نساء إيران، نساء سوريا

 

*لينا وفائي

 

أثناء زيارتي الأخيرة للندن حضرت معرض رسم للرسامة الإيرانية “سهيلا سوخانفاري Soheila Sokhanvari“، معرضاً وثقت به حياة النساء الإيرانيات الناشطات في الحياة العامة قبل ثورة ١٩٧٩ عبر رسم بروتريهات لهنَّ، رافق المعرض شرح لحيوات تلك النساء، أين أصبحن الآن، ماذا فعلن بعد السيطرة الإسلامية في إيران، ما الذي استطعنه في ظل حكم إسلامي متشدد، من بقي منهن ومن غادر.

كانت تلك النسوة قبيل عام ١٩٧٩، فنانات، مخرجات وممثلات، مطربات، وأديبات وشاعرات، كان لهنَّ حضورهنَّ في الحياة الثقافية، بعضاً منهن اضطررن للمغادرة لاستمرار نشاطهن، البعض الآخر وقعن على إقرار التوبة بعد سجنهن، وعدن للعمل ملتزمات بالحدود التي وضعتها السلطة الإسلامية، ومنهن من لم يعدن للنشاط أبداً بعد السجن والمحاسبة التي تعرضن لها. إحداهن مطربة معروفة تدعى “غوغرش”، التي التزمت بيتها دون عمل حتى تمكنها من المغادرة والعودة للغناء، فقد كانت ممنوعة من مغادرة البلاد لفترة طويلة، قالت: “لقد حاولوا جاهداً محو-أقصد مسح اسمي، مسح موقعي، مسح أغنياتي، مسح وجهي، محو ذكرياتي، لكنهم لا يستطيعون”.

يأتي هذا المعرض في التوقيت الذي تثور فيه نساء إيران ضد القمع، ضد تهميشهن، وضد الحكم الديكتاتوري الذي يفرض عليهن حياة ليست من خيارهن، مما يعطيه قيمة مضافة لتسليط الضوء على ما عانته النساء في ظل الحكم الإسلامي في إيران.

أثناء جولتي في معرض سهيلا كان معرض “مَوْجة” يمر في ذهني، كنت أرى وجوه صديقاتي ومعارفي في البورتريهات بدلاً عن وجوه النساء الإيرانيات.

معرض “مَوْجة الذي يحتفي بالنساء أيضاً، والذي أطلقته الحركة السياسية النسوية السورية تزامناً مع مؤتمرها العام الرابع في باريس، عبر نشر وجوههنَّ، أصواتهنَّ، ولحظاتهنَّ.

 

الصورة من معرض "مَوْجة" في مدينة باريس-تموز 2022

الصورة من معرض “مَوْجة” في مدينة باريس – تموز 2022

 

في لحظاتهنَّ ترى التشتت الذي نعانيه نحن السوريات، بعضهن ما زلن داخل سوريا، في مناطقها المختلفة التي تخضع لقوى سيطرة واقع مختلفة ومتحاربة، وهناك من يعشن المكان في دول اللجوء، لكن لحظاتهنَّ ما زالت في سوريا. فنرى الصورة هي لمكان السكن، في حين أن الأغنية المرافقة تبث الحنين لسوريا، حتى أن إحداهن اختارت أغنية “ردني إلى بلادي” كأغنية مرافقة للمكان. 

ما استوقفني صور ولحظات نساء الداخل، خصوصاً الشمال السوري، وأين سيصبحن بعد الحملة المنظمة التي تشن ضد الناشطات، ويتهمن خلالها بتقويض كيان الأسرة السورية، فيشهر بهنَّ على صفحات التواصل الاجتماعي، وتتلى الفتاوى ضدهنَّ. هل سيكون المكان في الخارج في المرة القادمة مع حنين العودة؟ أم سيختفين ويلتزمن المكان والصمت؟.

في رواية “بنات إيران” للكاتبة “ناهيد رشلان”، السيرة الذاتية التي تتحدث عن المجتمع قبل الثورة على الشاه، وخصوصاً وضع النساء وما عانينه من إقصاء وظلم قبل ثورة ١٩٧٩، وكيف أصبحن بعدها. تقول ناهيد متحدثة عن الوضع بعد الثورة: “أعرف أن الأمور في إيران لم تتحول من الخير إلى الشر، وإنما سيء إلى ربما ما هو أسوأ، تحت حكم الشاه، كان الشعب محروماً من كل الحقوق تقريباً”.

إذاً لم يكن وضع المرأة قبل الثورة جيداً، رغم ما تعرضه سهيلا في معرضها، فالاضطهاد كان عاماً، وكان للمرأة حصة خاصة منه، وقد روت لنا الكاتبة ناهيد كيف خسرت أختها حضانة ابنها بعد الطلاق. وقد شاركت المرأة الإيرانية في الثورة، وما زالت صور النساء المشاركات في المظاهرات حاضرة في الأذهان، بتنانيرهن القصيرة وشعرهن الذي يعانق الريح، لكن الوضع بعد وصول الحكم الإسلامي كان أشد وأقسى. 

في رواية إيرانية أخرى -وهي أيضاً أشبه بسيرة ذاتية- “أن تقرأ لوليتا في طهران” تحدثنا الكاتبة “آذار نفيسي” عن مشاركة المرأة الإيرانية بثورة ١٩٧٩، وعن وضعها بعدها. تصر الكاتبة على تسمية الثورة “ثورة ١٩٧٩” وليس “الثورة الإسلامية” كما عرفت فيما بعد، إصرارها ذلك نابع من أن الجميع اشترك بهذه الثورة في بدايتها، وقد كانت ثورة حقوق، ضد حكم الشاه الذي كان يدعي التقدم، لكن فقط في المظاهر، من أجل الحصول على رضا الغرب، دون أي تقدم حقيقي في الحقوق والدستور والحياة العامة، فهو في الحقيقة يقمع شعبه.

ترى “آذار نفيسي” أن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الثورة هو التحالف الذي رضي به الديمقراطيون مع الإسلاميين، والذي بموجبه أجل الديمقراطيون واليساريون الخلافات مع الإسلام السياسي، لأن الأهم الآن تركيز وضع الثورة بعد انتصارها، وعدم السماح للغرب بالتغلغل بين الصفوف، هذا التحالف الذي سمح للإسلاميين بالسيطرة وتحويل الثورة إلى ثورة إسلامية.  

تحدثنا الكاتبة “آذار نفيسي” في روايتها، كيف استخدم فرض الحجاب في إيران لإحكام السيطرة السياسية، وأن قمع النساء كان الوسيلة لتثبيت الحكم، وتعميم القمع. وبذلك نفهم لماذا ابتدأت الاحتجاجات الآن في إيران بنزع الحجاب، فالحجاب هنا رمز للسيطرة، تلك الاحتجاجات التي توسعت وانتشرت في عدد من المدن الإيرانية. 

أعود للتفكير في الوضع السوري، فقد بدأت ثورتنا من أجل الحرية والكرامة، بل إن أول شعار أطلقته كان “حرية، حرية”، وقد تحالف الجميع في بدايتها في مواجهة الديكتاتور، الديمقراطيون واليسار والإسلام السياسي، لكن الثورة لم تنتصر كما حدث في إيران، ولم تُسقط نظام الحكم، بل سرعان ما تعسكرت وتحولت إلى حرب، حرب كانت السيطرة فيها للإسلاميين، وكما حصل في إيران، استمر التحالف القائم بقيادة الإسلام السياسي، لكن هنا بحجة مختلفة، كانت الحجة لعدم توضيح الفروق وللقبول بسيطرة الإسلام السياسي، أن الأهم الآن هو إسقاط النظام، ويجب أن لا نشتت جهودنا بخلافات داخلية. 

استطالت الحرب، ولم يسقط النظام، صار هناك تقسيم أمر واقع بين المناطق المختلفة في سوريا، فكل منها تخضع لسيطرة مختلفة ومدعومة إقليمياً أو دولياً من طرف مختلف، صارت الحرب محلية إقليمية دولية، واختلفت مناطق النفوذ، عُقِدت الإتفاقيات والمصالحات، وصار الأهم الآن الحفاظ على سيطرة الجزء الخاص بكل طرف. 

إذاً اختلفت الأولويات للإسلاميين مرة أخرى، ففي إيران بعد انتصار الثورة وهرب الشاه كان الأهم هو إحكام السيطرة الداخلية وإبعاد الشركاء الذين يمكن أن يواجهوا ذلك، وهذا ما تم. الآن في سوريا، إحكام السيطرة على الجزء الذي يقع تحت أيديهم يفترض أيضاً مواجهة حلفاء الأمس، فهم سيكونون خطراً على السيطرة المطلقة.

عندما ترغب إحدى القوى بإحكام السيطرة، فهي تبدأ عادة بالحلقة الأضعف، التي يمكن أن تكون السيطرة عليها أسهل وأقل كلفة، وغالباً ما تكون النساء. فتسهل مواجهتهن وقمعهن، نتيجة لتاريخ طويل من الاضطهاد والقمع، وهذا ما قام به الإسلاميون في إيران بعد ثورة ١٩٧٩، فاستخدموا، كما ذكرت، فرض الحجاب لفرض السيطرة السياسية.

 مرة أخرى يبدأ الإسلاميون فرض سيطرتهم في الشمال السوري عبر مواجهة النساء، لكن هذه المرة بمواجهة النشاط النسوي والنسائي، وشيطنته، فانطلقت الفتاوى، وهوجمن في خطب الجمعة، ألقيت المحاضرات وأعلنت الحرب عليهنَّ، عقدت الدورات لمواجهة الفكر النسوي، لم يعد إسقاط النظام هو الهدف، فقد أصبح بعيد المنال، وأصبحت محاربة النساء هي الهدف الأسمى.

في وسط كل ذلك أفكر بصديقاتي اللاتي أعرفهن، وبكل النساء اللاتي لا أعرفهن، أفكر في كل ما يواجهنه، أقرأ بيانات التنكر للنسوية، وأتذكر التوبة التي وقعتها مجبرة نساء إيران، هل سأرى وجوههنَّ مستقبلاً في معرض مشابه، يتحدث عن من اضطرت للمغادرة، أو التزام بيتها، أو التنكر لما تؤمن به لكي تتمكن من العمل وفق الشروط المفروضة؟ هل سنحتاج إلى أربعين عاماً أخرى لنبدأ ثورتنا النسائية كما حصل في إيران؟.

أتمنى أن لا يحصل ذلك، وأن نستطيع، نحن النساء، بمساعدة الديمقراطيين، والقوى الديمقراطية في العالم أجمع من مواجهة هذه الحرب الجديدة التي تشن علينا. أتمنى أن لا يعيد التاريخ نفسه، فقد قيل سابقاً، إذا أعاد التاريخ نفسه فهو في المرة الأولى مأساة وفي الثانية مهزلة. 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية