النادي الثقافي للحركة ميدياتك وجلسة “جسور نسوية في مجتمعات الاغتراب” مع الدكتورة إشراقة مصطفى
- تاريخ النشر: 4 أبريل 2024
أقام النادي الثقافي للحركة السياسية النسوية السورية “ميدياتك” جلسة حوارية بعنوان: “جسور نسوية في مجتمعات الاغتراب” مع النسوية والناشطة السياسية والمدنية الدكتورة إشراقة مصطفى، وذلك يوم الجمعة 1 كانون أول 2023، عبر تطبيق زووم، بحضور عدد من عضوات وأعضاء الحركة، أدارت الجلسة عضوة الحركة السياسية السورية النسوية وعضوة فريق النادي الثقافي نضال جوجك.
الدكتورة إشراقة مصطفى كاتبة ومترجمة وأستاذة جامعية وشاعرة، من مواليد ولاية كوستي النيل الأبيض في السودان، تقيم في النمسا منذ التسعينيات. درست إشراقة في مدينة كوستي، ونالت بكالوريوس الشرف في الإعلام من جامعة أم درمان الإسلامية عام 1989، وحصلت على دبلوم عالي في علوم الاتصال من جامعة الخرطوم عام 1993، وحصلت على دبلوم وماجستير علوم الإعلام من جامعة فيينا، كلية الإعلام والنشر عام 1997، وحصلت على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فيينا عام 2006.
حصلت على العديد من الجوائز: جائزة الحركة النسائية الكاثوليكية للمرأة الناشطة عام 1998، والميدالية الذهبية كأعلى جائزة تمنحها حكومة العاصمة النمساوية فيينا، وجائزة القلم البريطاني للترجمة، وتعتبر أول امرأة سودانية تنال جائزة لكتابة السيرة. وهي عضوة مؤسسة للعديد من المنظمات التي تهتم بالمهاجرات الإفريقيات في أوروبا، وممثلة الأدب العربي في القلم النمساوي بدءاً من أيلول 2015، ورئيسة لجنة تشبيك البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون.
خلال الجلسة أجابتنا الدكتورة إشراقة مصطفى عن العديد من الأسئلة، نضع بين أيديكنَّ/م بعضاً منها:
– تحدثتِ سابقاً عن تجربتكِ الأدبية في السودان، كيف وظفتِ هذه التجربة في الفكر النسوي؟
تجربتي في الكتابة بدأت في السودان، مع أن العمل الأكاديمي والسياسي كان له النصيب الأكبر من وقتي في السودان. كنت أستمتع بالحكايات التي كانت تحكيها لي جدتي، وبالأسئلة التي كنت أطرحها على جدي، فهذا ما شكّل لدي ذخيرة من الخيالات الرحيبة، ومن ضمنها القمر. البارحة مثلاً أكمل القمر 14 يوماً، لكن الناس في فيينا لم يشعروا به، فالنظرة للقمر هنا مختلفة عن نظرتنا له في البلدان العربية. فالقمر أحد الكائنات الوجودية التي أثرت بي.
بدأت تجربتي الشعرية من السودان، وقد نشرت في المنابر السودانية، وتعرضت للنقد الحاد، لأني أكتب عن الجسد واحتياجات جسد الأنثى، مما أثار الكثير من اللغط والأحزان في حياتي، سواءً في حياتي الخاصة أو العامة، لكنني صمدت ولم أتراجع، فأنا لا أكتب القصيدة بعيداً عن رؤيتي الفكرية والسياسية.
لكن يمكنني القول إن تجربة الكتابة الفعلية بدأت منذ وصولي إلى فيينا، ولا يمكن بالطبع فصل التجربة السياسية عن التجربة الأدبية، فمن الصعب علينا كنساء أن نفصل، كأن أكون موظفة فقط، أو أم فقط، أو أم وحيدة فقط، أو كاتبة لديها أحلام فقط، كل ذلك بالنسبة لنا كنساء يعتبر واحد، لا يمكن تجزئته. عندما وصلت إلى النمسا بدأت أكتب عن تجربتي التي عشتها داخل السودان، التجربة التي انعكست على كل تفاصيل حياتي سواءً في الكتابة أو الحراك المجتمعي أو الانفتاح نحو الآخر، فقد تربيت في حي كانت تجتمع فيه كل القبائل السودانية.
إن التجربة السياسية وانضمامي للاتحاد النسائي السوداني في مدينة كوست، أثرا كثيراً في تجربتي، وتعلمت من تجربة بعض النساء. أعتقد أننا كنساء نتعامل الآن مع موضوع النسوية بشكل أكثر وضوحاً من تجربتنا، وإذا حللنا هذه التجربة سنجد أنها حركة نسوية، سواء قبلنا بالمصطلح أم لا، وما زال هناك تخوف في المجتمع السوداني من أن نطلق على ذواتنا كنساء مصطلح نسويات.
ورغم الانتفاضات العظيمة التي قام بها الشعب السوداني، كانت النساء فيها هن الطرف الأقوى، رغم أن العدد المشارك فيها كان بسيطاً، إلا أن النساء في الفترة الأخيرة شكلنَّ 70% من الانتفاضة.
– الثورة الأخيرة في السودان هي امتداد لثورات الربيع العربي، وحصل فيها حضور مميز للنساء. صحيح أن الثورات فشلت إلى حد ما، وقد لا تكون الشعوب وصلت إلى تغيير الأنظمة والقضاء على الفساد، وحصل إحباط في الوطن العربي بشكل عام. برأيكِ كيف انعكس ذلك على النساء السوريات والسودانيات؟
عاشت السودان انتفاضات كثيرة جداً قبل الحراك الثوري (الربيع العربي) في المنطقة. فمنذ ولدت 1961، أذكر أول ثورة في السودان عام 1964، كنت طفلة حينها، واليوم عمري 62 سنة، ولم يحصل في السودان أن رأيت انتخابات استطاعت فيها النساء أن تنتخب أو أن تترشح أبداً. وهذا طبعاً شبيه بسوريا وبدول أخرى، وهذا ما يوحد مصائرنا كنساء.
في انتفاضة 1985، كنتُ في بداية دراستي الجامعية، وشاركت في هذا الحراك مع العديد من النساء في الشارع، لكن الحراك الأخير هو الحراك الثوري الحقيقي، والذي أعتقد أنه ناتج عن تراكم خبرات، وكان فيه نساء مشاركات من كل الأعمار وكل القبائل، رغم أنني أحاول أن أنأى عن موضوع القبيلة إلا أن المشروع الإسلامي في السودان، بترسيخه للغة العربية – والتي أحبها جداً كلغة أم- إلا أن هناك أخريات هذه ليست لغتهن الأم، وقد تعرضن للتمييز ليس فقط بسبب النوع، إنما بسبب إثنياتهن وبسبب اللغة، أو لأن بعض السودانيات مثلاً لا دينيات، أو يعبدون الشجر، وهذه المعاناة التي كان يتعرض لها الشعب السوداني في الجنوب، وهو ما أدى إلى انفصال جنوب السودان.
المشكلة التي واجهت الانتفاضة التي حدثت مؤخراً هي التدخلات الإقليمية والدولية. فالسودان دولة غنية بالثروات، فقد تم اكتشاف النفط واليورانيوم والذهب في العديد من مناطق السودان، لذلك من البديهي أن التكالب الدولي لن يسمح للثورة السودانية أن تنجح، لأنها إن نجحت فستؤثر في المنطقة كلها. طبعاً ما حصل سبّب خذلاناً كبيراً للنساء في السودان وللسودانيات في الخارج أيضاً، فتخيلوا أن النساء شاركنَّ في الشارع، لكن لا يوجد سوى 6 نساء في مناصب رسمية، اثنتان في مجلس السيادة و4 في الوزارات، ولكن بنفس الطريقة النمطية، فوزارة الرعاية الاجتماعية مثلاً يُسمح أن تقودها امرأة. وكان هناك تكالب حزبي، فالأجندة الحزبية في أحزابهنّ تسطو على الأجندة النسوية، في حين يجب ألا تنفصل الأجندتين عن بعضهما البعض. لا أظن أن الثورة السودانية فشلت، إنما انتكست، والنكسة الأعظم هي ما بعد الحرب.
منذ فترة أدرت حوار مع نساء نزحنَّ من الخرطوم إلى كامبالا، وحدثنني عن أوضاع النساء في كامبالا أو في نيروبي أو جنوب السودان أو في مصر وضع مأساوي حقيقي، ولأول مرة لم أستطع أن أضبط مشاعري، وانهرت أثناء البث المباشر، لأن الوضع مأساوي فعلاً.
الكثير من السودانيات يمكن أن يتحدثن عن الحرب والأضرار الكثيرة التي حصلت على العاصمة وكأنها الحرب الأولى في السودان، رغم أن السودان عاش حروباً كثيرة، بدأت في دار النوب ودارفور والنيل الأزرق، وكل هذه المناطق تنتمي إثنياً لقبائل إفريقية.
في أوروبا دائماً يعتبرون أن الصراع في السودان هو صراع ما بين العرب والأفارقة، والمسلمين والمسيحيين، وهذا انتقاص للأزمة الأساسية والرئيسية وهي أن الصراع في السودان هو صراع على الثروة والسلطة. أنا مثلاً ترشحت مرتين لأكون وزيرة للثقافة في الحكومة الانتقالية لكنني رفضت، لأنني لا أنتمي لحزب يدعمني، بغض النظر عن المؤهلات.
الجيل الجديد من الشابات بين عمر (21-28) سنة أعطينني الأمل، لأنهن جيل واع استفاد من تمهيد الطريق الذي قدمناه لهن، والجيل الذي سبقنا هو الذي مهد لنا الطريق، وأوصلنا لهذه الثمار، لكن للأسف هي ثمار فيها كثير من الحنظل والمرارات، فأحد الأسئلة التي تطرح هل فكرنا فيما بعد الحرب من أين نبدأ كنساء؟ فهناك صراعات فكرية بين النساء، هناك نساء يقلن إن النسوية هي أفكار أوروبية، وكأن النسوية مدرسة واحدة، وكأنها ضد حقوق المرأة! وهذه إحدى الحوارات التي تدور على المستوى الفكري.
وللأسف ليس هناك لغة مشتركة بين النساء اللاتي وصلن إلى مرحلة جيدة من التعليم والوعي وانخرطن في مجتمعاتهن، وبين النساء العاملات والمزارعات الموجودات داخل السودان. فيجب أن تتغير اللغة، فنحن لا نعمل من أجل النساء، إنما نعمل مع النساء، والفرق كبير بين التعبيرين، فعندما نعمل لأجل النساء فبذلك أكون قد سلبتهن حق التعبير عن تجربتهن.
فالثورة برأيي لم تفشل، إنما انتكسـت، ولا يبدو أن هناك أمل قريب، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة في غزة التي غطت تماماً على السودان والوضع المأساوي فيه.
– كنتِ قد أشرتِ أن هناك العديد من الثورات التي قامت في السودان، وأنتِ ابنة ثورة، فهل ترين أن هذه التراكمات وتجارب النساء ومشاركتهن في الثورات كان لها أثر إيجابي؟ وما هي مخرجاتها؟
فترة الـ 1985 كنت ما زلت شابة ومندفعة وأحاول أن أشبه أنجيلا ديفز، وقد قابلتها في 2013 في غانا في مؤتمر للنساء السود، وكنت أحب أن هناك شبه بين شعري وشعرها من حيث الكثافة والطول. كنت أيام الثورة في حماس كبير ومستعدة لدفع الثمن مهما كان، عدد النساء المشاركات في الثورة في تلك الفترة لم يكن كبيراً لكن الحماس كان موجوداً.
إن أحد الأسباب الرئيسية في عدم توقف الحرب هو إقصاء النساء من المفاوضات الحالية، فحصلت تراكمات، وفي كل مرة ينفجر هذا التراكم، لكن الانفجار ليس سلبياً دائماً، فنحن كنساء نرى أن هناك أمور إيجابية ستجعلنا نتعلم، فأنا شخصياً مثلاً في فترة الكورونا وفترة الثورة، دعوت النساء السودانيات لنكتب معاً ذاكرتنا الجماعية مع العنف، وهو التوثيق الأول من نوعه، وصدر في ألمانيا في آذار هذه السنة وتم إطلاقه في فيينا. وفي هذا الكتاب من الأوجاع الكثير، فقد أوجعني حين جمعته، وأوجعني حين ترجمته، وأوجعني أكثر عندما أطلقته. فتاريخ نضالات المرأة السودانية، وهو نضال لا ينفصل عن نضالات المرأة سواء في المنطقة العربية أو في المنطقة الأفريقية، فنحن لسنا معزولات، وتعلمنا الكثير، لكن للأسف الأنظمة التي كانت موجودة لم تكن تسمح للنساء بمعرفة بعضهن البعض، إضافة إلى طريقة تربيتنا التي تحمل الكثير من الدكتاتورية، فليس لدينا القدرة أن نسمع بعضنا البعض حتى ضمن السودان نفسه. مثلاً لدي بحث لم يكتمل بعد عن السواد وانعكاساته في السرد العربي والروايات، الليل الأسود واللون الأسود هو الذي يرتبط دائماً بالأسوأ، وطبعاً هناك الكثير من الرفاق الليبراليين يحاولون تبرير الموضوع، لكنهم لا ينتبهون أن هناك حركات نسوية سوداء لعبت دوراً كبيراً جداً بما يسمى النسوية التقاطعية، حتى مصطلح Empowerment أي التمكين، هو أصلاً مصطلح في مجال التنمية، ظهر من نيروبي من إفريقيا، لكن كل هذا أحياناً يتم طمسه، والذي يطمسه ومع الأسف حركات أو نساء دعمن الأنظمة الدكتاتورية، لدينا الكثير من النساء ممن دعمن هذه الأنظمة ويمثلنها، بعض النساء يرسلن الشباب لقتال ما سموه في وقتها (الكفار) في جنوب السودان، أرسلن أولادهن ليموتوا، ثم يقمن بتوزيع البلح والحلويات احتفالاً بالابن العريس في الجنة! هناك الكثير من الشباب ماتوا في الثورة السودانية، أما الآن فيموت الشباب والنساء والأطفال، لأن الرصاص يدخل إلى البيوت.
العالم كله لأول مرة يحتفي بما يحصل في السودان، حتى هنا في أوروبا، يوجد نساء سودانيات خرجن إلى الشارع، وهناك نساء ربات بيوت يعملن طوال النهار ليطعمن المتظاهرين في الشوارع، والرجال كبار السن يحملون الماء، فكان هناك تكاتف.
نحن المهاجرين السودانيين والمهاجرات السودانيات الناشطات والناشطين في المجال السياسي اجتهدنا في الخارج وأظهرنا الثورة السودانية، كان لنا مظاهرة موحدة في 6 نيسان في كل أنحاء العالم، لأن ثورة 1985 حصلت في 6 نيسان، وعندها انتبه العالم أن هناك حراك حقيقي في السودان، لأن الانترنت في السودان كان مقطوعاً في تلك الفترة، والرئيس البشير وقتها سافر إلى سوريا وقابل الرئيس السوري، فالمسارات متشابهة، ينقصنا فقط المعرفة بالتفاصيل.
– تحدثتِ عن النسيج والمكونات الإثنية في السودان، وتحدثتِ عن مشاركات النساء، فهل المشاركة كانت مقتصرة على الناطقات باللغة العربية، أم قصدتِ فئة معينة؟ وكنتِ قد ذكرتِ النسوية التقاطعية، لكن هناك توجه من النساء السوداوات والأفارقة اللواتي شعرن بالتهميش وأن هناك ظلم من قبل النسويات البيضاوات، فهل ترين أن النسوية التقاطعية وحّدت نضالات النساء أم فرقتهن؟
لم تفرقهن، لكننا بحاجة لنفهم بعضنا البعض أكثر. وقد أشارت بيل هوكس، إلى أن فكرة أن ما يوحد النساء هو النوع، هو كلام غير سليم، لأن هناك تفاصيل أخرى غير النوع، هي تفاصيل أساسية ويجب أن ننتبه لها. مثلاً: أنا وامرأة ألمانية أو نمساوية يوحدنا النوع، وقد نتعرض للتمييز بسبب النوع، لكن من المستحيل أن تشعر بالألم بسبب التمييز بسبب اللون، لكن التمييز بسبب اللون أتعرض له أنا كامرأة ورجل أفريقي يعرف نفسه كأسود، كمصطلح سياسي طبعاً، في حركة الحقوق المدنية في أمريكا، لأن السواد كانوا يستخدمونه بمعنى سلمي، فاستخدموه ليكون روح المقاومة، ومنذ ذلك الوقت سميت الحركات السوداء.
هناك نساء حتى داخل السودان يقولون لا تقولي عن نفسك سوداء هذه عنصرية. عندما أتيت إلى النمسا فكرت لو أنهم يحضرون كل الشعب السوداني إلى أوروبا ليعرف أنه لا تمييز بين الألوان أصلاً! منذ قليل كنت أشتري بعض الأشياء، فقال لي البائع: هل أنت فلبينية؟ قلت: هذه أول مرة يقال لي فيها فيلبينية، فصرت أفكر أن الفليبينية لديها نفس المآسي التي عشتها، والتي عاشتها المرأة الأفغانية. عندما عملت في إحدى المؤسسات الاستشارية وكان هناك سيول في الفلبين، إحدى النساء كانت تحدثني عن انهيار بيتها، وفكرت أنني عشت ذات المشهد سابقاً.
فالتقاطعية النسوية تحتاج منا أن نعرف بعضنا البعض أولاً، وحتى لو حدثتنا امرأة بأمور لا نعرفها فعلينا أن لا نخطّئها، لأن الموقع الذي انطلقت منه ليس بالضرورة أن يكون هو ذات الموقع الذي انطلقت منه أنا، مواقعنا مختلفة، خلفياتنا وخصوصيتها مختلفة، لكن الحياة العامة تجمعنا، وهذا ما نعمل عليه. فمعرفتنا لبعضنا أكثر ستمكننا من تحقيق أهدافنا.
الحركات النسوية في أوروبا نجحت لأنها استطاعت خلق شبكات فيما بينها، ربما لأن أوضاعهم الاقتصادية أفضل، أما في بلادنا فهناك روح منافسة ونتعامل بأنانية، يفكر كل منا كيف يطور بنفسه دون التفكير بالجمع، وهي إشكالية حقيقية تواجه الكثير من الحركات النسوية والنسائية.
– بالعودة للأدب والمؤلفات، إلى أي مدى ترين من المهم أن تكتب النساء سيرهن الذاتية؟ وحبذا لو تحدثينا عن الورشة التي قدمتها لمجموعة متنوعة من الناشطات.
سأقتبس بداية من الشاعرة الأمريكية السوداء مايا أنجلو: “ليس هناك من ألم أعظم من أن تحبس بداخلك حكاية لم تُروى”.
أنا كتبت ملامح من سيرتي، وانطلقت هنا في النمسا بشكل عميق في حراك حقوق النساء المهاجرات، والمهاجرين بشكل عام، هذه كانت البداية، ومن هنا بدأ الصوت العالي للنساء، في البداية كان مع النساء الأفريقيات، وعملت على أبحاث مرتبطة بالنساء العربيات، والمسلمات بعد أحداث 11 أيلول، وإلى أي مدى انعكست على التمييز ضد النساء المسلمات، وتحديداً المحجبات منهن.
أما مسألة الورشات بدأت في 2015، عندما أنشأت منظمة نسوية من أمريكا اللاتينية مركزاً في النمسا باسم “المستقل لدعم الحراك النسوي”، وعملوا على مسألة اللغة، فمن حق أطفالنا هنا أن يدرسوا اللغة التي يريدونها، فعقدوا مؤتمر علمي، وطلبوا أن نقدم فكرة Concept لورشة عمل، فأنا قدمت لهم Concept كنت قدمته إلى الجامعة ووصل إلى التصفيات الأخيرة لكن لم يتم قبوله، لأن هناك نظرة أن الأدب والفنون ترف، فقدمته لهم بعد أن وسعته، ومن حسن الحظ أن تم قبوله. قبل فترة كورونا طلبت مني إحدى المنظمات النمساوية التي تعمل مع المهاجرات والمهاجرين تقديم ورشة عمل، وفعلاً نفذت نفس الـ Concept، كان في المجموعة رجلان لكنهما انسحبا وبقيت المجموعة كلها نساء، لكن لم تكن اللغة العربية هي لغة كل من في المجموعة. بعد أن بدأت كورونا والتوقف الذي حصل أعتقد أنني مدينة لكل النساء اللواتي شاركن في الورشات، لأنهن السبب بأنني استطعت تجاوز أي أزمة اكتئاب، فأنا أساسا أتعرض لاكتئاب في الشتاء، هذا عدا عما سببته كورونا من أزمات نفسية.
وأذكر كان هناك ندوة أيام الثورة نظمها يساريات ويساريين، وكان الموضوع بالنسبة لي مهم، عنوانه: “ماذا تتعلم الحركة النسوية النمساوية من الحركات النسوية السودانية”، فأول مرة يحصل أن تتعلم حركة نمساوية من حركة سودانية.
التجربة الثانية كانت مع “أصوات نسوية كردية”، قابلت ماريا عباس وسألتني عن إمكانية عقد ورشة معهن، لأن عملها على الورشات كان من عدة جوانب، والجانب الأساسي هو التشبيك. هذه كانت الورشة الأولى، وبعدها حصلت عدة ورشات، وبعد غد ستبدأ الورشة السابعة، وستكون مع نساء سودانيات في كامبالا، 20 امرأة، وعنوان الورشة: (بالحكي، بالكتابة، نتعافى).
كتابة السير الذاتية مهمة للنساء أنفسهن أولاً، فنحن نضيف لأرواحنا قبل أن نضيف للحراك النسوي، تجارب النساء في المهاجر، والهجرة، الكتابة استراحة لوعينا واستراحة من التفكير بتفاصيل عشناها في بلداننا، فأياً كانت المرارة، فإننا فقدنا أموراً كثيرة، فقدنا على الأقل سماع صوت اللغة التي نفهمها، فلابد من التخلص من هذه الأحزان، وأحد الطرق هي الكتابة. كتبت مقال نُشر في المجلة النسوية الأولى في النمسا، حول أن الكتابة هي عمل سياسي وأنه عمل وروح مقاومة ينمو وسط النساء.
في كتاب نون المنفى، سيرة نساء من هناك، على المستوى الشخصي كان هناك إضافات كبيرة لي من هؤلاء النساء الجميلات، ومن تجاربهن، وحقيقة ليس هناك كلمة أصف بها هذه الإضافة. لكل من هؤلاء النساء تجربتها في العمل العام والعمل السياسي، وحتى المرأة التي ليس لها تجارب في العمل العام تجدين لديها القدرة والرغبة في التعلم، هذا عدا عن أهمية وجود مساحة آمنة لنا كنساء لنتحدث معًا، نبكي، نضحك، ونؤسس علاقات إنسانية. وشعار الورش التي أقدمها منذ 2016 هو: “ليس سوانا يكتب سيرتنا”، لأن يمكن أن تأتي امرأة أوروبية وتكتب تجربتي أو تجربة أي سيدة منا، لكن مستحيل أن تكتبها بنفس الألم والإحساس الذي سنكتب به نحن لأنها تجربتنا نحن، نحن مشينا على الجمر والصفيح الساخن، فعندما نكتب من جانبنا الشخصي سيقدم ذلك تعزيزاً للذات وتعزيز جمعي لنا، وأنا سعيدة لأن هذه الورش قدمت لي علاقات واسعة جداً مع الكثير من النساء.
– هل تحتاج النساء عموماً والنسويات خصوصاً دعماً من المجتمع الذكوري المتمثل بالأحزاب للخوض في المجال السياسي؟
هذا سؤال مهم جداً، كنت أفكر أثناء الجلسة الأولى مع النساء اللاجئات حول تداعيات العنف والحرب على النساء، فكرت أننا كنساء نحتاج إلى مساحات آمنة لنتكلم فيها، دون أن يوقفنا أخ أو زوج أو صديق، لكن في نفس الوقت أعتقد ان التغيير لا يمكن أن يحصل دون أن نُشرك الطرف الآخر. الطرف الآخر قد لا يعجبه كلام النسويات الأوروبيات، لكن يجب أن يحصل نقاش، فليس هناك سبيل للتغيير بدون النقاش والمواجهة. ويمكن أن نستثمر في رفاقنا من الرجال أصحاب الوعي السياسي، وممن لديهم القدرة على الحوار، أعتقد أن هذا سيضيف لنا الكثير، أما إذا حصرنا أنفسنا في مساحاتنا الآمنة هذه، فماذا بعد؟
– هل هناك منصات مستقلة يمكن أن نتابع منها أخبار السودان؟ أو صحفيات سودانيات مستقلات؟
يوجد صحيفة الكترونية اسمها “صحيفة التغيير السودانية” أسستها ورئيسة تحريرها رشا عوض، وهناك الكثير من صفحات الفيسبوك، لكن ليست كلها موضوعية في طرحها. وهناك صفحة (مندي) لكن التركيز فيها أكثر على نشاطات النساء. وفي بداية آذار ستصدر مجلة (صوت مندي) وسأكون رئيسة تحريرها. وكذلك سيترافق معها قناة إذاعية بنفس الاسم، وستتناول نفس القضايا.
– إلى أي مدى تأثر حراكك السياسي ووضوح مواقفك كمعارضة بمكان إقامتك في المغترب؟
بعد الانقلاب في السودان، كان بيتنا هو أحد البيوت التي داهمها الأمن في الأسبوع الأول من الانقلاب، بسبب البحث الذي كتبته في سنة التخرج من الدبلوم العالي، وهو متابعة للبحث الأول، معالجة الصحافة الحزبية لقضية الجنوب، وقارنت بين الراية والميدان، الميدان كان صحيفة الحزب الشيوعي، والراية كانت صحيفة الإخوان المسلمين. فأحرقوا الكتب داخل الحجرة الوحيدة التي كنا ننام بها.
أما خارج السودان فمساحة الديمقراطية لا حد لها، وقد وجدت أنا وغيري من المهاجرين والمهاجرات الناشطين والناشطات في العمل السياسي والمعارضة حرية ومساحة سمحت لنا بالعمل، فهنا أستطيع التعبير عن رأيي وعن صوت أشخاص مقهورين، أعتقد أن هذا من النشاطات التي يجب أن أقوم بها وأن يعلو صوتي من أجل حدث داخل السودان تحديداً، أو بشكل عام.
– علاقتك بنوال السعداوي كانت جيدة وقوية، أين تجدين نقاط الالتقاء مع نوال، ونقاط الاختلاف؟
صديقة نوال السعداوي، عالية أبو إدريس، والموجودة في كامبالا اليوم، كان لديها مكتبة ضخمة جداً في بيتها، واسم المكتبة “مكتبة الفجر”، لديهم كتب كثيرة جداً، وأنا لدي شغف القراءة الذي أخذته عن والدي، ولكن كان لهذه العائلة الدور الأكبر في هذا الشغف، أخذت من مكتبتهم ثلاثة كتب لنوال السعداوي؛ المرأة والجنس، الرجل والجنس، الوجه العاري للمرأة العربية، ووقتها لم يكن لدينا إلا فوانيس، وكان والدي في وقت معين يطفئ كل الأضواء، بسبب أزمة غاز، ووقتها أضأت الفانوس خفت أن يرى الكتاب في يدي (المرأة والجنس)، فأخفيته سريعاً تحت المخدة، فطلب مني والدي أن أخرج الكتاب، ورآني أرجف وأنا أخرجه، وسألني: لماذا تخافين؟ فسكت، ثم قال: المعرفة لا يُخاف منها، المعرفة يخاف عليها. ومنذ ذلك الوقت لم أتوقف عن القراءة.
نوال السعداوي كانت الشغف والبداية والجنون والجرأة، ومرت السنين، وطُلب مني في مجلة التضامن النسوي أن أقدم مقابلة مع نوال السعداوي، وبعدها قرأت لها بشكل مختلف ورؤية مختلفة، فشعرت أنها جريئة، تعلمت منها الكثير، استفدت منها ومن وعيها، لكن أنا لا أنظر للرجل باعتباره عدو. فالحياة تكتمل بنا الرجل والمرأة، ولا أكره الرجل وليس لدي القدرة على كره أي إنسان، إنما أختلف مع الرجال ومع النساء أيضاً الذين يحملون العقلية الذكورية.
أثناء المقابلة كانت بمنتهى اللطف والجمال بشعرها الأبيض، وكنت وقتها حامل بابنتي التي تبلغ الآن من العمر 21 سنة. وذهبنا وقتها إلى السينما لنحضر فيلم، وكانت بمنتهى البساطة في لباسها وتصرفاتها، وكنا نضحك في الشارع، وفي السينما كانت ابنتي (الجنين) تتحرك، كانت نوال تقول لي لا تخافي، لا تنسي أنني أستطيع أن أولدك. فأنا حقيقة خفت أن نوال بجرأتها يمكن أن تولدني في السينما في فيينا، ويمكن أن يكون هذا حدث تاريخي. نوال السعداوي تبقى واحدة من العلامات الفارقة في مسيرتي، وفي وعيي كامرأة.
– أنت كسودانية من الشمال، والجنوب السوداني لديه معاناة من نوع آخر، والتي أدت فيما بعد في 2014 إلى الانفصال، تحدثت مرة أنك لم تعرفي عن معاناتهم إلا عندما وصلتِ إلى أوروبا. ونحن في سوريا بلد متنوع ولدينا طبقات من المظلوميات والاضطهاد، فإلى أي مدى ترين أن الخروج من المكان والابتعاد قليلاً يجعل وعينا يتبلور لنفهم قضايانا أكثر؟ أم أننا قادرون ضمن بلداننا الأصلية أن نصل لهذا الفهم؟
أنا أعرف معاناة جنوب السودان، لكنني قصدت العنصرية، فهناك سودانيات وسودانيين تم التمييز ضدهم في بلدهم وداخل أرضهم، لكني شخصياً شعرت بموقع الألم خارج الحيز الذي يسمى الوطن، فالألم تعمق أكثر عندما أتيت إلى النمسا، منذ أول تمييز تعرضت له بسبب لوني، وشكل شعري، وأسباب أخرى كثيرة، فما بال السودانيين والسودانيات الذين تعرضوا لتجريح من داخل وطنهن/م. طبعاً بعد الثورة بدأنا نفكر كيف نجتمع مع بعضنا ونتواجه ونسمع بعضنا البعض.
كنت في دورة تأهيلية للعمل، تحدثت أن المرارات التي تعرضت لها نبهتني أن هذا يحصل لأشخاص آخرين بمرارات أكبر داخل السودان. فهذه الأسئلة يجب أن تبقى تنبض حتى تُخرج كل الدم الفاسد. ربما يكون هذا تعويض لذنب لم ارتكبه في السودان، لكن في نفس الوقت كانت لدي امتيازات، أن أذهب إلى المدرسة مثلاً، أو أن أحصل على الحقوق الأساسية، التي كان من المفترض أن تحصل كل النساء في ذلك الوقت على نفس هذه الحقوق.
هناك مثل سوداني يقول: “المرة مرة والعبد عبد”. أي المرأة تبقى امرأة والعبد يبقى عبداً، وقد تكلمت الحركة النسوية طبعاً عن العلاقة ما بين الإثني والنوع، فقمت بتحليل الأمثال لتحديد أي منها ينتقص من حق النساء، لكن هذا المثل تحديداً ينتقص من حق النساء من إثنيات أخرى، فالظلم تجاهها مضاعف، فهناك تعقيدات كثيرة داخل السودان.
– تحدثتِ عن اهتمام غربي بالسير التي تكتبها النساء، ما هو تعويلك على هذا المشروع؟ هل سيؤدي لقناعة الغرب بالتخلي عن فكرة الاندماج، ويتحول إلى فكرة المشاركة، كما نراه نحن من فكرنا النسوي؟ بمعنى القبول بالمشاركة من الجميع؟
بالنسبة للسير أعتقد أنها ستؤثر عندما يتم ترجمتها. وهناك اهتمام حالي بالورش والكتابة، عندما صدرت كتبي بالألمانية، حصل حولها نقاش بين النمساويات، وسألوني عن المواضيع التي تناولتها النساء. وسيكون لها أثر أيضاً بموضوع الاندماج لأن الكثير من النساء ترى أنها لم تأتي إلى أوروبا لتندمج، إنما لتشارك، فالنساء لهن تجاربهن الخاصة، وليس بالضرورة أن أتحدث اللغة الألمانية لأستطيع إيصال فكرتي بما أنني قادرة على إيصالها بلغة أخرى، وبما أن هناك إمكانية للترجمة. طبعاً أنا مع تعلم اللغة لأنها المفتاح لكن فقط ما يجب منها. فأنا أتفق تماماً مع فكرة أننا لم نأت هنا لنندمج، وليتم تجاهل كل خبراتنا التي أتينا بها.
– السيرة التي كتبتها موجعة ومتعبة، لكنكِ اكتشفتِ طريقك بعدها، فإلى أي مدى عندما نمتلك جرأة كتابة السردية تصبح الخيارات أمامنا مفتوحة، أو تتبلور خياراتنا؟
كتبت سيرتي الجزء الأول، ورغم أنني لم أكتب كل التفاصيل، فلم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، قد أكون بعد الكتابة قد تخلصت من الرقابة الذاتية. وصلت لمرحلة أنني أثناء الكتابة الآن أكون أنا وذاتي فقط، وحتى الشياطين التي تقول لي عائلتك والمجتمع، هذه الشياطين نفسها الآن صارت هي التي تحفزني لأواصل الكتابة، دون أن يكون هناك أي شيء يوقفني عن التعبير بكل وضوح عما أراه من ناحية فكرية أو كتابة عن الجسد أو الاحتياجات الجنسية كما أحسها.
وعبر كتابتي للكتاب الأول شعرت بالنضج، وكانت كتابتي مشحونة بالعاطفة، الكتابة عن الحب والخذلان، كنت أهرب قليلاً أثناء التعبير عنها بالكتابة بطريقة شعرية، فكانوا يسألونني هل أنت شاعرة، حقيقة لا، بل كانت طريقة للهروب، لكن الآن كلما كتبت أكثر، وقرأت أكثر، أشعر أنني انعتقت أكثر من الخوف الذي يسكننا، ومن الخوف من المجتمع. وهذا يجعل مسألة تشجيع النساء على الكتابة مهمة لأنني أريد أن تشعر كل النساء بمتعة الحرية التي أشعر بها، وعندما يشعرن بها سيشاركن، وستصبح أصواتنا أعلى وأكثر.
سعدت جداً عندما قامت زينب خوجة بإكمال كتابة سيرتها، وسعدت عندما شاركت ليلى حاجولة في بعض ورش مندي، كتاب سيرتنا، وكتاب جداتنا ثراء الذاكرة، الذي سيصدر الآن وسيدشن في معرض القاهرة للكتاب. اكتشفت أن الكثير من النساء اللواتي شاركن في الورش السابقة وراءهن نساء نسويات أصلاً دون أن يعرفن ذلك، وهذا جعل وعيهن يتراكم ويخرج في هذا الكتاب. فالمرأة تكتب وتتخلص من الألم الذي داخلها، وتشجع امرأة أخرى في نفس الوقت، ولذلك نحن النساء في المهاجر والمنافي، ستساعد كتبنا مستقبلاً في صياغة سياسات قد تساعد نساء أخريات بعدنا.
– هل يمكن أن تعتبر مفاهيم التقاطعية نوع من التواصل بين الفكر النسوي والفكر غير النسوي والذكوري ما بين النساء؟
طبعاً ممكن، لكن دعونا نتقاطع فيما بيننا كنسويات أولاً. وورش الكتابة الإبداعية قائمة على المفاهيم، مثلاً ربط السواد بكل ما هو سلبي، فأي مفهوم أو مصطلح يتم استخدامه مرتبط بالوعي السياسي والنسوي، هناك نساء تقول لكن لا أقصد ذلك، صحيح، لكنه يعني ذلك. تماماً كما يمكن أن نصف في الكتابة مثلاً (كانت عرجاء) هذا تمييز ضد امرأة من ذوي الاحتياجات الخاصة، فأنا بوعي واستخدامي للغة أكون قد جرحتها وميزت ضدها. فاللغة ليست مجرد لغة، إنما تكون لغة ومفاهيم. فنحن كنسويات بحاجة لنفهم بعضها ونسمع بعضنا. وما تقوم به السوريات النسويات السياسيات اليوم عمل عظيم جداً، وتعلمت منكن أشياء كثيرة، وأتمنى أيضاً أن يكون في كلامي ما يفيد ويوضح الوضع في السودان مثلاً.
أنا مثلا لم أعرف أوضاع النساء الكرديات بشكل حقيقي إلا عندما شاركت في ورشة أصوات نساء كردية. كانت فرصة لي لأسمع من النساء الأرتيريات قضيتهن أيضاً. وهناك ورش كان فيها نساء سوريات عربيات وسوريات كرديات، وسمعت منهن أنهن ولأول مرة يجلسن مع بعضهن ويحكين من غير خوف. وهذا أكبر إنجاز بالنسبة لي.
– برأيكِ هل من الصحي والنسوي أن نكتب عن معاناة النساء دون الكتابة عن نجاحاتهن؟
حسب الموضوع، مثلاً في كتاب أنثى الأنهار، تحدثت فيه كيف قدمت امتحان الشهادة السودانية لخمس سنوات إلى أن استطعت أن أحصل على شهادة في الإعلام. كتابي أنثى الأنهار من سيرة الجرح والملح والعزيمة، أعطى الناس عزيمة. وحتى الآن تصلني رسائل من شابات يقلن: “نحن قرأنا الكتاب وهذا الكتاب أعطانا العزيمة، رغم التشرد والاكتئاب”، وهن نساء يعشن داخل السودان وليس في أوروبا.
تعرضت مثلاً لعنف جسدي من دكتوري في الجامعة لأنني كنت رئيسة الرابطة لكلية الإعلام، فأمور كهذه قد لا يُكتب عنها، أنا كتبت عنها لأن هذه الأمور تشجع نساء أخريات، وقد تكون نساء أخريات أيضاً قد دفعن الثمن قبلي، وكتبن بجرأة وشجاعة وشجعنني بدورهن على الكتابة.
أول روائية سودانية كتبت رواية في الأربعينات وصدرت روايتها بعد وفاتها في السبعينات كان اسمها ملكة الدار محمد، وكانت أستاذة وعضوة في الاتحاد النسائي. اسم الرواية (الفراغ العريض)، وأعتقد أن هذا الفراغ يجب أن نملأه، بأن نشجع بعضنا البعض، فالتخلص من الألم هو إنجاز.
– النساء في بلاد الاغتراب اختبرن مقاومة من نوع آخر. هذه مقولة لكِ في إحدى لقاءاتك، كيف انعكس ذلك على هويتهن الجندرية؟
بداية المصطلح أقرب للمنفى من الاغتراب، لأن الاغتراب قد يكون اختيارياً أكثر. بالنسبة للانخراط في منظومة المجتمع المدني الموجودة والتي تتقاطع معي في طريقة تفكيري، ويكون فيها فرص ليكون صوتي عالياً، استفدت منها كثيراً، لأن الصوت الذي أتحدث به حالياً ليس صوت إشراقة فقط، إنما هو صوت يبدأ من جدتي التي بسببها أعلنت عن ورشة (نكتب عن جداتنا)، لذلك بالتأكيد الكتابة تجربة إيجابية لأننا قد نكون في ورشة ونسمع مفردات وتمييز ضدنا وضد أخريات، فإذا لم نكن ولم نسمع هذا الكلام الجارح، فلن يعلو صوتنا ونتمكن من إيصال الفكرة.
أنا مع الحوار، ليس لنا طريق غيره، وعبره يمكن أن نبني جسور تربطنا أكثر مع شبكات أخرى. الهجرة تجربة وفرصة للتحرر بالمعنى الإيجابي، وهو طريق للانعتاق من الكثير من الأفكار التي تعيقنا كنساء، لأننا دائماً نحمل في دواخلنا عسكري صغير، وإذا لم نقاومه سيكبر وسيصبح دكتاتوراً، ولن نستطيع مقاومته بسهولة.
تجربتي في الحراك النسوي بدأت في السودان وليس في أوروبا، بالعكس، تجربتي داخل السودان أفادتني كثيراً لأعرف وليكون لدي استعداد للمعرفة. وليس هناك تغيير دون أن يجرحنا.
أعتقد أن هناك الكثير من النساء ساهمن فيما أنا عليه الآن، ولعبن دوراً في حياتي، ومنهم نوال السعداوي. كل النساء التي شاركت في الورش أيضاً غرسنَّ الياسمين والريحان في حياتي. الإضافات الإيجابية هي التي ساعدتني ليبقى شغفي في العمل العام.
– قلتِ إن النساء يشعرن بالقلق عندما يعبرن عن نسويتهن، كيف عالجتِ هذا القلق؟ وما نصيحتك لنا كنسويات سوريات لمواجهة هذا القلق؟ فأنا كنت وما زلت أعاني عندما أقول أنا نسوية.
القلق شيء إيجابي، يجب أن نبقى قلقات لنعمل، ولنعرف أنفسنا كنسويات، وهو ما جعلنا أكثر قدرة على التواصل مع الآخر وأن نسمع منه، لا تتنازلي عن قلقك، ولا تتخلصي منه، إذا تخلصنا منه سننطفئ، لأن القلق معادل للشغف وحب الحياة، مهما كانت المرارة التي فيها، نحن لا ننهزم، وحتى لو وقعنا سنقع واقفات.
سمعت مقولة أحببتها “لا تتخطى الأحجار، إنما ضعها فوق بعضها وارتفع وصل للقمة” رغم أن الحجر يمكن أن يسبب لنا ألمًا كبيرًا.
حافظن على القلق، لا يجب أن نكون هادئات.