مشاهدات من دمشق بعد 24 ساعة من سقوط نظام الأسد 9/12/2024
- updated: 9 ديسمبر 2025
- |
*بسام سفر
لم أتعود على دمشق فارغة من أهلها وناسها كما كانت في ذاك النهار الدمشقي بعد فرار الديكتاتور والمجرم بشار حافظ الأسد، من بيتنا في حي الدويلعة إلى المفرق أمام كنيسة يسوع نور العالم على الشارع العام الواصل بين موقف الدويلعة وباب شرقي الشارع فارغ إلا من سيارات تعبر بسرعة كبيرة، وكأن هناك عجلة وتسرع في كل شيء. المفاجأة الأولى في هذا اليوم كانت بأنه لا مواصلات عامة، لا سرافيس على خط جرمانا- باب توما، فبعد انتظار أكثر من ربع ساعة، غادرت المفرق سيراً على الأقدام نحو باب شرقي.
(1)
على جانبي الطريق محلات الطعام والمطاعم لا تفتح باكراً، بالعادة أجد شاورما وفروج الزهراء قد بدأ العمل، ومحل مشاوي التوفيق، ومطعم موفق فاتحان الأبواب بدون زبائن، هذه المحلات العريقة في مدخل طريق الدويلعة مغلقة، وكذلك شاورما وفروج الشام عادة أجد الزبائن أمامه، وطاولاته مليئة، إلا أن المحل مغلق.
تابعت طريقي أترصد محلات المشروب والمغسل، ومحل الغاز للأسف كلها مغلقة، والصيدلية ومحل الموالح في الطرف المقابل مغلقان، والشارع فارغ بدون بشر، وكأن أهالي الدويلعة أكل القط أرجلهم… وبدأ سؤال يدور في ذهني، ماذا حصل حتى يفرغ الشارع العام بهذا الشكل؟
تقدمت نحو مركز للدفاع الوطني مقابل المقبرة، بالعادة يعج بالشبيحة في صخبهم الصباحي مع أسلحتهم وصوتهم العالي، ومركز طوارئ كهرباء الدويلعة الذي لا يرد على هواتف الطالبين على الخط الأرضي، إذ تسمع صوت رنينه لمسافة واضحة، كان المركزان مغلقين، رغم أن باب الحديد الصغير أمام غرفة المركز الرئيسية مفتوح، وبجانبه الأشجار التي تحيط بمسطبة المركز أمام الغرفة حيث يجلس عادة عناصر المركز، وأمامه سيارة السوزوكي المغلقة المكتوب عليها طوارئ كهرباء الدويلعة، لكن لا أحد أمام المركز، ولا سيارة الطوارئ، كازية المازوت تصفر بدون باعة الجملة أمامها، حتى طنبر الملح اختفى، وطنبر الموز، وأكياس البصل والبطاطا، لم يكن هناك أثر لكل هذا في ذاك اليوم، هذا ليس مدخل الطريق إلى الدويلعة أمام الكنائس، المقابر تحولت إلى صمت القبور الذي يزامن صمت سكانها.
اعبر إلى معرض الفخار على الطريق باتجاه بوظة أمية، والغرفة الخلفية التي بها تلفزيون مراقبة الطريق وعناصر أمن من فرع فلسطين وغيره، عبر الكاميرا المثبتة على شجرة فوق مرتع شرب فراخ البط الذي يقف الأطفال عندها لرؤيتها، كل الفاخورة فارغة لا أثر لبشري بها، والبط آمن يسير مبتعداً عن ساقية مياه الشرب.
أتخطى الفاخورة على ذات الرصيف، وانظر إلى صيدلية أمل سرحان في الجهة المقابلة مغلقة، ونحو بوظة أمية التي تكون زبائنها في نهاية النصف الأول من النهار، وأمر بفرن خبز السكري الذي يضع في كوته أمام المشترين خبز السكري الأسمر، والفطائر، وخبز الكماج، الفرن والكوة مغلقين.
(2)
خطوتي نحو مطعم المنهل، الذي يكون عماله عادة يشربون الشاي الصباحي، أمام حاجز فرع فلسطين، ما قبل بوظة أمية من جهة خط باب شرقي جرمانا، هناك حيث اعتقلني باص فرع جوية حرستا في صيف عام 2021، حين كنت عائداً من اجتماع للمكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي في سوريا، قبل خطوات طلب أحد عناصر دورية فرع الجوية هويتي، أعطيت الهوية بكل ثقة (لأنه قبل يوم واحد قد فيشت على اسمي في الهجرة والجوازات) وكانت النتيجة لا يوجد أي طلب لأي فرع على الاسم.
لكن العنصر قال لي: قف هنا… وأخذني من يدي نحو قائد الدورية
العنصر: سيدي… هذا هو… وهذه هويته
المقدم: (يأخذ الهوية يتأملها) ما اسمك؟
بسام: بسام سفر
المقدم: العمى في عيونك… نحن من 21 يوم ننتظرك هنا
بسام: شو السبب؟
المقدم: هلأ بالفرع بتعرف السبب، (للعنصر) خذه إلى الباص وطمشه
كنت أول من صعد إلى الباص، الطميشة والكلبشة في اليدين، والرأس منخفض على حديد المقعد الأمامي والانتظار سيد الموقف، ينضم إلى الباص عدد من المواطنين السوريين دون أن أحدد كم يبلغ عددهم. يصعد العنصر مع قائد الدورية، قائلاً: كفاها الله اليوم (إلى السائق) طير فينا إلى الفرع حتى نسلمهم، يدور باص (24) راكب من أمام مطعم المنهمل إلى الجامع ويلف من أمام جامع عند زواية منطقة باب شرقي، ليأخذ طريق المليحة إلى تقاطع مع اوتوستراد المتحلق الجنوبي، ويلف الدوار، ويهبط بالباص نحو طريق الاوتوستراد نحو خط جوبر- جوبر- حرستا- حمص عند كراجات البولمان.
يقف الباص، ينزلنا العناصر مدفوعين من ظهورنا إلى الأسفل بدرجات تحت الأرض، يسلم هوياتنا، ويفك الكلابشة، ويصرخ قائد الدورية: استلمت يا زياد.
يرد زياد: استلمت سيدي
(3)
تمر سيارة مسرعة مع زمور عالي الصوت، انتبه إلى أنني ما زالت أتأمل الحاجز الفارغ.
أخاطب نفسي لا شيء يبقى على حاله إلا وجه القيوم، أتابع السير نحو محلات تصليح السيارات المغلقة، وأصل إلى الجامع على زاوية خط المليحة أمام مدرسة الفاروق الحديثة، أنظر إلى الثكنة العسكرية مقابل المئذنة البيضاء في باب شرقي، حيث النار مولعة في طوابق البناء المركزي للثكنة. من هذه الثكنة انطلق القائد التاريخي ووزير الدفاع السوري يوسف العظمة لمواجهة جيش الاحتلال الفرنسي، حيث كانت مقر تجميع بقايا الجيش والمواطنين والمدنيين السوريين لقتال الجنرال الفرنسي غورو وجيشه، اليوم هذه الثكنة تحترق.
أخرج هاتفي وأصور لأوثق لحظة الاحتراق، والبوابة المفتوحة، والناس التي تخرج أغراض وأدوات من هذه الثكنة، وأنظر إلى الدخان المتصاعد من مركز الهجرة والجوازات في الزبلطاني مقابل سوق الهال الجديد الذي يحترق بعد أن أعيد تجديده وتحول من مجمع استهلاكي إلى مركز لاستخراج الجوازات تابع لوزارة الداخلية.
هذه الثكنة العسكرية تحولت في أواسط عام 2025، إلى إدارة التسليح في وزارة الدفاع السوري مع السلطة الجديدة في البلاد.
(4)
أهرب من الطريق العام في تقاطع باب شرقي نحو المئذنة البيضاء، واعبر قوس باب شرقي نحو حارة حنانيا، وأدخل منها باتجاه باب توما خوفاً من السيارات المسرعة لعدم وجود ناس في الطريق العام الواصل ما بين دوار جامع الشيخ رسلان وباب شرقي، ولا وجود لأنس بشري في حنانيا، الأبواب موصدة، والمحلات مغلقة الشوارع تصفر، أسير الهوينة متنفساً براحتي بعيداً عن الخوف الداخلي الذي زاد من هواجس هجران أبناء الأحياء الدمشقية الحارات، والترقب الحذر الذي يجول بعيداً عن الأيام الاعتيادية بوجود النظام البائد.
وأثناء السير السريع نحو ساحة باب توما، التقى بشاب فاتح باب داره العربي العتيق، ويلاعب كلبه الصغير أمام بيته، اتمهل قليلاً لوجود بشري في الشارع، التقط أنفاسي قليلاً، واستمر بالسير نحو ساحة باب توما، اهبط إليها من الدرجات العتيقة خلف قسم شرطة باب توما، اترصد الساحة وأحوالها الهبوط النهائي إليها، وعندما أتيقن أنه لا وجود للبشر فيها، اعبر من خلال الرصيف الجانبي إلى أماكن وقوف سرفيس مهاجرين باب توما لأجده فارغاً، لا سرافيس ولا باصات، ولا بشر كذلك، أعبر الجسر فوق فرع من نهر بردى لأجد سيارة بيك آب فوق الرصيف نصفها الأمامي هدم جزء من الجسر، وجزئها الخلفي فوق الرصيف.
(5)
يرن هاتفي، أخرجه من جيب الجيله الذي أرتديه، افتح موبايلي، يوسف عبد لكي، يسألني أين أنت؟ هل ستأتي اليوم إلى الاجتماع؟ رددت: نعم أنا في الطريق، فقال الرفيق (أبو مرهف، عبد القهار سعود) في باب توما، تواعدا وتعالا سوياً، وإذ لم أكن في البيت انتظرني حتى أعود، يغلق خطه، وافتح هاتفي، على رقم الخال أبو مرهف، وأضغط عليه، يرن الهاتف، يفتح الخال الخط، صباح الخير خال، أين أنت؟
أبو مرهف: عند فرن باب توما
بسام: انتظر قليلاً أنا في الطريق إليك
أبو مرهف: هلا… هلا خال
اترك محل فلافل ميامي نحو الفرن مروراً في بقايا مطعم مرايا، وأتجاوز المصرف التجاري السوري نحو الخال الذي يقف على الزاوية، أهرع إليه، وأنا أغني “أرفع راسك فوق أنت سوري حر”
أعانقه، أقبله، قائلاً: مبروك… ألف مبروك خال… رحيل الديكتاتور
أبو مرهف: يبارك بعمرك… هيك سوريا أحلى بلا آل الأسد
نسير في شارع العمارة، والحديث عن اللحظات الأخيرة في حياة دمشق مع هروب الديكتاتور بشار الأسد. ينعكس الفرح الذي نحن فيه، وكأننا نطير على الأرض… نقطع الشارع إلى الطرف المقابل حيث حاويات القمامة، لكي نتأكد أن ما فيها من صور آل الأسد مشلوحة على الأرض، لوحات الفليكس المرمية إلى جانب الحاويتين وفيها صور الأب القائد، وبشار، وباسل، قمنا بالدعس والرقص فوق اللوحات والصور، ونحن نغني “ارفع راسك فوق أنت سوري حر”.
(6)
غادرنا مكان الحاويات نحو الطريق الجانبي من شارع العمارة، لكي نصل إلى جسر الثورة، هناك ولأول مرة هذا اليوم نشاهد سوريين مسلحين في الشوارع من أبناء الحي يحمونه، بالإضافة إلى أن سيارات المقاتلين تجوب الأحياء والحارات، وبعد السير في الشارع الفرعي تقدمنا طويلاً قبل الوصول إلى حواف سوق الهال القديم، توقفت سيارة من الدوريات وفيها ثلاثة مقاتلين إلى جانبنا، وسألنا أحدهم، الشوارع فارغة وكأنه لا وجود للأهالي في هذه الأحياء، أين اختفوا الناس، ولماذا أنتم في الشارع؟
أبو مرهف: الناس خايفة، لذلك هي في بيوتها
المقاتل: وأنتم ليش مو خايفين؟
أبو مرهف: نحن لا نخاف من أبناء البلد، أنا عشت في سجن صيدنايا (12) عاماً، وتدمر (3) سنوات والأفرع حدث ولا حرج، وصديقي ست سنوات في صيدنايا أيضاً
المقاتل: الله يحميكم. من أين الطريق إلى الشارع العام؟
أبو مرهف: إذ كنتم تريدون شارع بغداد أي دخلة على يدكم اليمين توصلكم إليه، وإذ كنت تريدون سوق الهال والقلعة والحميدية والمسجد الأموي أي دخلة على يدكم اليسار
المقاتل: شكراً… شكراً يا عم
أبو مرهف: الله معكم…
(7)
في طريق العودة ذاته، كانت قد زادت نسبة اشتعال النار في الثكنة العسكرية، وعلى زاوية مدرسة الفاروق عند تقاطع منطقة باب شرقي مجموعة من الفرسان على ظهور الخيل كانت تعبر الشارع الرئيسي، وأصوات حادة تحدثها حوافر الخيل على الزفت، شاهدنا منظر الخيول والفرسان، وتابعنا طريقنا نحو خط سير جرمانا من باب شرقي، وكانت قد دبت الحركة في شوارع الأحياء الشعبية نسبياً، لكن على الزاوية قرب صيدلية أمل سرحان كانت الأوراق والدفاتر والبيانات تتطاير، وأصبحت الحاويتين محاطة بالأوراق البيضاء، وكأنها أوراق الأشجار الصفراء في الخريف، وإلى الأمام قليلاً شابان صغيران يجران عربة بدولابين نحو خط الدويلعة وجرمانا، وهي محملة في (ألواح طاقة شمسية، بطاريات طاقة وعادية، طاولة خشبية مفككة، أنفنيتر…الخ).
وعند الوصول إليهما، أبو مرهف: يا عمو… ليش أخدين هي الألواح والبطاريات؟
الشاب: للبيع… أخدناهم من مركز الأمانة السورية للتنمية
أبو مرهف: هذه أموال دولة، ممكن يحاكموكم!
الشاب: هم سرقونا وجوعونا، الله يلعن بشار وأسماء، نحن جوعانين، حتى نطالع حق الخبز، هربوا وتركوا البلد
نعبر الشابين، ونتابع سيرنا على الطريق العام مع زيادة في نسبة حركة السيارات والقليل من الناس في الشوارع الرئيسية، أودع صديقي أبو مرهف على ناحية مفرق الدويلعة، وأتابع سيري باتجاه المنزل…