أصوات نسوية، مقابلة مع الصحفية ألمى عنتابلي

 

“أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري”

مقابلة مع الصحفية ألمى عنتابلي

إعداد: كبرياء الساعور

 

أهلاً بكِ ألمى،

 

1- ألمى مصطفى عنتابلي؛ صحفية ومذيعة سورية، بدأت العمل في الصحافة الإمارتية ثم موقع العربية نت كمحررة أخبار، وفيما بعد مذيعة في قناة العربية وقناة سكاي نيوز العربية، هل يمكنك مشاركتنا قصة بداياتك وأبرز المحطات في حياتك الشخصية والمهنية؟

في طفولتي المبكرة في بيتنا الأليف في اللاذقية كانت الكتب والتلفزيون نوافذي على العالم، مع كفة راجحة في كثير من الأحيان للتلفزيون بأضوائه وألوانه وشخوصه، التي ثابرت يوماً بعد يوم على خلق السحر في عيني وخيالي. من أفلام الرسوم المتحركة العالمية والنادرة التي كان يأتي لي بها عم أمي، إلى الأفلام والمسرحيات والأوبرات – أتذكر حتى اللحظة كيف كنت أتسمر أمام الشاشة، ولم أكن قد تجاوزت الخامسة، أتابع ملامح وحناجر المغنين/ات والراقصين/ات في أوبرا كارمينا بورانا لكارل أورف بنسختها المتلفزة التي أخرجها جان بيير بونيل عام 1975 لصالح التلفزيون الألماني ZDF، حتى اللحظة أذكر مشاهد بحذافيرها وتفاصيلها- مروراً ببرامج الأطفال على القنوات اللبنانية والمصرية التي كنا في الساحل نلتقط بثها، حيث تشكلت عوالمي المفضلة. كذلك منذ البدايات كانت الأخبار والبرامج السياسية حاضرة في مساءاتنا، في ذاكرتي حتى اليوم موسيقى شارة الأخبار على شاشة LBC اللبنانية، والموسيقى التي كانت ترافق فقرة “كاريكاتور بيار صادق” بعدها. كان التلفزيون بالنسبة لي سحراً خالصاً وكانت مرآتي شاهدة على أحلامي المنطلقة من حبي لهذه الشاشة البهية، لطالما تخيلت مرآتي شاشة أقف أمامها تارة كممثلة وتارة كمراسلة أو مذيعة إخبارية، وفي لحظات أخرى راقصة أو مغنية. مع حرب الخليج الثانية وظهور الـ CNN وبعدها بسنوات الجزيرة، ترسخت صورة التلفزيون كفضاء آسر لفتاة صغيرة تؤمن بقيم كبرى وبإمكانية تغيير العالم. ويوماً بعد يوم بات الحلم -بل أستطيع القول بات نوع من اليقين غير الواعي- يتشكل، بأن الشاشة ستكون بانتظاري.

مع اقترابي من إنهاء الثانوية العامة، بدأت كفة التمثيل ترجح في قلبي أكثر، لكن ظروفاً عديدة حالت دون ذلك، فكانت الوجهة الصحافة والإعلام.

درستُ الإعلام في جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات، وتخرجت عام 2005. تدربت بعدها في المؤسسة العربية للصحافة، التي كانت تصدر حينها بعض أبرز المجلات في الإمارات والخليج. بعدها حاولت مراراً ولوج عالم التلفزيون ولكن محاولاتي كانت تبوء بالفشل مراراً وتكراراً، كان الأمر بالغ الصعوبة قبل عقدين من الزمن، لم يكن سهلاً على شابة متخرجة حديثاً ومن دون خبرة ولا شبكة علاقات واسعة أن تحظى بفرصة، على عكس ما نراه اليوم، حيث الشباب هم الفئة المسيطرة والمرغوبة في الإعلام، والفرص المتاحة أمامهم هائلة سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو في السوشال ميديا والمنصات المتعددة، ناهيك عن محدودية القنوات التلفزيونية حينها. ففي الإمارات، لم تكن هناك سوى قناة أبوظبي وبعض القنوات المحلية. أما انتقال MBC من لندن إلى دبي، وافتتاح قناة العربية، فقد جاء قبل تخرجي بعامين فقط.

هكذا إلى أن جاءتني فرصة غير متوقعة؛ تواصلت معي قريبتي لتحدثني عن فرصة علمت بها عبر أصدقاء في قسم الإعلام الجديد في MBC، فريق التحرير هناك كان بحاجة لشخص متعاون لمدة شهر، لم آخذ الأمر على محمل الجد بداية، حتى تلقيت اتصالاً بالفعل من مدير الفريق وخضعت لاختبار، وقُبلت، وعملت شهراً واحداً. بعد فترة قصيرة، استدعوني مرة أخرى لعمل مؤقت امتد لثلاثة أشهر.

قبل ذلك، كنت قد التحقت بعدة دورات تدريبية في معهد الجزيرة للتدريب الإعلامي، وكنت من أوائل دفعات المعهد. وحينها حصلت على فرصة تدريب في غرفة أخبار الجزيرة، لكن الأمر لم يكتمل في وقتها. بعد انتهاء الأشهر الثلاثة في MBC، عاد موضوع التدريب في الجزيرة ليُطرح من جديد. لكن في اللحظة نفسها جاءني عرض عمل دائم من MBC. كان عليّ أن أختار: البقاء في دبي مع فرصة عمل مؤكدة، أو المضي في مشروع تدريب قد لا يكتمل. اخترت البقاء.

عملت لعامين في العربية نت وخدمة الأخبار العاجلة من العربية، قبل أن تأتي صدفة أخرى غيرت مساري. كنت قد بدأت التفكير جدياً في الظهور على الشاشة، فجاءت فرصة لاختبار شاشة في قناة العربية. لم أكن أعلم أن أي اختبار هناك يُعرض على الإدارة العليا، لكن الأمر حدث، وتابعه كبار مسؤولي القناة، فوجئت باستدعائي من قبل د. نبيل الخطيب، مدير الأخبار حينها (وهو اليوم المدير العام لقناة الشرق): “نريدك مذيعة معنا. نراك على شاشتنا. نحن نطلق قسم الطقس والمناخ الجديد ونحتاج لمعدة ومذيعة”.

في المقابل، عرض علي أحد رؤساء تحرير القناة أن أبدأ العمل كصحفية ومنتجة في نشرة التاسعة التي كانت نشرة القناة الرئيسية حينها. تركا لي الخيار. ورغم مقاومتي ورفضي لفكرة الظهور على الشاشة كمذيعة للطقس إلا أن نصيحة د. نبيل، الذي كان بحق “عرّابي” في التلفزيون، كانت كفيلة بتغيير رأيي، وما تزال حتى اليوم حية وحاضرة في ذاكرتي: “اقبلي هذه الفرصة، فالظهور الأول على الشاشة سيفتح أمامك أبواباً كثيرة لاحقاً، أهم مذيعي/ات العالم بدأوا من النشرات الجوية، ونحن نطلق نشرة غير تقليدية، وستكون لك فرصاً مهمة أخرى في القناة بمجرد أن تثبتي نفسك”. وبالفعل، صدق في وعده.

خلال عامين في غرفة أخبار قناة العربية، استطعت أن أنتقل بسلاسة بين عدة أدوار كمذيعة وصحفية ومعدة. عملت على إعداد تقارير يومية تُبث في نشرات الأخبار، بالإضافة إلى تقارير معمّقة لبرامج تحليلية على شاشة القناة. كذلك توليت لفترة تقديم واحد من أهم البرامج الصباحية في العالم العربي “صباح العربية” برفقة الزميلين العزيزين “محمد أبو عبيد” و”راوية العلمي”. كما شاركت في إعداد وتقديم برنامج مميز في حينه، كان يتناول أبرز الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان “دراما رمضان” برفقة زميليّ العزيزين “جميل ضاهر” و”راوية العلمي”، وكنت جزءاً من خطط إطلاق برامج أخرى، لكنّ اندلاع الربيع العربي علّق كل شيء. توقفت البرامج، وأصبحت الأخبار هي المحور الأساسي على مدار الساعة. ومع إطلاق قناة العربية الحدث، سنحت لي الفرصة لتقديم مواجز إخبارية، قبل أن تبدأ انطلاقتي الحقيقية في تقديم التغطيات الإخبارية والبرامج السياسية لاحقاً من خلال محطة جديدة: سكاي نيوز عربية.

في فبراير 2012، التحقت بالفريق التأسيسي لسكاي نيوز عربية في أبوظبي، وشاركنا في إطلاق القناة في أيار/مايو من العام نفسه. ومنذ انطلاقتها، كنت من الوجوه الرئيسية على الشاشة. رغم صعوبة الأخبار والعمل في مجالها والاحتراق المهني والنفسي الذي يرافقها، خاصة كوني أنحدر من بلد تحتل حربها ودماؤها العناوين، إلا أني ممتنة لتجربة جعلتني دائماً في قلب أحداث كبرى وحاسمة في رسم شكل عالمنا. استمرّت رحلتي هناك حتى عام 2017، حين اخترت أن أرحل إلى فرنسا لبدء فصل جديد من حياتي، بحثاً عن الاستقرار والمستقبل. فرغم نشأتي وحياتي الممتدة في الإمارات، إلا أني امرأة سورية، وهو ما كان يضع دائماً فكرة الاستقرار المستقبلي على المحك، خاصة مع تعقد المشهد في البلد، وترسّخ القناعة في تلك اللحظة بأن بشار الأسد باقٍ على الأقل لأجل غير مسمى. كان لا بد لي من اتخاذ قرار مجنون. وهكذا، انتقلت إلى فرنسا كلاجئة سياسية.

بدأت العمل بعد أشهر قليلة من وصولي فرنسا -بمجرد حصولي على أوراق إقامتي القانونية-  في شبكة يورونيوز الدولية، في القسم العربي. في الوقت نفسه، خضت تجربة مختلفة لأول مرة في منصة إعلام بديل مستقلة هي شبكة كيرنينغ كالتشرز Kerning Cultures للبودكاست، التي كانت من أولى شبكات البودكاست العربية الرائدة، والتي انطلقت باللغة الإنكليزية أولاً في عام 2016 وأطلقت برامجها بالعربية عام 2019، قبل تعثرها مالياً وتعليق عملياتها في 2023. كانت هذه التجربة أجمل وأغنى تجاربي المهنية.

في نهاية 2023 بدأنا تجربة بودكاست سورية خالصة مع بودكاست “عيون الكلام”، والتي أعتبرها تجربة مدهشة كذلك، أضافت لي الكثير وعرفتني على أوساط سورية كثيرة وعرفتهم عليّ بشكل لم أعهده من قبل، كوني لم أعمل في الإعلام السوري سابقاً ولم أختص بالشأن السوري.

حالياً أنا بطور التحضير لخطوات مهنية جديدة وتحقيق بعض الأحلام القديمة التي لم تجد فرص التحقق حتى اليوم.

 

2- بصفتك الحفيدة الكبرى للمفكر والمناضل عبد الرحمن الكواكبي، هل كان لهذا الإرث الفكري أثر على بناء وعيك وتوجهاتك، اهتمامك بالشأن العام وعملك بالإعلام؟

بدايةً، أود أن أُميّز بين أمرين: الفخر والامتنان. هناك كثيرون يفخرون بنسبهم أو بانتمائهم إلى عائلات تضمّ رموزاً معينة. بالنسبة لي لم أشعر يوماً بالفخر بالمعنى التقليدي للكلمة، ببساطة نسبي أمر لم يكن لي فيه أي يد، فإذاً هو ليس إنجازاً شخصياً، وبالتالي لا يمكنني لا الفخر ولا المفاخرة به، القدر وحده أو الحظ، هو من جعلني ابنة لهذه العائلة. في الوقت نفسه في روحي امتنان هائل لكوني حفيدة هذا الرجل العظيم. أفكار عبد الرحمن الكواكبي كانت دائماً حاضرة في حياتنا، في القضايا الكبرى كما في التفاصيل الحياتية البسيطة اليومية. كان حاضراً معنا بروحه وقيّمه وذكراه، كما بصوره المعلقة على حيطان بيوتنا. كان حاضراً في أحاديث جدي وأعمام أمي عنه، حاضراً في محاولتهم إبقاء إرثه حياً دائماً في حياتهم وحياة أبنائهم وأحفادهم، وفي تاريخ وحياة مدينتهم العظيمة حلب.

أفكر اليوم بثوراتي الشخصية على الاستبداد، التي زرع هو بذرتها بداخلي، ثورتي على استبداد نفسي ومحاولاتي الدائمة لترويضها، وثورتي على جهلي بسعيي الدائم للمعرفة التي كلما زادت أدركت نقصانها، ثورتي على ما أحمله ربما من غريزة قد تعينني في لحظة ما على ممارسة أي نوع من الظلم. كوني حفيدته حملني مسؤولية مضاعفة كي لا أحيد عن طريق الحق ما استطعت، وأبقى في بحث دائم عن المعرفة والعدالة. طيفه الحائم في مداري دائماً ألغى عندي أي قدرة على الخنوع أو الرضوخ. آمنتُ بالحرية منذ بدايات تكوّن أفكاري، وكان التمرد بالنسبة لي وسيلة حياة؛ تمرّدتُ على أسرتي في مواقف كثيرة، وتمردتُ على المجتمع وعلى أنماط اجتماعية لم أرها عادلة. ولعلّه هو من دفعني، حتى لو بطريقة غير واعية، نحو خيارات عديدة في حياتي، دراستي وعملي إحداها. 

ورغم حضوره الطاغي في حياتي الخاصة، فلم أسع يوماً لجعل هذا الحضور عاماً، أؤمن بأن لكل إنسان فرادته وشخصيته ورحلته، وأنا شخص مختلف اليوم يعيش بفارق أكثر من قرن عنه، أمتن له وأشتاق له وكنت أتمنى لقاءه، لكني فخورة بما حققت وأنجزت كألمى وليس كابنة أو حفيدة فلان… هناك سؤال شهير، ينصح بطرحه خلال بدايات التعارف بين الناس، عن شخصية ما نوّد لقاءها وتناول العشاء معها مثلاً؛ من المؤكد أن جوابي سيشمل جدي الأكبر، لدي الكثير لأحكيه له ومن المؤكد أنه كان ليكون لديه الكثير ليحكيه لي. 

 

3- انتقل الحراك النسوي في سوريا مع بدايات الثورة من نضالات فردية أو مجموعات صغيرة إلى فكرة التغيير الاجتماعي والسياسي، كيف تقيمين دور وفاعلية النضال والعمل النسوي في سوريا بعد مرور أكثر من عقد؟

لأكون شفافة تماماً، خلال سنوات طويلة منذ بداية الحراك السوري لم أكن على تماس مباشر مع الحراك النسوي، ولم أتابعه بكل تفاصيله. وحتى اليوم لا أستطيع الادعاء بأنني شخص منخرط أو متابع لكل خفاياه. بالنسبة لي، كان الملف النسوي جزءاً من ملفات عديدة أتابعها، خاصة وأن عملي لا يقتصر على الشأن السوري وحده، بل يمتد إلى بلدان وقضايا متعددة.

ومع ذلك، لا يمكنني إلا أن أعبر عن فخري بما حققته النساء والنسويات السوريات، ليس فقط منذ بداية الثورة وإنما منذ أكثر من قرن. 

إذا تحدثنا عن ما تغير بعد الثورة، فكان ملحوظاً انتقال العمل النسوي من الجهود الفردية ومحدودية الوصول والتأثير ضمن دوائر مغلقة ونخبوية إلى حد كبير، إلى عمل أكثر حضوراً وتنظيماً وانتشاراً في إطار حركات ومبادرات وشبكات وتيارات واسعة، وشموله لأجيال جديدة من السوريات. أصبح صوته أعلى وبات خطابه عن المساواة والعدالة والتغيير والتقاطعية أكثر نضجاً وخبرة ووضوحاً، رغم كل العقبات من قمع وحرب وعسكرة وتهجير ورفض وغياب البنى المؤسسية وضعف التمثيل.

لكن مؤكد أننا ما نزال نشهد كيف يتفاوت تأثير الحراك بين الداخل والمنافي، وما بين النظري والعملي، لأسباب أعتقد أنها معلومة، تتعلق بظروف الثورة والحرب وتركيبة المجتمعات السورية الاجتماعية والفكرية والدينية، وكذلك أجندات التمويل الخارجي وفرص استدامة عمل المنظمات أو التيارات، ومدى إمكانية تحقيق الأثر التراكمي سواءً في العمل أو المعرفة، ومطبات أخرى تتعلق أحياناً بسياسات المنظمات والمبادرات وخطابها وأعضائها/عضواتها.

أرى في اتهام الكثيرين للحراك النسوي السوري بأنه عمل نخبوي منفصل عن واقع السوريين والسوريات، متفوق اجتماعياً وثقافياً ومعرفياً ولا يراعي دائماً الفوارق الاجتماعية والتعليمية والثقافية والطبقية -سواءً من خلال الخطاب أو المنهج وآليات العمل-  أمراً محقاً أحياناً، لكنه مجحف حقاً في أكثر الأحيان، خاصة مع ما قدمته الكثير من المنظمات النسوية في الداخل التي عملت مع النساء السوريات وجهدت في تمكينهن ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وما حققته النسويات السوريات من حضور في الفضاء السياسي وتصديهن لملفات حيوية جداً كملف المفاوضات والانتقال السياسي والمعتقلين/ات. 

في النهاية كل الانتقادات والمطبّات التي وقع فيها العمل النسوي السوري، ووقعت فيها بعض النسويات أيضاً، هي أمر طبيعي وصحي ومطلوب؛ فمن لا يعمل لا يخطئ. والخطأ في حد ذاته مؤشر على وجود تجربة حية، وعلى تراكم المعارف، وعلى القدرة المتجددة على التعلم من الخطأ وخلق خطابات تتناسب مع تجربتنا السورية. يحتاج السوريون والسوريات اليوم إلى النظر إلى الحراك النسوي بعين أكثر عدالة وأكثر انفتاحاً تجعله يتبوأ مكانه كحراك يسعى لخلق حياة أفضل للجميع في ظروف أكثر عدالة، والكف عن شيطنته وشيطنة النسويات وإعادة إنتاج صور نمطية سيئة ومغلوطة وكاريكاتورية عنهن.

أتابع بأمل وسعادة عمل أجيال جديدة من الشابات السوريات، اللواتي أصبح لبعضهن حضور لافت في المشهد السياسي والنسوي، سواءً اتفقنا معهن أو اختلفنا.

الطريق ما يزال طويلاً، رغم المؤشرات الإيجابية، التي من أبرزها اليوم الاعتراف بوجود النسوية والنسويات ككتلة وازنة، حتى وإن كان ذلك من خلال الهجوم الدائم، وهنا لا أرمنس هذا الهجوم نهائياً، ولكن كما قلت هو دليل على الوجود والحيوية، فللأسف الاغتيالات المعنوية التي تتعرض لها النساء في المجال العام، ومحاولات إقصائهن المتزايدة من بعد سقوط النظام هي أمر واقع اليوم، علينا أن لا نسمح باستمراره ولا التطبيع معه. المطلوب أن يكون تمثيل النساء في المجال العام فعلياً وحقيقياً، لا مجرد مظهر أو استكمال شكلي للصورة الكلية، وأن يصلن إلى المواقع التي يستحققنها عن جدارة، بفضل التضحيات الهائلة التي بذلنها، وبفضل العمل الطويل الذي قدمنه لسنوات وتفوقن فيه.

 

4- برأيكِ ما هي التحديات التي ستواجه العمل النسوي في المرحلة الحالية بعد سقوط النظام من أجل تحقيق المساواة والعدالة؟

كما ذكرت في الإجابة السابقة، اليوم هناك حرب حقيقية على النساء ووجودهن في الفضاء العام في ظل تغول ذكوري للسلطة الانتقالية الجديدة، على مستوى الفكر والممارسة، فالصراع اليوم وجودي بالدرجة الأولى. كل هذا مضاف إلى طبقات من ضعف قدرة البنى المؤسسية على ضمان حقوق الطبقات المهمشة وعلى رأسها النساء، والإرث الثقافي والاجتماعي الذي يرسّخ أدوار وصور النساء النمطية، ويستدعي عملاً توعوياً عميقاً وممتداً. هناك تحدي الوقوف في وجه تهميش النساء في العمل السياسي وخطط إعادة الإعمار بحجة الأولويات الوطنية والاستقرار الأمني، ومواجهة محاولة تصوير قضايا النساء دائماً على أنها قضايا ثانوية وفئوية أو قضايا قابلة للتأجيل. اليوم يعاد إنتاج وترسيخ البنى الذكورية داخل مؤسسات الحكم الجديد بشكل أكثر خطورة مما كان سابقاً، بشكل يتقصد احتقار مبادئ العدالة الإنسانية والوطنية والجندرية. أما على مستوى الحراك النسوي نفسه، فأعتقد أن التحديات قد تكون هي نفسها ما ذكرته في إجابة سابقة: التشتت بين الداخل والخارج، وصعوبة توحيد الرؤية والخطاب، وربما حتى بعض الصراعات الشخصية أو المؤسسية، ومسائل التمويل وما قد يفرضه من أولويات لا تتطابق دائماً مع الحاجات المحلية.

 

5- تتمة للسؤال السابق: في اللحظة الراهنة تتقلص المساحات المتاحة للنساء في الفضاء العام، عوضًا عن الشراكة مع النساء وحضورهن في السلطة السياسية، ما هي أولويات العمل النسوي في هذه المرحلة من أجل إيصال أصوات النساء؟

في ظل ما يحصل للأسف من مجازر وانتهاكات وخطف للنساء، تبدو الأولوية الملحة متمثلة في التوثيق وإبقاء تجارب النساء بحلوها ومرها جزءاً لا يتجزأ من السردية الوطنية، وهذا للأسف يؤثر على الجهود التي يجب أن تنصب في هذه المرحلة على التنمية وتدريب النساء ضمن برامج تمكين سياسي وفكري واقتصادي وقانوني. 

يجب العمل على بناء وتقوية التحالفات سواءً داخل الحراك أو خارجه مع الحراكات السياسية والاجتماعية الأخرى لتوسيع دائرة التأثير، ولا أستطيع أن أشدد كفاية على أهمية الاستثمار في الإعلام والتركيز على الحضور الدائم فيه كضرورة وحاجة ملحة لتوصيل أصوات النساء، للتعويض عن التراجع القسري المفروض على حضورهن في الشارع والمجال العام. كذلك أعتقد أن ترجيح وإعلاء المصلحة العامة على حساب المصالح الخاصة والفردية ضمن أطر العمل النسوي يجب أن يكون أولوية بديهية، كما تبني لغة حوار وخطاب يفهمها الشارع على اختلاف مشاربه، بعيدة عن التعقيد والاستعراض المعرفي والثقافي، توصل رسالة بسيطة وبالغة التعقيد في الوقت نفسه، مفادها أن العمل النسوي هو عمل يسعى لتحقيق العدالة المجتمعية وإعادة تعريف القيم على أساسها ولا يسعى لـ”هدم وتخريب المجتمعات”.

 

6- تمر سوريا بمرحلة انتقالية حساسة بعد سقوط نظام الأسد، ماهي الضمانات الدستورية والقانونية بحيث يكون للنساء دور فاعل في المرحلة الانتقالية وصياغة الدستور؟

أعتقد السؤال اليوم، في ظل كل ما نشهده بالنظر إلى الممارسات السياسية الراهنة والإقصاء الممنهج الذي تمارسه السلطة الجديدة وحصر المجال العام بلون واحد، لن يكون ما هي هذه الضمانات، بل هل يمكن الوصول إليها أصلاً وتحقيقها؟ يجب العمل على نصوص دستورية واضحة تحظر التمييز على أساس الجنس في جميع المجالات، تضمن نسبة تمثيل ملزمة للنساء في الهيئات التشريعية والتنفيذية واللجان الدستورية، وتمثيل متنوع وشامل لهن، وتعديل القوانين، خاصة قوانين الأحوال الشخصية، لتتوافق مع مبادئ المساواة وضمان الحق في العمل والمشاركة السياسية دون قيود، مع آليات قانونية لمحاسبة أي انتهاك، وضمان التزام الدولة بالاتفاقيات الدولية كاتفاقية سيداو مثلاً مع رفع جميع التحفظات، وتنفيذها للقرارات الدولية كقرار مجلس الأمن 1325 الصادر عام 2000 والذي يطالب باحترام حقوق النساء في سياقات النزاعات المسلحة ودعم مشاركتها في مفاوضات السلام وفي عمليات الانتقال السياسي وإعادة الإعمار والبناء. 

 

7- تقرير الدفع إلى الظل; على موقع الجمهورية نت حيث شاركت بإعداده مع ميسا صالح والذي رصد العنف والتهميش الاقتصادي وكيف تساهم البيروقراطية وسياسات الاندماج في تهميش النساء اللاجئات في فرنسا، هل ترين أن للإعلام القدرة على تفكيك البنى التهميشية، وكيف يمكن للصحافة أن تكون أكثر عدالة في تمثيل النساء اللاجئات؟

الإعلام يمتلك قدرة مهمة على تفكيك البنى التهميشية إذا تبنّى مقاربات واعية وحسّاسة للسياق، بمعنى أن يكون فضاء يخلق – أو ينقل على الأقل – معرفة وصوراً واقعية تتوخّى الدقة وعدالة التمثيل، ولا يكتفي بكونه ناقلاً أو مولداً للصور النمطية وخطاب الكراهية والتمييز. يجب أن نسعى لإعلام قادر أخلاقياً ومهنياً على فضح البنى التي تنتج الهشاشة، ولا يكون عنصراً فاعلاً إضافياً ضاغطاً على الفئات المهمشة، إعلام يسعى لمساءلة خطابات التهميش والتجييش والسياسات المنتِجة لها، أياً كان مصدرها. وبالتالي يمكن للصحافة أن تكون أكثر عدالة عند تناولها قضايا النساء اللاجئات من خلال وعيها بالتقاطعية وأشكال التمييز والتهميش المتداخلة التي تتعرض لها النساء في المنافي، سواءَ على مستوى العِرق أو الدين أو الطبقة أو الخلفية الثقافية أو العلمية أو الوضع الإداري في البلد المستضيف وغيرها، وتقديمها قصص النساء بأصواتهن بكامل الإخلاص والدقة، وعدم تحويرها أو استغلالها لخدمة أهداف ما مهما كانت نبيلة أحياناً، ودون تنميط يتمثل بحصرهن دائماً وأبداً بكونهن إما ضحايا أو بطلات خارقات بقصص نجاح ملهمة دائماً. من المؤكد أن هذه قد تكون جوانب أساسية ومحورية في قصصهن، لكن التركيز عليها فقط والبحث الدائم عمّا يعزز هذه الصورة سيفقد حيواتهن ووجودهن وتنوّعهن، وسيحصر نضالهن في ثنائيات سهلة وسطحية، ويغفل أطيافاً واسعة تتدرج عليها تجاربهن الحياتية.

كذلك تتمثل إحدى أوجه عدالة الإعلام في تناول قضايا اللاجئات في مراعاته التنوع والفردانية، أي أن لا يعامل المجموع كفرد أو الفرد كمجموع. من المهم تسليط الضوء دائماً على القصص الفردية وعواملها الذاتية، ولكن في خط موازٍ ومرافق يجب تبيان السياق العام دائماً والممارسات العامة التي تستهدف الفئات المهمشة. كذلك تتمثل في مراعاته لغة حساسة تبتعد عن الوصم وتتجنب إطلاق أحكام القيمة المباشرة أو المواربة.

لكن هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن ما سبق، وكي يكون كل ما سبق – في حال توفر – ذا أثر حقيقي، وهو الوصول؛ فحضور الوسيلة الإعلامية وتأثيرها الجماهيري أو على مستوى صناع/ات القرار أمر حاسم. فجهد صحفي/ة كبير دون وصول حقيقي للناس أو صناع/ات القرار سيبقى إضافة معرفية أو فكرية أو بحثية، لكن في حال تحقق الوصول فهو من المؤكد سيُحدث فرقاً حتى لو اقتصر في لحظته على فتح النقاش وتحريك المياه الراكدة، ولن أستخدم كلمة “ترند” هنا لما لها من ظلال سلبية.

 

8- بودكاست “عيون الكلام” الذي يتوجه للسوريين والسوريات يقدم حوارات متنوعة ثقافية، اقتصادية، وسياسية، كيف نشأت فكرة هذا المشروع، وماذا قدمت لك هذه التجربة على الصعيد الشخصي والمهني، وما الذي يميز عيون الكلام عن غيره من المنصات الحوارية؟

“عيون الكلام” واحدة من أغنى وأجمل التجارب الإعلامية التي خضتها على المستوى الشخصي. والمفارقة أنها لم تكن تجربة تقليدية في مؤسسة إعلامية، بل مبادرة مستقلة تماماً، أطلقها فريق جزء منه من المحترفين/ات في الإعلام ونصفه الآخر آت من مجالات أخرى. وربما كان هذا ما جعلها مميزة؛ مساحة واسعة من الحرية، وفرصة للتجريب، وإحساس عميق بأننا نصنع شيئاً جديداً، ونخاطب جمهوراً نتقاطع معه في الكثير من الزوايا والتجارب.

بالنسبة لي بدأت الحكاية من تواصل “عزام مصطفى” مدير المشروع معي ليعرض علي الفكرة، ثم اتصال مع الفريق الذي ضم حينها منتج البودكاست “سليم سلامة” و”فادي حليسو” المشرف العام على المشروع من بايونييرز Pioneers الجهة المنتجة للبودكاست. انضممت حينها للفريق أنا وزميلتي “هيا العلي”، وكانت لحظة إيذان بولادة مشروع طموح ومختلف، ترك- رغم الإمكانيات التمويلية المتواضعة- بصمة واضحة في فترة قصيرة جداً.

تميّز “عيون الكلام” بأنه انطلق مبكراً في الساحة السورية – مقارنة بما حصل بعد سقوط النظام حيث تفجرت عشرات المبادرات البودكاستية، سواء السورية المحلية أو في المنصات الإقليمية والعالمية- وأعطى مساحة لأصوات نفتقدها عادة في الإعلام التقليدي. لم نكتف بالسياسة أو الثقافة، بل فتحنا الباب لشهادات حياة وتجارب شخصية من خلفيات متنوعة، وكما نقول في مقدمة البرنامج، كان هدفنا “حواراً هادئاً وملهماً”، يركّز على استكشاف التجارب الإنسانية أكثر من السعي وراء الصراع والمواجهة.

تغيّر شكل البرنامج بعد سقوط النظام، إذ اضطررنا لمجاراة الأحداث. كان الموسم الثاني خليطاً من حلقات استجابت لاهتمامات الرأي العام حينها، وأخرى مُعدة سلفاً، وبعضها مصوّرة قبل سقوط النظام.

على الصعيد المهني، كانت هذه التجربة مختلفة تماماً. خبرتي السابقة كانت واسعة في التغطيات الإخبارية، الحوارات السياسية، وحتى الثقافية والفنية، لكن دائماً في الإطار التلفزيوني الإخباري السريع. أما هنا، فكانت الحوارات حميمية، طويلة، عميقة، وهو ما لم اختبره كثيراً من قبل حتى في أعمالي السابقة مع البودكاست، إذ كنت أركز على الوثائقيات والسرد القصصي أكثر من الحوار المطوّل. لذلك مثّلت التجربة إضافة حقيقية لمسيرتي المهنية.

أما على الصعيد الشخصي، فقد أهدتني هذه التجربة شبكة واسعة من العلاقات، وقرّبتني من السوريين/ات أكثر من أي وقت مضى. أنا التي لم أعش في سوريا يوماً، ولم أعمل في إعلام سوري، وجدت نفسي فجأة أتعرّف على السوريين/ات أكثر، وأقدَّم للجمهور السوري، وأبني علاقة معه لم تكن موجودة من قبل، ببساطة عرّفني على هويتي من زاوية جديدة.

بكل صدق، كانت تجربة “عيون الكلام” تجربة غنية على جميع المستويات؛ مهنية وشخصية وإنسانية، وأنا شديدة الامتنان لها.

ومع كل ذلك، ظلّ لي رأي خاص في المشهد العربي؛ نحن نحصر البودكاست غالباً في صيغة واحدة هي الحوارات، بينما هو في جوهره وسيلة وليس صيغة، وعالمه أوسع بكثير. تمنيت لو رأيت تجارب أكثر تنوّعاً، خاصة في المجال السمعي الخالص، بدل أن تتحول أغلب البودكاستات إلى نسخ إذاعية/تلفزيونية تقليدية، تُعلي من شأن الصورة على حساب الصوت. في رأيي، هذا النهج يُضعف قيمة التجربة ويناقض ويقوِّض مفهوم البودكاست من الأساس.

 

9- في ظل الانقسامات والاستقطاب السياسي الحاد الذي تشهده سوريا، كيف يمكن أن يكون الإعلام أداة لبناء الثقة بين المجتمعات السورية؟

لطالما عانى السوريون/ات في عهد الأسدين من قمع الحريات وعلى رأسها حرية التعبير والصحافة، لن أخوض في تفاصيل بديهية معروفة للجميع. كان أحد أحلامي شخصياً -ومتأكدة من أنه حلم لدى قطاع هائل من السوريين/ات- أن نحظى في عهد ما بعد الأسد بإعلام سوري من سوريا، تمويلاً وجغرافياً، حر وحرفي ومهني ومتنوع. منذ سقوط النظام عانينا من أداء إعلامي رسمي شبه غائب، وبحال حضوره كان ضعيفاً ومتخبطاً. انتظرنا بفارغ الصبر أن تنطلق قنوات الإعلام الرسمي، على الأقل ليكون هناك مصدر رسمي نستقي منه الأخبار والقرارات، في مواجهة فيضانات من الشائعات والأخبار الكاذبة. للأسف انطلق الإعلام الرسمي بكثير من الأخطاء والعثرات، بعضها مفهوم ومبرر بسبب وضع ما بعد الحرب، لكن بعضها لا يمكن قبولها نهائياً، ومن أبرزها لغة الخطاب خاصة بعد مجازر الساحل والسويداء. 

في النهاية أدرك أن هذا إعلام رسمي وسيتحدث بلسان السلطة، وليس بلساني ولسان من هم مثلي، لكن تجارب عديدة من دول مرت بظروف تشبه ما مررنا به، من رواندا إلى جنوب أفريقيا إلى البوسنة والهرسك وألمانيا بعد سقوط جدار برلين على سبيل المثال لا الحصر، تقول لنا أن الإعلام الرسمي والمستقل في المناطق التي شهدت نزاعات يجب أن يكون وسيلة فعالة لبناء الثقة وتعزيز فرص السلم الأهلي، وأن يعكس تنوع المجتمعات ويفتح أبواب الحوار لا التجييش. أي إعلام عام في دول عانت من الاستبداد أو النزاعات يحتاج إلى ثورة إصلاح جذرية، تبعده عن تغول السلطة مجدداً وتقربه من الناس، لكن ما نراه اليوم من الإعلام الرسمي وشبه الرسمي وإعلاميين/ات ومؤثرين/ات موالين/ات للسلطة يحرضون ويجيشون ضد المعارضين/ات والمختلفين/ات يقول لنا أن الحلم ما يزال بعيد المنال، وأن الوضع خطير جداً إن لم يقف عند حده قريباً.

في المقابل لدينا منصات مستقلة يبدو الكثير منها نخبوياً وبعيداً عن الشارع، رغم ما قد تقدمه من قيمة فكرية ومعرفية وسياسية مهمة، إلا أن استقبال رسائلها لا يتم دائماً بالشكل المرتجى.

أُضيف إلى كل ذلك هيمنة ذكورية على الخطاب والأداء والحضور الإعلامي، وتغييب واضح للنساء.

باختصار يمكن أن يسترد الإعلام دوره كأداة بناء ثقة، أو ردم هوة تتسع يوماً بعد يوم في حالتنا السورية، إذا تحرر من الاستقطاب، واعتمد المهنية والشفافية والخطاب الجامع، وتبنى لغة متوازنة وواعية وحساسة، وأصبح إعلاماً شاملاً لكل فئات ومكونات الشعب جندرياً وطبقياً وجهوياً، وعمل على تأسيس أنظمة إعلامية تحكمها آليات حوكمة غير سياسية لا تخضع للتدخل المباشر من السلطات أو الجهات السياسية – بمعنى أن تكون هناك هيئات مستقلة تتولى وضع السياسات ومراقبة الأداء من خلال قوانين ومعايير مهنية، أعضاؤها وعضواتها خبراء/ات وممثلين/ات عن المجتمع المدني-  تضمن الاستقلال والمهنية، كما حدث في جنوب أفريقيا وألمانيا على سبيل المثال، حيث فُرضت آليات حوكمة مستقلة على الإذاعة والتلفزيون الوطني في جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، حولتهما إلى منبر لنقل جلسات “لجنة الحقيقة والمصالحة”، في حين لعب إعلام ألمانيا العام بعد سقوط جدار برلين وتوحيدها دوراً حيوياً في ترسيخ الهوية الوطنية من خلال تحقيقه استقلالية مؤسسية ومراعاته التمثيل الإقليمي في البلاد لجميع المجتمعات المندمجة حديثاً. في هذا الإطار يمكن أن يكون تمويل الإعلام الرسمي من قبل المواطنين/ات ودافعي/ات الضرائب، كما هو الحال مع هيئة الإذاعة البريطانية وفي بعض الدول الأوروبية، خياراً جيداً لتخفيف القبضة الحكومية والسياسية، لكنه خيار غير منطقي بالنسبة للسوريين/ات نظراً للوضع الاقتصادي المتردي جداً، ونظراً لتراجع تأثير الإعلام التقليدي. 

أيضاً، مع طغيان وتغول الإعلام الجديد، وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي، نحتاج لتجريم خطاب الكراهية على أساس معايير واضحة وصارمة وضمن آليات محاسبة حازمة وغير خاضعة للأمزجة والتجاذبات السياسية.

 

10- من واقع تجربتك ومن خلال مسيرتك المهنية التي ركزتِ فيها على العمل في مجال تحرير الأخبار، كيف ترين موقع النساء في صناعة القرار في هذا الحقل، وما هي أبرز التحديات التي تواجه النساء في الإعلام؟

رغم ما حققته النساء في هذا المجال، وما هن مستمرات في تحقيقه، إلا أن العقبات الكثيرة المعتادة تبقى راسخة وإن اختلفت درجاتها وشدتها بين مكان وآخر وظرف وآخر. حققنا زيادة ملحوظة في حضورنا كصحفيات ومذيعات ومراسلات ميدانيات، إلا أن الوصول إلى المناصب العليا وصناعة القرار ضمن مجالس رئاسة التحرير ومجالس إدارة المؤسسات الإعلامية ما يزال محدوداً جداً بالنسبة لنا مقارنة بالرجال. حتى إن حصل ووصلت النساء لهذه المناصب، سيخضن حروباً يومية ليثبتن جدارتهن بالمناصب وليواجهن غيرة وسخرية وعنف أقرانهن الذكور. كنت شاهدة على معاناة زميلتين وصلتا لمناصب قيادية، ثم انسحبتا بعد فترة حفاظاً على صحتهما النفسية. ما تزال السقوف الزجاجية عصية على التكسير للأسف وما تزال البنى الذكورية للمؤسسات الإعلامية، وخاصة مؤسسات الإعلام التقليدي، تسيطر على مفاصل المشهد الإعلامي.

عندما أحاول حصر بعض الأسماء في العالم العربي، لا تحضرني إلا أسماء قليلة جداً لنساء يدرن أو أدرن مؤسسات إعلامية، وغالباً ما تكون مؤسسات مستقلة أو غير رسمية.

طبعاً هذا إضافة إلى الفجوة الكبيرة في الأجور والفرص، وكذلك بيئات العمل غير الآمنة من ناحية العنف والتمييز والتحرش سواءً داخل المؤسسات نفسها أو في ساحات العمل الميداني، والصور النمطية المفروضة على النساء وما فيها من تسليع كبير، خاصة من يظهرن على الشاشات أو يمثلن مؤسساتهن في المجال العام. أذكر أني يوماً تلقيت عقاباً ضمنياً غير معلن باستبعادي لأيام من نشرة كنت أقدمها لأني اشتكيت من تعبي من الوقوف لساعتين متواصلتين دون استراحة مرتدية حذاء بكعب عال جداً مطابق لمعايير الظهور على الشاشة، أذكر أن الشخص المسؤول حينها قال لي: “ماذا تعنين؟! أنت امرأة ومن المفترض أن يكون هذا شيء بديهي!”. هذا مثال من أمثلة كثيرة عن صور وتوقعات نمطية نرزح تحتها. أضيف لكل ذلك التحيز وغياب العدالة في توزيع المهام القيادية أو الصحفية، إضافة إلى خضوع قرارات الترقية والتطور المهني إلى أمزجة شخصية في كثير من الأحيان، كذلك استخدام تفاصيل حياة النساء الاجتماعية والصحية وغيرها (الزواج- الولادة – الأمومة – الدورة الشهرية… إلخ) كأداة تمييز ضدهن وضد إمكانية تطورهن في عملهن، أو حتى مجرد أداء عملهن المعتاد بسلام دون دفع أثمان تكون باهظة أحياناً.

 

11- قدمت النساء السوريات تضحيات كبيرة خلال فترة الصراع، ولعبن دوراً مهماً في دعم صمود مجتمعاتهن. كيف ترين دور النساء في إعادة بناء سوريا بعد الحرب؟ 

بالفعل تعرضت السوريات لانتهاكات جسيمة خلال الثورة والحرب، ومن قبلها أيضاً في ظل حكم الأسدين. فإن ذكرنا فقط مثالاً واحداً من أيام الأسدين، يحضرني مثال قاس: النساء المعتقلات والمفقودات والمغيبات قسرياً اللاتي عانين معاناة قاسية في السجون ولاحقاً خارجها، وزوجات المعتقلين والمفقودين والمغيبين قسرياً اللاتي تحمّلن مسؤوليات أسر كاملة، مع ما رافق ذلك من وصم اجتماعي وأعباء مادية ونفسية. 

ثم عانين ما عانين خلال الثورة، نزوح ولجوء وتهميش وعسكرة واعتقال وفقر وخطف تحت حكم السلطات المختلفة باختلاف مناطق وجودهن.

هذه الأثمان الباهظة التي دفعنها يجب أن تدفع السوريين للاعتراف بحق النساء في موقع الشريك الأساسي في إعادة البناء. تجاهل أدوار وخبرات النساء الهائلة في مجال بناء وإدارة المجتمعات، والتي راكمنها خلال سنوات الثورة والحرب، يعني خسارة موارد بشرية ومعرفية هائلة كان لها الفضل في صمود المجتمع السوري طوال السنوات الماضية. هذه الخبرات لم تأتِ فقط من واقع النجاة والصمود، بل أيضاً من خلال المبادرات والمنظمات التي أنشأتها النساء في مناطق النزاع أو شاركن فيها كمستفيدات وناشطات.

الكثيرات مثلاً أصبحن قادرات على لعب أدوار اقتصادية، بعد تحملهن مسؤوليات إعالة أسر كاملة، واكتسابهن خبرات في إدارة المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال، وبالتالي اليوم هن جاهزات ليكن رافداً لإنعاش الاقتصادات المحلية عبر مشاريع صغيرة وريادة الأعمال.

أما سياسياً، فقد حققت السوريات حضوراً مهماً خلال سنوات الثورة، سواءً في مفاوضات الانتقال السياسي أو في أعمال اللجنة الدستورية والهيئات والأجسام السياسية المعارضة، رغم صعوبة تحقيق ذلك والعقبات الكثيرة التي واجهت عدالة تمثيلهن. ومن المهم اليوم أن يبنى على الجهود السابقة وأن لا يعدن إلى نقطة الصفر، وبالتالي من البديهي أن تُترجم هذه المشاركة اليوم إلى تمثيل مضمون عبر الكوتا والآليات الدستورية، وأن يمتد هذا الدور إلى مؤسسات الحكم المحلي، والإعلام، والفضاء الثقافي، والعام. من المهم أن تتحول كل هذه التجارب إلى شراكة فعلية في صياغة السياسات الاجتماعية، تضمن تمثيل ومراعاة وضع النساء والفئات المهمشة.

رغم كل ذلك أشعر بقدر كبير من القلق والتوجس والشك بإمكانية لعب النساء لدورهن المحوري في هذه المرحلة، سواءً النساء في الداخل، أو السوريات في الخارج ممن خبرن أشكالاً أخرى من الحياة والتجربة والعمل، سوريا اليوم تبدو في طور التحول رويداً رويداً لبيئة طاردة للنساء، لا أدري إلى أي مدى ستتمكن النساء فيها من اقتناص فرص حقيقية ليكنّ دينامو إعادة البناء والإعمار وأساس الاستقرار.

 

*كل ما ذكر في المقابلة يعبر عن رأي من أجريت معهن/م المقابلة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية