صفحات نسوية مشرقة، المرأة في رواندا نموذجاً

 

جليلة الترك

نشر الاتحاد البرلماني الدولي في آذار من العام الجاري دراسة دولية مقارنة، استعرض فيها نسبة مشاركة النساء في البرلمانات حول العالم. ولقد دأب الاتحاد سنوياً ومنذ المؤتمر الدولي الرابع حول المرأة الذي عقدته الأمم المتحدة عام 1995 في بكين، على نشر تقارير ودراسات ترصد الاتجاهات في هذا المنحى. في العقد الأخير، تتصدر العالم على هذا الصعيد وما تزال، دولة لا تقع في أوروبا ولا في أمريكا الشمالية بل في وسط إفريقيا؛ إنها “رواندا” مع نسبة مشاركة للنساء في البرلمان تتراوح بين 60 و64 %.

الاتحاد البرلماني الدولي، الذي يعمل على تعزيز الديمقراطية ودعم البرلمانات حول العالم، رصد في رواندا أكبر تقدم على المستوى الدولي في نسبة مشاركة النساء في البرلمانات. لكن الأمر هناك لم يقتصر فقط على البرلمان وحسب؛ فالمرأة في رواندا تشكل اليوم أيضاً 50% من مجلس الوزراء و44% من مقاعد مجالس المدن ونصف قضاة المحكمة العليا. أي هناك حضور نسوي مميز جداً ومتقدم في مراكز ومنظومة صنع القرار، بالمقارنة مع دول القارة الإفريقية وبقية دول العالم.

لعلّه من المفاجئ أو الصادم للبعض مطالعة معلومات تفيد بأن ريادة رواندا نسوياً على الصعيد الدولي، جاءت بعد معاناتها أهوال حرب أهلية دموية، ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان. بعدها تقدمت رواندا بفضل سواعد نسائها على طريق التطور والتنمية، وحازت عاصمتها كيغالي على ألقاب دولية مثل “الأكثر أمنا في القارة”، “الأنظف بين عواصم أفريقيا” و”أيقونة التنمية الأفريقية الحديثة”. فكيف حصل ذلك؟ وما هي الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها؟

 

الحرب الأهلية والمجازر الدموية

في ربيع عام 1994 صبغت دماء الروانديين نهر النيل العظيم باللون الأحمر. مليون قتيل خلال أشهر قليلة في مذابح جماعية همجية كانت نتيجة للنزاعات التاريخية بين قبائل الهوتو والتوتسي والتي تعود جذورها إلى مرحلة الاستعمار الأوروبي. ففي ليلة السادس من أبريل اندلعت شرارة المجازر، بعد سقوط طائرة الرئيس هابياريمانا (من الهوتو) بهجوم صاروخي، ومات جميع من كانوا على متنها. حمّلت الهوتو جماعات من التوتسي مسؤولية الحادث، وقررت الانتقام. فكانت النتيجة جبالٌ من جثث تكدَّست في الشوارع والمزارع وطفت فوق مياه الأنهر والبحيرات.

أدّى تردد المجتمع الدولي إلى تفاقم الأزمة بشكل سريع. ولم تتوقف عمليات الإبادة والمذابح الجماعية إلا في نهاية يونيو، وذلك بعد أن كلّف مجلس الأمن قوات دولية تحت قيادة فرنسية بالقيام بمهمة إنسانية هناك. في نفس الوقت كانت الجبهة الوطنية الرواندية من التوتسي قد استطاعت دحر قوات الهوتو التي تقود الحرب الانتقامية في معظم مناطق البلاد، ما أدى إلى فرار المسؤولين الحكوميين والجنود والمليشيات الذي شاركوا في المجازر.

 

التعافي وإشراقة المعجزة النسوية

في نهاية 1996، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، بدأت المحاكمات المحلية للمسؤولين عن جرائم الإبادة، ووصلت إلى مائة ألف متهم بحلول العام 2000 من خلال تطبيق نظام العدالة التشاركية، المعروف باسم (غاتشاتشا). بدأت إعادة إعمار البلاد أيضاً مترافقة مع عدالة انتقالية يمكن أن تكون نموذجاً لجميع الشعوب التي عانت من نزاعات مماثلة. ولقد لعبت النساء أدواراً رئيسية في لجان الحقيقة والمصالحة، التي عملت غالباً على مستوى المجتمع المحلي. كما عملت المرأة في تلك اللجان على المستوى الوطني كمديرة، كقاضية، وكشاهدة رئيسية. وبحلول عام 2012، كان هناك ما يقرب من مليونين من الجناة قد قدموا إلى هذه المحاكم. وبالتزامن مع ذلك، باشرت المحكمة الجنائية الدولية عملها بمتابعة المتورطين في المجازر وأصدرت تسعة وعشرين حكماً في حق ثلاثة وثلاثين متهماً، منهم قادة عسكريون وسياسيون وإعلاميون هربوا خارج البلاد.

معظم القتلى في رواندا كانوا من الرجال، وكانت النتيجة أن 70 في المائة من السكان في مرحلة ما بعد الحرب كانوا من الإناث. يومها تكاتفت جميع النساء لإبقاء أسرهن على قيد الحياة، فتكفلن بالأطفال اليتامى ونظمن مجموعات دعم للأرامل، وانتقلن من تنظيف الركام إلى إعادة بناء المباني، استزرعن الأراضي، وباشرن بالأعمال التجارية، ونجحن في إعادة الاستقرار في جميع أنحاء البلاد.

أما على الصعيد السياسي، وفي حين اعتمدت العديد من الهيئات التشريعية الإفريقية مبدأ الكوتا النسائية، إلا أن أيًّا منها لم يحقق الإنجاز المتميز الذي قامت به رواندا، ما جعل هذا البلد الصغير مختلفاً عن جيرانه من حيث منظوره الجندري، الذي انعكس على تنميته وازدهاره بشكل إيجابي واضح للعيان.

لقد ألغت رواندا القوانين الأبوية القديمة المطبقة في كثير من المجتمعات الإفريقية، كتلك التي تمنع المرأة من وراثة الأرض مثلاً. وقد أصدرت الهيئة التشريعية مشاريع قوانين تهدف إلى إنهاء العنف الأسري، وإساءة معاملة الأطفال، وتمضي اللجان المختصة بمواءمة القوانين مع الدستور بإلغاء أو تعديل جميع القوانين التي تحوي مواد تمييزية ضد المرأة. كان نتاج ذلك صياغة قوانين تعزز حقوق المرأة، ولقد حدد دستور 2003 حصة نسبتها 30% للنساء في جميع أجهزة صنع القرار، واعتمدت الأحزاب السياسية حصصها التطوعية الخاصة للمرشحات في قوائم الأحزاب، واليوم تشكل النساء 61.3% من البرلمان، وهي أعلى نسبة تمثيل نسائي في العالم.

تبيّن البروفيسورة “سويني هانت” أستاذة السياسة في جامعة هارفارد في كتابها (صعود المرأة الرواندية)، أن جهود المرأة في رواندا وسعيها في الوصول إلى تلك النسبة المرموقة من التمثيل في البرلمان لم يكن من أجل أضواء الشهرة، بل لأن النساء في رواندا قررن سلوك طريق جديد وفريد، حيث اجتمعت كلمتهن على تجميع صفوف النساء حول المشكلات العامة التي تهم كل المواطنات/ين. ومن الأمثلة التي ساقتها في هذا الخصوص كان حشد وتعبئة الصفوف النسائية حول قضايا الحياة اليومية للمواطن/ة العادي/ة البسيط/ة؛ من قبيل: الرعاية الصحية، المسكن اللائق، حياة الفقراء وإمكاناتهم ومواردهم ومعاناتهم.

لقد كانت ثقة المرأة وإيمانها بنفسها واجتماع كلمة النساء حول قدرتهن على التغيير وخلق واقع جديد مغاير لما عشنه في الحرب الأهلية، العامل الحاسم في التعافي والنجاح. الجهود التي بذلتها المرأة الرواندية خلال مرحلة التعافي، أدت إلى التركيز على معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، مما أفضى وبشكل تلقائي أيضاً إلى معالجة مشكلات مثل: جريمة الاغتصاب، مساواة الجنسين ضمن رابطة الزواج، دور المرأة كرائدة من رواد الأعمال وتنظيم وإدارة المشاريع الاقتصادية، حق الفتاة في التعليم والتعبير عن رأيها. في ضوء هذا كله، كانت الخلاصة التي انتهت إليها “هانت” بعد جهود العمل الميداني الذي التقت فيه بنساء من رواندا، التأكيد على أن سبيل التعافي من المشاكل الاجتماعية على اختلاف تعقيداتها لابد وأن يضم بين طلائعه كل نساء الوطن، على نحو ما برهنت وما زالت تبرهن تجربة رواندا، التي ما انفكت تسير بخطى واثقة على طريق النجاح
والازدهار في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

 

 لمحات من التنمية في رواندا اليوم

خطت رواندا خطوات عملاقة على دروب التنمية البشرية. في فبراير 2019، أطلقت أوّل قمر صناعي لها في الفضاء. وذلك من أجل ربط المدارس النائية بالإنترنت، وتعزيز فرص التنمية والتعليم للجيل الجديد. ومن المقرر أن يتبع هذه الخطوة إطلاق قمر صناعي ثانٍ، لأبحاث الفضاء والمساعدة في جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوية. لقد غدت رواندا -وفقًا لصندوق النقد الدولي- أحد الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم، بمعدل نمو سنوي فاق أحيانا 12 %. وترى كثير من المختصات/ين أن رواندا أصبحت دولة يحتذى بها في مجالات التنمية الاقتصادية والتخطيط.

وفي محاربة الفساد والإصلاح الاقتصادي تذكر الأمم المتحدة أن رواندا “شجّعت على خلق بيئة خالية من الفساد، وعاصمة نظيفة وحكومة تدار إدارة جيدة وفعالة، تسعى من خلالها الدولة الرواندية إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر”.

وقد أشاد البنك الدولي برواندا، لكونها دولة “حققت تطورًا مثيرًا للإعجاب”. رواندا التي تسجل أيضاً أعلى نسبة تعليم إلزامي للطلاب في المرحلة الابتدائية، على مستوى أفريقيا، تبلغ نسبة الالتزام فيها 99 % من عدد طلابها، في 99 % من مدارسها، ولقد أشادت منظمة اليونيسف بذلك بالإضافة إلى انخفاض معدل وفيات الرضع في رواندا (وهو يُعد مقياساً مهماً في تنمية البلاد) إلى النصف منذ عام 2000.

وتحظى العاصمة الرواندية كيغالي، في وسائل الإعلام الدولية والمحلية بالإشادة، باعتبارها “سنغافورة إفريقيا”، وذلك بسبب التدابير الكثيرة المتخذة والعمل الدؤوب لتحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية، مثل تحسين ظروف سكان الأحياء الفقيرة في العاصمة؛ وتحسين إدارة النفايات؛ إضافة إلى حظر الأكياس البلاستيكية والتدخين في الأماكن العامة.

الدروس والعبر المستفادة

لقد كان ذكر رواندا في نشرات الأخبار وفي الندوات الدولية مرادفاً للحرب الأهلية والتخلف والوحشية، وهي الصورة التي شكلتها الحرب الأهلية. إلا أنّ سنوات قليلة بعد انتهاء الصراعات، كانت كافية لتقلب الصورة رأساً على عقب، ولأن تقدم رواندا مثالاً مشرقاً في النمو والتصالح بين أطياف المجتمع وتجاوز الصراع.

تقول سيمونا فيزوتسكي، الخبيرة والباحثة في شؤون السلام وحل الأزمات: “بمشاركة المرأة في مفاوضات حل النزاعات تزداد فرص التوصل إلى اتفاقات سلام أكثر قوة واستقراراً. في رواندا تحقق ذلك”.

الدولة التي تشهد اليوم نهضة حقيقية، على جميع الأصعدة، تثبت لجميع المشككات/ين أهمية المشاركة النسائية الفاعلة في الشأن العام، وفي جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. تضيف فيزوتسكي، غالباً ما تكون النظرة إلى المرأة في الحروب والنزاعات على أنها مجرد ضحية، لا حول لها ولا قوة. هذه القناعة تعكس صورة خاطئة عن حقيقة أن المرأة يمكن أن تتمتع بالكثير من القوة والتأثير، من أجل بناء السلام وإعادة إعمار البلاد”.

لقد أكدت التجربة الرواندية أن إعادة بناء دولة حديثة تسير بخطى ثابتة نحو التطور والتنمية، على الرغم من وجود تاريخ دموي من العنف والاضطهاد والنزاعات المسلحة، هو أمرٌ واقعي يمكن إنجازه. وبالإسقاط على الواقع السوري الدامي منذ عام 2011، فإن المرأة وعلى الرغم من أنها دفعت الثمن الأكبر في الحرب وويلاتها، إلا أنها لا تزال مستبعدة عن مراكز صنع القرار وغير مشمولة بشكل كافٍ في المفاوضات ولا تحصل على الفرص اللازمة للتمكين والدعم.

سوريا التي تقبع في ذيل اللائحة (المرتبة 153من أصل 179 دولة) التي صدرت عن الاتحاد البرلماني الدولي للعام 2020 حول مشاركة المرأة في البرلمان، تمتلك بالحقيقة الكثير من مقومات الانطلاق الذاتية والطاقات الكامنة التي تفوق رواندا في عدة نواحي والتي لا تحتاج إلا إلى التفعيل ووضعها في السياق الصحيح… ما ينقص فقط هو ثقة النساء وإيمانهن بأنفسهن والتركيز على الإرادة والمبادرة بالعمل.

لقد أظهرت نساء رواندا، ما يمكن أن يحدث عندما تكون النساء، بفعالية في بناء السلام وحاصلات على فرص الدعم والتمكين اللازمة. ولا شك أن تلك التجربة الهامة لابد أن تكون مثالًا يحتذى على الصعيد العالمي، حيث يمكن للنساء أن تلعب دوراً هاماً في إحلال السلام، والحفاظ عليه، والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار.

*المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة