محكمة كوبلنز لن تكون الأخيرة

*رويدة كنعان: صحفية مدعية ضد أنور رسلان في محكمة كوبلنز

سيل من الذكريات المؤلمة والكثير من الأسئلة المتضاربة إضافة إلى مزيج هائل من المشاعر المتناقضة هو ما رافق رحلتي من باريس إلى كوبلنز لحضور الجلسة الأخيرة من محاكمة العقيد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في الفرع 251 بدمشق والمعروف باسم “أمن الدولة – فرع الخطيب”.

شعرت بالراحة والخوف والغضب، الرضا والإحباط، الإحساس بالإنجاز مع اللا جدوى… فهل هذا الحُكم أياً يكن سيرضي ابنة خالد التي لا تعرف والدها المختفي منذ ثماني سنوات؟ هل سيحقق الحُكم جزءاً من العدالة لوفاء التي ما تزال تنتظر والدها المختفي منذ بداية عام 2013؟ هل من الممكن أن يكون أنور رسلان الضابط “المنشق” عن النظام منذ كانون الأول 2012 مظلوماً؟ أو هل من الممكن أن يكون مجرد “كبش فداء” لعدالة منقوصة منشودة؟ 

في اليوم التالي 13 كانون الثاني 2022، أعلنت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز التابعة لولاية راين لاند فالس الألمانية، وعلى لسان القاضية آن كيربر، الحكم المؤبد على المتهم مع دفع كافة التكاليف للمتضررات/ين من ارتكابه جرائم ضد الإنسانية. عند النطق بالحكم، نظرت مباشرة إلى رسلان متوقعة أن تبدو على وجهه أياً من العلامات الإنسانية كالحزن أو الغضب أو الانزعاج بأقل تقدير، لكن ملامحه كانت جامدة جمود الحجر بحيث لم يبدِ أي رد فعل أو اهتمام ولا حتى رمش جفن.

لقد وجد القضاة أن أنور رسلان كان شريكًا في جريمة قتل 27 شخصًا وتعذيب أربعة آلاف آخرين داخل فرع الخطيب، فضلاً عن تهم مختلفة تتعلق بالعنف الجنسي والجسدي والاحتجاز غير القانوني خلال الفترة ما بين شهري آذار 2011 وتموز 2012 والتي كان فيها أنور رسلان رئيساً لقسم التحقيق.

الجدير بالذكر أن هذه الأرقام التي اعتمدتها المحكمة للضحايا كانت بالحد الأدنى كما جاء في قرار الحكم،

كما لم تعتبر المحكمة أن ارتكابه لهذه الجرائم جاء دون إرادة منه أو خوفاً من القتل أو الاعتقال “كما ادعى أنور” وإنما كان المسؤول الثاني في الفرع بعد رئيسه، ومن حيث الدوافع لارتكابه الجرائم فتعزيها المحكمة للمصالح الشخصية في الحفاظ على مكانته الاجتماعية والاحتفاظ بالقوة والنفوذ، إذ ترفع أنور من رتبة لأعلى ومن منصب لآخر تقديراً لجهوده وللثقة به. واعتبرت أيضاً أن وجوده ساهم في استمرار النظام الشمولي وفي استمرار جرائمه، وكما قالت القاضية في وصفها فإن أنور رسلان “حلقة صغيرة في محرك كبير”.

فالقصد الجرمي متوفر لديه، وهو كان على علمٍ بظروف السجن وبحالات الوفاة داخله، وعلى علمٍ بما كان يقوم به السجانون من تعذيب وتنكيل للمعتقلات/ين وكان متقبلاً ذلك. من جهة أخرى لم تصدق المحكمة أنه لم يستطع الانشقاق عن النظام حتى شهر كانون الأول 2012، عندما كانت المعارضة على أبواب دمشق حسب تعبير المحكمة. 

خلال الجلسة وفي البيان الختامي، سردت القاضية تاريخ إجرام النظام السوري منذ عام 1970 حتى 2013، تحدثت عن كيفية وصول حافظ الأسد للسلطة بانقلاب عسكري ثم عن مجزرة حماة والاعتقالات التعسفية في الثمانينات، ووصول بشار الأسد للحكم، واستمراره بنهج أبيه في قمع الحريات واستخدام نفس المنظومة الأمنية لقمع الشعب، وصفت بداية الثورة السورية وحادثة أطفال درعا والمظاهرات السلمية والرد العنيف للنظام، تحدثت عن تشكيل الجيش الحر وعن القصف والمجازر التي طالت المدنيات والمدنيين …

كنت أشعر بارتياح وأنا أستمع للاعتراف بانتهاكات النظام بحق الشعب السوري داخل أروقة المحكمة، كان اعترافاً قضائياً بأن ما فعله النظام وما يزال يفعله هو جرائم ممنهجة ضد السوريات والسوريين، لكن ورغم أهمية هذا الاعتراف القضائي فهو لا يعني تجريم النظام السوري. فقانونياً لم يصدر عن المحكمة قرار بمنع الحكومة الألمانية على سبيل المثال من التعامل مع النظام السوري الشمولي كما وصفته القاضية، بل جاء هذا السرد فقط للتعبير عن السياق الذي ارتكب فيه رسلان جرائمه. وقد قالت القاضية ذلك بشكل واضح “الحكم ليس للنظام السوري، وإنما يتعلق الحكم بسلوك المتهم الفردي”.

لا شك أن هذه المحاكمة ما كانت ممكنة لولا أن القانون الألماني لا يعترف بمبدأ “الولاية القضائية العالمية” التي تنطبق على بعض أخطر الجرائم بموجب القانون الدولي، هذا المبدأ هو الذي سمح للقضاء الألماني بالتحقيق في هذه الجرائم ومحاكمة مرتكبيها بغض النظر عن مكان ارتكابها وجنسية المشتبه به والضحايا. ولعله هو السبيل الوحيد حالياً القابل للتطبيق لتحقيق العدالة على الجرائم المرتكبة في سوريا.

ولا شك أيضاً أن شجاعة وصبر الشاهدات والشهود، المدعيات والمدعيين بالحق المدني، جهود القضاة والعاملين في المحكمة، كذلك جهود الحقوقيات والحقوقيين في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في جمع الأدلة والموارد المالية، بالتعاون مع بعض المنظمات الحقوقية السورية… كل ذلك ساهم في كتابة تاريخ جديد للعدالة السورية.

“نجاح تاريخي للعدالة” هو ما وصفت به محكمة كوبلنز في أغلب وسائل الإعلام، بالتأكيد أنه إنجاز وإن كان صغيراً لكنه مهم وتأسيسي، فلأول مرة يتم -عالمياً- محاكمة ضابط سوري ارتكب جرائم خلال عمله مع النظام، لكن يمكنني القول أيضاً أنه نجاح نسبي، طالما أن الجرائم والاعتقالات والاخفاء القسري لايزال مستمراً في سوريا بعد أكثر من عشر سنوات على النزاع، وإن كانت مسؤولية الحد منها وإيقافها لا من مهام المحاكم فحسب بقدر ماهي من أدوار المجتمع الدولي وسياسيي/ات سوريا.

إنها الخطوة الأولى والتي تُلزمنا بمضاعفة الجهد للسير قدماً وتحقيق المزيد، فالعدالة مسؤولية السوريات والسوريين والمنظمات الحقوقية السورية والدولية، أيضا هي بالدرجة الأولى مسؤولية الهيئات القضائية في العالم ومسؤولية الدول الديمقراطية التي تعتمد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في وثائقها. والعدالة لن تكون مكتملة دون محاسبة جميع مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.

أما بالنسبة لي فستبقى لحظة وصول أنور رسلان إلى المحكمة مكبلاً بالأصفاد لحظة تاريخية أستذكرها في كل مرة قد أفقد فيها إيماني بالعدالة.

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية