، والخضوع تحت وطأة العار الاجتماعي الناتج عن رفضه، أو إيجاد وإعطاء الأعذار للمُعنف، والحض على قبول المنظومة الاجتماعية المُقللة من قيمة النساء وحقوقهن واعتبارها مقبولة ومقدسة وغير قابلة للنقاش، هو انخراط في المرض الاجتماعيّ الذكوريّ، وهو على المستوى النفسي تماهي مرضي مع المستبد الأقوى، في حلقة مفرغة من الاحتقار الموجه لنصف المجتمع وركيزته الأساسية، وإخلال بالقيم الإنسانية الحقوقية العادلة التي يستحقها كل إنسان. 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية