هل السلم الأهلي بعد سقوط النظام السوري يُنهي الألم… أم يُعيد إنتاجه؟

 

*منى عبود 

 

منذ أن سقط النظام السوري وبدأنا نخطو نحو واقع جديد، ظهرت إلى العلن لجنة السلم الأهلي كأحد أول المشاريع المجتمعية والسياسية المفترض أن تُعيد لمّ الشمل وتُداوي الجراح. لكنها، بالنسبة لي، لم تكن كذلك.

أنا من أولئك الذين نجوا من الاعتقال، لكنهم لم ينجوا من ذاكرته. حين سمعت بتشكيل اللجنة شعرت للحظة أن صوتي سيُسمع، وأن العدالة ستأخذ مكانها. لكن سرعان ما اتضح لي أن اللجنة جاءت تحمل عنوانًا مستترًا: “خلّونا ننسى… ونعيش”

ورغم أن الدافع الحقيقي وراء إنشاء هذه اللجنة لم يكن أبدًا قضايا الاعتقال أو المجازر التي ارتكبها النظام السابق، لم يكن في بيان تشكيل اللجنة أن لها صلاحيات القرار فيمن سوف تتم محاسبته أو من يقف في قفص المحكمة.

كانت قد أنشأت لاحتواء التوتر الطائفي في مناطق الساحل السوري وخاصة بعد الأحداث الدامية التي عاشتها تلك المناطق في شهر آذار الماضي.

كما كان من أهداف اللجنة بناء جسور التواصل لإرساء الاستقرار الداخلي عبر ما يسمى بالوئام الأهلي للوصول إلى بوابة العدالة الانتقالية التي تبني المجتمع بطريقة سليمة متعافية.

 

تغيير أدوات السلم من العدالة إلى التهدئة

عضو اللجنة العليا للسلم الأهلي الشيخ “حسن صوفان” وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا الشهير بالتعذيب والقتل، فاجأنا خلال مؤتمره الصحفي في الشهر السادس بمنحنى مختلف تمامًا وطريقًا فرعيًا مغايرًا عما أُعلن عنه في تشكيل اللجنة.

لقد تحولت العدالة إلى تهدئة وخيبة كبيرة، إذ ناقش وبطريقة سلبية جداً (من وجهة نظري كضحية اعتقال سابق) طريق العدالة التي تراها اللجنة.

عدالة تسكن الجروح مؤقتًا لا تعالجها، عدالة تجعل من المجرم وسيلة لتحقيق السلم، لا من خلال محاسبته، بل من خلال جعله جزءًا من السلم وعضوًا بارزًا في تحقيقه، دون مراعاة مشاعر الضحايا وذويهم الذين قضوا على يد هذا المجرم أو سواه.

كانت الرسالة واضحة، نحن أعطيناه الأمان ولن يُحاسب على ما ارتكبه بحقكن/م من جرائم.

وتبرير ذلك أن “فادي صقر” وهو نموذج تم إشهاره والحديث عنه، من بين ربما عشرات المجرمين الذين أعيد تدويرهم بحجة المساعدة في رسم مسار السلم الأهلي المزعوم.

فتغير المسار من تحقيق العدالة إلى التهدئة وتغطية الجراح دون النظر إلى جذور الانتهاكات ومعالجة الجروح التي تحولت إلى انتقامات فردية وتحقيق عدالة انتقامية انتشرت بين أفراد المجتمع المتضرر.

ففي التاريخ الذي ظهر فيه “الصوفان” في المؤتمر الصحفي  يتحدث عن المسامحة التي وهبها لـ “فادي صقر” أحد قيادات الدفاع الوطني والمتهم بارتكاب جرائم وانتهاكات بحق المدنيين في حي التضامن بدمشق، كان هناك ضباط آخرون تم الإفراج عنهم بجهود “صقر” في العفو الذي تحدث عنه “سقراط الرحية” الذي ظهر في فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي يتحدث فيه عن إطلاق سراح عدد من الضباط التابعين للنظام البائد بوساطة “فادي صقر”، ثم ظهرت فيديوهات تتحدث عن مقتل أحد هؤلاء الضباط المفرج عنهم كحالة انتقام فردي، فقد بدأت تصفيتهم بطرق مجهولة وأيد خفية ومباركات مجتمعية تدعو إلى عدالة فردية تشفي الحقد الذي تولد وتفاقم عبر سنوات الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري الثائر طيلة أعوام ثورته الأربعة عشر.

المشكلة الأكبر هنا أن اللجنة وعلى لسان “الصوفان”، أعطت نفسها أحقية قانونية بالعقوبة والعفو، دون صلاحيات قانونية واضحة تخولها لتطبيق العدالة، التي تراها هذه اللجنة بعينها فقط، دون النظر إلى عين القانون وعيوننا نحن الضحايا الذين نرى المجرمين يتجولون بيننا بكل ثقة وبمأمن من أي محاسبة.

 

السلم بدون عدالة… لا يرمم شيئًا

كثير من الناجيات والناجين من السجون السورية – وأنا منهم – لم نُسأل يومًا عمَّا نحتاجه.
ما طُلب منا فقط هو “السكوت من أجل المرحلة القادمة”، لكن أي مرحلة تُبنى على نسيان الانتهاكات دون مساءلة، هي مجرد مرحلة مؤقتة من الظلم الجديد.

بعض من شاركوا في الجرائم، اليوم يُقدّمون أنفسهم كـ”دُعاة تعايش”، وبعض من وقفوا على أبواب الفروع الأمنية، بل وقاموا بارتكاب المجازر، الآن يجلسون في لجان السلم، ويتحدثون عن “وحدة المجتمع”.

 

إلى أين يتجه الواقع؟

هناك مؤشران مهمان: اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية، والهيئة الوطنية للمفقودات والمفقودين، المنصوص عليها بمرسوم رئاسي في شهر مايو 2025، بدل أن تكون لجنة وطنية مشكلة من قبل مجلس تشريعي يوصي بتشكيلها، والتي يقتصر عملها على التوثيق فقط دون أن يكون هناك أي آلية واضحة للمحاسبة وتُعتبر محاولة لإقامة أدوات رسمية للعدالة والمساءلة، لكن التركيز ما زال على جرائم النظام السابق فقط، مما يشير إلى إمكانية إقصاء ضحايا جماعات أخرى في الحرب. مؤشرٌ آخر للابتعاد عن مفهوم العدالة الانتقالية الحقيقي وتحقيق سلم أهلي شامل في البلاد.

 

نحو لجنة حقيقية: السلم لا يعني النسيان

السلم الأهلي الحقيقي لا يكون بمصافحة الجلاد، بل بمحاسبته.

السلم لا يعني أن نعيش فوق ركام الذاكرة، بل أن نبني فوق الحقيقة.

والضحية لا يُطلب منها التسامح قبل أن تُسمع شهادتها وتُعاد لها كرامتها.

إذا كانت هذه اللجنة فعلاً تمثّل بداية جديدة لسوريا، فعليها أن تبدأ من الاعتراف، بحقوق الضحايا وتفتح الباب للعدالة الانتقالية، لا أن تكتفي بالتسكين الاجتماعي، بحجة أن محاسبة جميع من انتهك الحقوق الإنسانية أمر يستحيل تطبيقه، لذا علينا النسيان والتجاوز، دون أن يُجبر ضرر الضحايا معنوياً ومادياً ودون أن يتم محاسبة المجرمين، بدلاً من إقناعنا بضرورة العفو عنهم.

 

صوت الضحية ليس عبئًا… بل بوابة العدل

أكتب اليوم ليس لأهاجم أحدًا، بل لأُذكّر بأننا لن نعيش حقًا، إلا إذا توقّفنا عن مطالبة الضحايا بالنسيان، وبدأنا نُصغي لهم كمنارات في طريق الإصلاح.

سوريا الجديدة لا تُبنى بلجنة تُخبرنا أن ننسى، بل بلجنة تجعل الحقيقة ممكنة، والعدالة شرطًا، والتغيير أخيرًا حقيقةً واقعة.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية