أصوات نسوية، مقابلة مع الطبيبة والروائية نجاة عبد الصمد
- updated: 26 يونيو 2025
- |
“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”
مقابلة مع الطبيبة والروائية نجاة عبد الصمد
إعداد: كبرياء الساعور
أهلاً بكِ نجاة،
نجاة عبد الصمد الطبيبة النسائية والروائية السورية ابنة مدينة السويداء، أصدرت العديد من الروايات والمرويات منها: بلاد المنافي، غورنيكات سورية، في حنان الحرب، منازل الأوطان، خيط البندول، لا ماء يرويها التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018، إلى جانب إبداعها الروائي قدمت العديد من الترجمات الأدبية، كما أسهمت في دراسات ومشاركات بحثية أثرت في المشهد الثقافي.
1- هل يمكن أن تحدثينا عن رحلتك الشخصية وأهم محطات حياتك، ودور البيئة الثقافية والاجتماعية في تشكيل رؤيتك الأدبية وتفاعلك مع قضايا مجتمعك؟
كما كلنا أبناء بيئاتنا، أيّاً كانت، إنما الفرق بيننا في الاجتهاد الفرديّ وفي الرؤية. وُلدتُ في الريف، وانتقل أبي بعائلتنا إلى مدينة السويداء لأبدأ مدرستي فيها. هذا الانتقال محطةٌ أولى، بذاكرةٍ ثريّةٍ بمنمنمات الريف إلى مدىً أوسع في المدينة، يضاف إليه اغترابي باكراً، بعمر 18 سنة، لدراسة الطبّ خارج سوريا، ثم تعلّم الطبّ نفسه والشغل فيه، ثم هجرتي الأخيرة إلى ألمانيا قبل سبع سنين.
أنظر الآن إلى الخلف، أنتبه إلى حظّي العظيم بمعلماتٍ تولّين تربيتي وتعليمي منذ الابتدائية. فيما بعد، كل ما صرتُ إليه بدأ بشغف القراءة، المنهاج المدرسيّ، وتثقيف الذات على التوازي، حتى أصبحتْ قراءاتي دليلي إلى كل خطوةٍ تالية. هي القراءة ذاتها انتقتْ لي زوايا رؤيتي لبيئتي نفسها، ألا أكون فيها مجرد متلقية، على قدر حبي لها لا أتأخّر في الإشارة إلى خللٍ ما أراه فيها، أتدرّب على امتلاك الشجاعة لقوله، أثير الأسئلة، أقلقل الراكد.
2- في حوار معكِ على موقع الجمهورية نت بعنوان: “كيف حال المرأة الدرزية اليوم“؛ ذكرت “ثورة الكرامة كانت خطوة كبيرة قفزة على طريق وعي النساء والرجال أيضًا لم تظهر نتائجها على الأرض، إنما ولابد لن تتأخر“ كيف رصدت بعين الروائية أثر الثورة على النساء السوريات؟
للمرأة عموماً عينٌ لمّاحة، وبصيرةٌ تعثر على مفتاح الخروج من كل مأزق، وأبهى ما تظهر مهاراتها في الأزمات أو الثورات أو الحروب، ابتداءً من طفلات المدارس، اللواتي لم تعد خرجيتهن تكفي لشراء كيس شيبس، لم يحرمن أنفسهن منه، أصبحت ثلاث أو أربع بنات يتقاسمن الكيس الواحد، يأكلنه حبّةً فحبّةً بالدور، ويتظاهرن بأنهن شبعن لتترك الواحدة منهن الحبة الأخيرة لباقي رفيقاتها. هو تدريبٌ رفيعٌ للنفس على الانضباط وعلى التشاركية، وعلى عدم الكفّ عن الحلم. وصولاً إلى نساءٍ سيّرن حياتهن وحياة عائلتهن وكثيرٍ غيرها، ووحدهن، في غياب الرجال، ربّين أبناءهن وكفلن أيتاماً كثيرين، وليس في جيوبهن ما يكفي سوى لشراء ملعقة أو اثنتين من زيت الذرة أو عبّاد الشمس (لا زيت الزيتون) (لتقلاية الطبخة)، أو ملعقة لبنٍ لفطور العائلة… هي حكايات أهل القاع، ملح الأرض، خميرة بلدنا وكل بلد، هي التي وثّقتُها في ثلاثة كتب، مرويات.
3- كتبت مراجعة لكتاب غرفة تخص المرء وحده لفرجينيا وولف الذي يعتبر أحد النصوص المرجعية عن الاستقلال والإبداع النسوي، ما هي العقبات التي تواجهها الأديبات في مجتمعنا في ظل الضغوط الاجتماعية والسياسية، والقيود على حرية التعبير والنشر والتحيز ضد النساء، فضلاً عن ضيق المساحات الثقافية؟
لنفترض أننا على درايةٍ بهذه الضغوط والقيود التي ذكرتِ، بمختلف أشكالها، فجميع المنابر المتخصّصة بهذا الشأن تحكي عنها. وهي بالمناسبة قيودٌ لا تستثني الرجال، إنما بالتأكيد تضيّق الخناق على النساء أكثر، يُضاف إليها التحيز ضدّهن، كذلك ضيق المساحات الثقافية في بلدنا عموماً. سأترك لنفسي في الإجابة هنا أن أتوقف فقط عند القيود في داخل المرأة نفسها، التي تحتاج، أول ما تحتاج، إلى الفكاك منها. أي إلى مهماتنا تجاه أنفسنا، وسوف أبني في جوابي على خلاصات فرجينيا وولف في زمنها، وأضيف إليها ما أراه جوهرياً في ظرفنا الحاليّ:
أفترض أنّ وولف، بمقولتها أنّ المرأة، ولكي تكون كاتبةً، لن تستغني عن غرفةٍ خاصةٍ بها و500 جنيهاً في العام كدخل شخصيّ، إنما قصدت امتلاك المرأة لمساحتها الخاصة واستقلالها الماديّ.
هذه شروط العمل، وهي تخضع للمعوقات المذكورة أعلاه. إنما هل هي المعوقات الوحيدة؟
بالتأكيد لا. تحتاج المرأة كذلك إلى إدارة مشروعها، الذي يبتدئ بأن تأخذ نفسها على محمل الجد ككاتبة!
فحتى لو امتلكت الغرفة والدّخل، أي انزاحت عنها المعوقات الخارجية، فعليها امتلاك القدرة على اختيار قفلٍ لغرفتها، وأن يكون مفتاحه بيد المرأة نفسها، لا سواها أيّاً كان. أي أن تؤمن بنفسها أولاً، وأن تمتلك سلطة التفكير كي لا تكتب إلا قناعاتها، وتتحلى بالشجاعة لكتابة ما تؤمن به. كذلك تحتاج إلى تحديد أولوياتها، وأولها إعطاء الكتابة فرصة الوقت الكافي لإحقاقها، أن تضعها في أولى مرتبات أولوياتها، وتنغمس فيه دون أن يقاطعها أحدٌ أو شيء، ألا تمنعها المعوقات من الحلم واقتفاء الإلهام. ألا يمنعها من الحلم سوى الموت.
وثانياً: تحتاج أن تعرف ماذا وكيف تقول! أي امتلاك الأدوات لأدبٍ يضيف قطرة إلى بحر الأدب الإنسانيّ، أدب يوقظ تيار الوعي، يفصح للإنسان عن الكيفية التي يتوصل فيها إلى أفكاره، وهذا هو الأدب المُجدي على المدى البعيد.
4- في روايتك “لا ماء يرويها” تناولت العوالم الداخلية للمجتمع الدرزي عبر سرد عميق ومؤثر، وتحليل انثروبولوجي ثري حيث استعنت بحكايا الجدات لتوثيق التاريخ الشفهي ومصائر النساء في ظل منظومة اجتماعية صارمة، كما حمل عنوان الرواية دلالات رمزية عن العطش للحرية والحب ليصبح الماء استعارة لعطش أعمق كيف استطعت الموازنة بين الصنعة الروائية ورؤيتك المعرفية والفكرية للواقع المعاش؟
ذلك هو فنّ الرواية، إما أن يكون أو لا يكون، والموازنة بين الرؤية المعرفية والصنعة الروائية هي إحدى أهم أدواته!
5- يرى بعض النقاد أن النص الأدبي مفتوح على التأويل بحيث يصبح القارئ/ة شريكاً في إنتاج المعنى، في رواية لا ماء يرويها التي تميزت بلغة شعرية وسرد متداخل يمنح النص مستويات عدة للفهم، مما يفسح المجال لقراءات متنوعة، كيف تنظرين لدور القارئ/ة؟
لولا القارئ/ة، لما كان اكتملتْ ولادة أيّ نصّ. أولى لحظات الحياة الفعلية لأيّ عملٍ أدبي، ليست في اكتمال كتابته، إنما منذ لحظة لقائه بأول قارئ/ة…
6- بعض الكتاب/الكاتبات لديهم/ن طقوسهم الخاصة للكتابة، فالروائية “ايزابيل الليندي” على سبيل المثال لديها طقس صارم حيث تبدأ الكتابة في 8 كانون الثاني/يناير من كل عام وتنعزل عن العالم لتتفرغ للكتابة، كيف هو الحال معك عندما تحضرين لعمل جديد؟
لا يحضر العمل الجديد عندي بين يومٍ وليلة. تجول فكرته وشخوصه في الرأس لسنين، إلى أن تتبلور الفكرة وينقشع الضباب عن شخوصه. روايتي الأخيرة التي ستصدر خلال وقتٍ قريب بدأتُ بكتابتها عام 2012، وجاء بعدها خمسة أعمالٍ بينما هي تنضج على مهل، وكنت خلالها أُربّي شجاعتي كي أقول ما أريد قوله كما هو داخلي، ولم أشعر بهذه القدرة في داخلي قبل السنوات الثلاثة الماضية، منذ التزمتُ بكتابتها كفعلٍ يوميّ. أستطيع القول أنّ طقسي الوحيد الثابت هو الانضباط والاجتهاد. أنا كائنٌ صباحي، ذهني أصفى ما يكون صباحًا. أجلس إلى طاولتي لساعاتٍ متوحّدةً مع شخوصي ولغتي… قد أنجز فصلاً كاملاً في يوم، وقد تشغل جملة واحدة فكري لأسبوعين أو أكثر. من بعد نضوج الفكرة، أو ما نسميه المقولة الكبرى لكل رواية، فالرواية بالنسبة إليّ هي فنّ الصبر، فنّ الصنعة، وفنّ مغازلة اللغة.
7- انشغلت بقضايا النساء وعبرت عن اهتمامك بالاستماع إلى النساء، مؤكدة أن رواياتهن تكشف عن ظلم غير مرئي. هل تعتقدين أن الأدب يمكن أن يكون أداة لمقاومة التهميش الاجتماعي والسياسي للنساء؟
من دون أدنى شكّ. وليس للنساء وحدهن. أثر الأدب بطيء لكنه مستدام، ولا أتخيل حياةً أيّ حياة يغيب عنها الأدب.
8- هل أثرت تجربة المنفى على أعمالك الأدبية، حيث اضطررت لتعلم لغة جديدة وخوض تحديات العيش في مكان جديد؟ وهل كان لها دور في إعادة تشكيل علاقتك بالسرد والهوية؟
بالتأكيد، كل تجربةٍ نحياها، بحلوها ومرها، بنجاحها وخساراتها، هي جزء مهم من رصيدنا الإنسانيّ. لعلّ تجربة الاغتراب عموماً، والقسريّ منه خصوصاً، شديدة القسوة! وهي بالمناسبة مهما تشابهت لدى البشر، تبقى فرديةً في طريقة تلقّيها وآثارها. سأحكي فقط عن تجربتي الشخصية: أنا أعشق السفر، بشرط أن أختاره. سبق وسافرتُ في رحلاتٍ لا تحصى وكنت أخرج وأعود باختياري. ارتحالي الأخير إلى ألمانيا كان قسرياً، بدا لي أشبه بموتٍ صغير، فأنا لم أختر وجهتي ولا أعرف إن كانت لي منها عودةٌ أم لا. وهذا الاقتلاع لم يكن جغرافياً فحسب، بل ومعه ضعضعةٌ لكثيرٍ من أجزاء هويتي. مع الوقت وتعلّم اللغة الألمانية والعمل لسنوات، لم تعد الحياة في مكاني الجديد بهذه الوطأة، لكنها لن تكون أبداً طبيعية كما كانت في أرضي الأولى. والحنين الذي نظنه يخفت مع الوقت، لم يكن في واقع الأمر كذلك، كان يستشري مع كل صباحٍ جديد. ولولا الكتابة لربما انتهيتُ إلى مصيرٍ ليس (لطيفاً) أبداً. في تجربتي: عجزتُ عن تخطّي شجن الحنين، أقصى ما استطعتُ: مقاومته بالذاكرة واللغة. صارت الكتابة وطناً بديلاً في المنفى. وبالمقابل، فهذا المنفى الذي سلب مني الكثير، أعطاني الكثير أيضاً. منحني فرصة الالتفات إلى أعماقي والتنقيب فيها، أن أستعيد صلتي بجذوري وأتعرّف إلى ذاتي، كإنسان، وكامرأة. من هنا تغيّر سردي، تغيرت زاوية رؤيتي لظاهر الأشياء وباطنها، صار يشغلني الإنسان ومعاناة البشر في كل مكان وليس في بلدي وحده. وأعتقده ظهر جزئياً في روايتي الأخيرة “خيط البندول”، لكنه كليٌّ، كما أعتقد، في روايتي الأخيرة التي ستصدر قريباً جداً
9- هناك نقد نسوي تجاه بعض الممارسات الطبية في مجال طب النساء نظرًا لوجود تحيزات ثقافية لدى بعض الأطباء والطبيبات تقلل من أهمية شكاوى النساء وتهمل صحتهن النفسية. ماهي رؤيتك كطبيبة نسائية لمناهضة العنف الطبي ضد النساء، لتعزيز وعيهن بحقوقهن الصحية، ولضمان بيئة طبية تستجيب لاحتياجاتهن النفسية والجسدية؟
هذا النقد محقّ. وهذا الإهمال لا يطال صحة النساء الجسدية والنفسية فحسب، يطال جميع الفئات وجميع المناحي في غياب دولة القانون وغياب العدالة الاجتماعية، إنما وللأسباب ذاتها يطال النساء أكثر من غيرهن. أفترض أنّ بداية الحل في الاشتغال على المستوى السياسيّ بإحقاق دستورٍ يكفل حقوق الجميع في دولة القانون، وعلى المستوى الميدانيّ: مشاريع التنمية المجتمعية الشاملة، أولها الاشتغال على رفع الوعي في جميع المناحي ولدى جميع الفئات، ابتداءً، ودوماً، بالمرأة!
10- في “غورنيكات سورية” كتبت مرويات عن الوجع السوري، عن صبر النساء السوريات اللواتي لم ينحنين أمام الثكل والفقر والتهجير. هل تجدين أن الكتابة في زمن الحرب تمنحك تفاعلاً مباشراً مع الألم أم أن المسافة الزمنية بعد الحدث تسمح بتحليل أعمق أو النظر من زاوية مختلفة، ما هو رأيك بالكتابة أثناء الحرب؟
لا تستشيرنا الكتابة متى تأتي، ولا تكترث لأزمان الحرب أو السلم، تقلقل رأس صاحبها/صاحبتها متى شاءت، ولا مواعيد واضحةً لها، ولن تكون. ثمة مفارقةٌ لافتة: في أوقات الحرب بالتحديد تُهدَم معظم أركان الحياة، إلا الأدب، يزدهر في الحروب. شيطان الحرب يرفد الكتابة بكل الأفكار الممكنة، وقد تفوق فداحةُ أحداثها كل خيالٍ روائي. إنما لا يُكتب معظمها في أوانه، قد تأتي على شكل قصائد أو قصصٍ أو مرويات. أما الرواية بالتحديد فالكاتب/ة يحتاج مرور وقتٍ طويلٍ كي تتخمّر الأفكار في رأسه ليمكنه نقلها بقلبٍ حارّ وعقلٍ بارد.
11- كان لحب الكتب والقراءة منذ الطفولة دور جوهري في حياتك، هل يمكن أن تحدثينا عن بعض الكتب التي كان لها تأثير عميق في تطور وعيك الفكري والأدبي؟
لن أستطيع إحصاءها، سأمرّ فقط على بعضها، وأفترض هما ما شكّل وجداني كما نمّى فيّ الوعي الفكريّ والأدبي منذ الطفولة ثم صعوداً في الحياة: البجعات المتوحشات، نساء صغيرات، الأمير الصغير، كوخ العم توم، ذهب مع الريح، نجيب محفوظ وحنا مينا في كثير من رواياتهما، معظم روايات ايزابيل الليندي، دوستويفسكي في كل ما قرأتُ له، أمين المعلوف في كل ما كتب، وقد قرأته وأظلّ أعيد قراءته. نيكوس كازانت زاكي، ليس بالتحديد زوربا، أهم منها عندي: (تقرير إلى غريكو والمسيح يصلب من جديد). يوكية ميشيما الياباني في رباعية الخصوبة. فاطمة المرنيسي بكتبها عن النساء والحريم. كتب آذر نفيسي الثلاثة: (أشياء كنتُ ساكتة عنها، أن تقرأ لوليتا في طهران، جمهورية الخيال). ماريو بارغاس يوسا، أيريكا يونغ (الخوف من الطيران، الخوف من الخمسين) وكثيرٌ كثير غيرها…