وصولاً إلى اللجنة الدستورية

*دريد جبور

خمسون عاماً كانت فيها كلمة تفاوض محصورة باتجاه الخارج، وبتمثيل وحيد للنظام، أما كلمة حوار، فكانت مغيّبة عن القواميس السياسية
والاجتماعية، لعدم الحاجة لها مع وجود الكتاب المقدّس لصاحبه حافظ الأسد، ولاحقاً بشار الأسد، مع تأجيره (بطريقة أو بأخرى ولكن ضمن إطار التفسير الخاص والحصري والأوحد)، للطبقة الاقتصادية والدينية الموالية شكلاً والمتقاطعة فعلاً مع النظام.

قبل انطلاقة الربيع العربي، كان النظام السوري يؤجل أي إصلاح، ولم تكن تنقصه الحجج، ومع بدايته قيل له (وأعجبه ذلك)، إنه خارج تأثير هذه الموجة.

مع إشراق أول شمس لهذا الربيع في سوريا، بعد عقود من ظلم وظلام، كان قد استعد النظام للمواجهة بمساعدة من إيران أولاً ومن روسيا ثانياً، وقدم خطابين الأول هو الإيحاء بالمسير مع مطالب الشارع، والآخر هو حقيقة ما يريد أن تؤول إليه الأمور، تضمنتها كلمة بثينة شعبان (مستشارة النظام الإعلامية) مع بدء المظاهرات حول المؤامرة الطائفية ضد البلد.

اشتعلت الساحة السورية وتقدم المقربون من النظام (خارج دائرة الحلفاء)، كقطر وتركيا والسعودية، محاولين إيجاد حلول للوضع، بما يتوافق بالعموم مع مصالحهم التي تتركز حول تجنب التغيير الديموقراطي السلمي، لما فيه من أضرار تسونامية ستضرب مصالح الجميع، وبخصوصية ما لكل طرف، مع وجود الحاضر الغائب إسرائيل ومن خلفها أمريكا في كل ما سيحدث لاحقاً.

طبعاً النظام وإيران كانا على معرفة بأن أية إصلاحات حقيقية تعني بداية انهيار الجدار الذي يُبقي النظام حياً ويجعل الحلم الإيراني بهلاله الشيعي الوجه ممكناً، لذا كان الخيار الأمني والعسكري هو الحل الوحيد المتاح والمتفق عليه والمستعد له، ما أدى لفشل جهود الأصدقاء القدامى، وتوجههم للبحث عن وسائل تجعلهم ضمن الحدث مؤثرين به ولا بأس مستفيدين من نتائجه، ولم يطل الوقت حتى كان قرارهم بأن أفضل وأسهل الوسائل وأكثرها توفراً هو التسليح (بسبب عنف النظام وانسداد أي أفق سلمي للحل)، ولاحقاً الأسلمة، مع علم الجميع بأنها ستؤدي إلى الدمار وإطالة الحرب، حدث كل ذلك بمعرفة ورضى ومشاركة الطرف الأمريكي والغربي، والموافقة الروسية ولمصلحة النظام.

غاب عن المشهد أي طرح حقيقي للتفاوض أو الحوار، مع التأكيد على أن السبب الأهم هو النظام، ولكن أيضا المعارضة وخاصة الخارجية لم تكن
معنية (بسبب الوعود أو الأفخاخ، فقد كانت تعيش وهم السقوط القادم والعاجل للنظام)، بأي حوار أو تفاوض مع النظام. في المحصلة وجب المضي قدماً في آليات التدمير الذاتي.

كل ذلك تكرس بطريق أحادي للنظام (بالأسد أو نحرق البلد)، وانتصارات للمعارضة المسلحة، قبل أن تتضح الصورة الواقعية لسيطرة الإسلام السياسي، والأكثر تطرفاً فيه، على أغلب القوى المعارضة، مع تراجع متسارع ومقصود للجيش الحر، وتحويله لفصيل إضافي وخاضع لواحد أو أكثر من الأطراف الإقليمية الفاعلة على الساحة، وصولاً لقرار تكريس هزيمته في عدة مناطق لاحقاً.

يمكن القول إن الهدف الأهم والأساسي من تدخل كل هذه القوى في الشأن السوري، قد تحقق وهو عدم حدوث انتقال سلمي وهادئ نحو الدولة المدنية الديموقراطية، إلا بعد دمار كل مفاصل الحياة وأهمها المجتمعي والاقتصادي، وتحولها لدولة فقط، وكي تعود إلى ما كانت عليه سابقاً، ستحتاج إلى عقود من بناء ومديونية وعمل حثيث لترميم الشرخ المجمتعي والإنساني، مع حضور واقعي وعميق لكل تلك القوى المتدخلة والتأثير السلبي، وقد يكون المانع كما هو  منتظر منها، وكما قالت الوقائع عنه.

على هامش الكلام فإن التقسيم لم يكن هدفاً، ولكنه ممكن الحدوث كوسيلة، في حال لم تتوصل الدول الحاضرة عسكرياً على الأرض السورية إلى توافقات فيما بينها، رغم أن التقسيم سيجعلها متورطة بشكل مزمن ببؤرة اضطرابات ليست من مصلحتها على المدى البعيد.

بيان جنيف ومن ثم قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وأهمها 2254، هو ما توافقت عليه الأطراف الأهم (روسيا وأمريكا)، مع موافقة صادقة أو مكرهة من الآخرين وعلى رأسهم إيران، ولكن لا أحد على عجلة لتحقيقه، فالكل يسعى لتحسين مواقعه واستكمال القضاء أو التحجيم للقوى العسكرية، التي تستطيع لسبب أو لآخر تعطيل أو تفشيل مسار هذا الاتفاق بقرار ذاتي أو بدفع من قوى مؤثرة عليها، وللأسف فإن الغائب الأهم كانت الأطراف السورية في منطقية بحثها عن مصلحة الوطن والشعب، فلا النظام من جهة، وحيث هو مستعد لقتل وبيع كل الشعب السوري من أجل رهان على أيام، وفي أفضل الحالات سنوات قليلة أخرى في الحكم، ولا قسم مهم من المعارضات التي أغرقت نفسها بمصالح تعود فعلياً لصالح الدول الداعمة لها والمسيطرة بشكل شبه تام على قرارها، وأهمها التيار الإسلامي، والذي ما زال يكرر الأخطاء تجاه الموضوع الوطني مستعيضاً عنه بمفهوم الأمة.

لقد أوكلت أمريكا لروسيا، وبشكل أقل لتركيا، الجزء العملي في مسار حل الأمور دون أن يعني ذلك غيابها ومحاولتها تصويب هذا المسار بما يتناسب مع مصالحها ومصالح حليفتها الأهم إسرائيل، فهي لم تعارض فعلياً سوتشي أو أستانا ولا فكرة المناطق الآمنة ولا الدول الضامنة، وبحجة محاربة الإرهاب، وضعت قوة عسكرية مهمة برمزيتها، ووظفت الفصيل المستعد لخدمتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مقابل وعود ما زالت تضعها في بازار السياسة المصلحية التي تخصها.

وبعد أن اكتملت فبركة كل المقدمات اللازمة، يعود الموضوع تحت مسمى اللجنة الدستورية إلى خيمة الأمم المتحدة، حيث النظام مجبر على الذهاب والمعارضة فرض أو اختير من يوافق على المضي في نمط الحل الذي يحصل، ولكن حقيقة، بتوافق أغلب الدول المؤثرة والفاعلة والمقررة في الشأن السوري، باستثناء إيران.

معلوم أن الحروب الأهلية تشكل فرصة لتدخل الدول الكبرى أو المجاورة في مجريات الأمور للدولة المعنية، لأن تلك الحروب تضعف سيادة الدولة وتحجم التماسك الداخلي، بالمقابل فإن انتصار طرف ما، يمكن أن يشكل تهديداً لأمن تلك الدول أو حتى للتوازن في المنطقة برمتها، ولكن ما حدث في الشأن السوري، بما كان عليه بداية كاحتجاج أو انتفاضة أو ثورة، قد تحول إلى حرب أهلية لأسباب منها التدخل الخارجي والتآمر أو الموافقة من الأطراف السورية.

كان لهذه المسرحية ألا تكون طويلة، ورغم أن الثمن كان وما زال باهظاً جداً، فالبكاء من قبلنا والتباكي من قبل الآخرين لم ولن يعد يجدي نفعاً.

نحن في جنيف بتركيبة لا تمثل كل السوريات والسوريين، وفي حالتنا، من الصعب الوصول لهكذا تمثيل قبل مضي سنوات من مرحلة هدوء وبناء، خاصة وقف الموت قتلاً واعتقالاً وتشريداً.

الثورة كفكرة هي من أدت إلى هذا المنتج (على تواضعه)، فلم يكن للنظام ولا للدول أن يعنيها تشكيل لجنة دستورية من أجل اقتتال بين نظام، كان يحقق توازنات مطلوبة من الدول الكبرى والإقليمية، وبين ما يقال إنها مجموعات متطرفة، في حين أن الثورة كحالة، تبحث عن تمثيل لها أضعناه وضاعت إمكانات وجوده، بعد كل ما حدث، ووجب البحث عن واجهة مع بداية أو بدايات لا تكون استمراراً للواقع الحالي.

إذا ما هي المواقف الممكن اتخاذها بما يتعلق بالنسبة للجنة الدستورية؟

كي ترفض المعارضة المشاركة في أعمال اللجنة، وجب أن تكون ممثلة بشكل حقيقي، مع خارطة طريق وقوة على الأرض تستطيع أن تطرح وربما أن تفرض الكثير من نقاط تم الاتفاق عليها. بالنسبة لمعارضتنا الحالية، فلا تحقق أي من هذه الشروط، ناهيك عن كونها شُكلت بتأثير مباشر من قبل الدول الفاعلة.

النظام، ولو ظاهرياً، يملك هامش من حرية التحرك ووحدانية وصلابة التمثيل، ولكنه في النهاية أصبح تابعاً بكل ما تعني الكلمة، لقرارات العامل الخارجي وخاصة الروسي، وللمواقف الدولية وخاصة أمريكا، ولعبه على تناقض المصالح بين الروسي والإيراني لا يرجح كفته إنما قد يجعله أكثر عرضة للأذية.

من هم خارج المعارضات المشاركة، والذين يرفضون كل ما يتعلق بنشأة ومسار وتشكيل وأعمال هذه اللجنة، وصولاً لتخوين المشاركات والمشاركين فيها وبغض النظر عن صوابية الموقف من عدمه، لا يشكلون ثقلاً حقيقياً، لا على الساحة الداخلية ولا الخارجية، ولا في علاقاتهم الدولية، ولا بوحدة صفهم، ولا حتى بوحدة صوتهم، والأهم أنهم حتى الآن لم يقدموا خارطة طريق (واقعية أو مقبولة أو عملية).

الكثير من الأسئلة طُرحت وستطرح، ووجب التوقف عندها والتفكير بها ومواجهتها:

في حال عدم المشاركة ماذا سيحدث؟ هل ستتوقف الدول الراعية أو المشاركة عن المضي قدماً نحو إيجاد الحل الذي يناسبها، وضمن ما تراه ممكناً؟

هل عدم المشاركة (من قبل جزء) يفقد اللجنة أهميتها واحتمال مضيها إلى الأمام؟


هل ستتوقف الدول وتنصاع لرغبة قوى غير مسلحة (إلا بالمبادئ) ومتشرذمة وأغلبها خارج الحدود، ومن ثم ستفرض الحل الذي تطرحه تلك القوى؟

هل الاستمرار في حالة الانتصارات العسكرية للنظام (دون القضاء على قوى تستغلها الدول الخارجية للعب أوراقها) بما هو واقع واضح، هو الحل؟

إذا كانت اللجنة الدستورية هي تنازل ما، بكل ما يحيط بها، فهل نقبل بالتنازل الآن وبعد كل ما حدث؟


هل الرفض وطرح العموميات والمبادئ كاف لإيقاف الحدث وتغيير الواقع؟


هل يجب أن يكون هناك حدود وخطوط حمر للتنازلات، ومن يضعها؟


هل تنتهي الثورة أو يضحّى بها من خلال المشاركة باللجنة الدستورية، وهل عدم المشاركة ينقذها؟


هل كتب على الثورة السورية أن يكون لها وجه أحادي لا يقبل لا بالخطوة الأخيرة مقدمة للخطوات الأخرى؟


ما هي الخيارات المتاحة أمام من يقف مدافعاً عن الثورة وأفكارها؟

بداية وجب أن نعترف أن الشعب والوطن السوري يعيش أسوأ المراحل وأخطرها، وهذا ينطبق على الجميع، نظاماً ومعارضة، أفراداً ومجموعات، مجتمعا وجغرافيا وكينونة.

المنطقي ألا يكون الموقف من اللجنة وعملها هو بين حدين، الرفض القاطع أو الاستسلام الكامل لمسارها.

إن اللجنة الدستورية ومهمتها، بما هي عليه من كونها أحد بنود القرارات الدولية، بترتيب مختلف يفرضه واقع الحال وعدم التوصل إلى اتفاق قادر على الحياة في الظروف الحالية، عدا عن كونها الأقل أهمية بين مكونات القرارات الدولية، وخاصة وقف الحرب، وقضايا المعتقلات/ين والمهجرات/ين، والانتقال السياسي الحقيقي، ستكون هزيمة أخرى إذا ما تحولت إلى محور للحل وليست وسيلة مساعدة.

إن شرط وجود وبقاء عمل اللجنة تحت مظلة الأمم المتحدة، هو الحد الأدنى لاستقلالية عملها، مع ضرورة البحث عن آليات أفضل لكل ما يدور حولها، نتائجها وتطبيق ذلك على الواقع.

نجاح اللجنة الدستورية بإنجاز ما أوكل إليها، لن يكون عاملاً حاسماً في رسم السياسات المهمة للحالة السورية، وهو مرتبط بالتطورات والضغوطات وليس برغبة المشاركين، وعلى وجه الخصوص طرف النظام، الذي سيحاول بكل ما لديه من إمكانات، تعطيل أو سحب اللجنة على خانة مصالحه، وفي ذلك انعكاس لرغبة الدول المؤثرة، وفشلها أيضاً.

في الممكن:
توحيد صف المتواجدات/ين في هذه اللجنة مع خطوط حمراء يمنع تجاوزها، وبمراقبة حثيثة وفعالة من قبل كل القوى المعارضة، بغض النظر عن موقفها من اللجنة، هو الاحتمال الأكثر واقعية والأقل سوءاً.

المعتقلات/ون والمهجرات/ون والمفقودات/ون، ومن ثم الانتقال السياسي، هي أمور لا يجب تحت أي ظرف المرور فوقها أو التنازل عنها، عندها يصبح الانسحاب هو الخطوة الوحيدة الممكنة كواجب وطني وأخلاقي وسياسي وثوري.

نحتاج لتكاتف كل قوى المعارضة الديمقراطية، وتشكيل لوبي باتجاه الجميع، وأولها باتجاه الوفد المعارض في اللجنة الدستورية، الاحتمالات الأخرى إيجابياتها محدودة جداً، وسلبياتها أكثر من أن تعد.

الحل، الذي اتفق بالعموميات حوله الطرفان الأهم في الشأن السوري، (أمريكا وروسيا)، لا يتطابق مع مصلحة أي منهما ويتعارض في بعضه أو أكثر، مع أطراف الصراع الداخلي، ولكنه يستطيع أن يكون المخرج الأقل سوءاً، بما يعني إمكانية العمل المستقبلي، أولاً للمحافظة على الوطن، وثانياً، استكمالاً لطموحات الناس بالدولة الديمقراطية المدنية العادلة.

الحلم يكون قبل وأثناء العمل وليس إحدى أدواته

من لديه مفاتيح الثورة والتغيير لن تمنعه لجنة دستورية ولا توافقات دولية من متابعة نضاله، بل على العكس سيجذب إليه طرداً، المزيد من الناس مع كل ما يقدمه لانتصار الفكرة، ويوجه مسار كل ما يحاك سياسياً حتى لو كان خارج إرادته.

عنبنا هو الحفاظ على الوطن، وفتح سبل أخرى للوصول بسوريا إلى دولة ديمقراطية، مدنية، وإنهاء الاستبداد بكل أقنعته.

البدايات لم تعد موجودة، ولكن من الممكن تجديدها. الطريق الذي اتبع بعدها (والأسباب كثيرة وتطال الجميع) كان فاشلاً وكارثياً.

لا نفع للناطور بدون عنبه، وسيستغنى عن خدماته، كلام يخص النظام ويشمل البقية.

*المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة