الكلمة الافتتاحية للمؤتمر الثاني للهيئة العامة للحركة السياسية النسوية السورية


الكلمة
الافتتاحية لعضوة الحركة السياسية النسوية السورية عفراء جلبي

في
افتتاح المؤتمر الثاني للهيئة العامة للحركة السياسية النسوية السورية
الكترونياً

في ٢ أيار ٢٠٢٠



السلام عليكن جميعاً ورمضان مبارك، 

صديقاتي ورفيقات
الدرب، المجدات الرائعات المحبات (وأيضا الصابرات القابعات في بيوتكن في زمن
الكورونا) والمكافحات في رحلة العدالة والسلام والديمقراطية، كم هو جميل أن نكون
اليوم مع بعضنا. وأعرف أنكن تشعرن بالقرب رغم كل الجبال والمحيطات التي تفصل
بيننا. نشكركن على كل الجهود العظيمة التي قمتن بها خلال العام الفائت، و يسرنا
جميعاً أن نسمع ونتابع في الجلسات القادمة تفاصيل أكثر عن الإنجازات والأنشطة
والمبادرات التي كنا حتى عن بعد نشعر بكمية الجهود والإخلاص فيها، وأيضاً القدرة
الكبيرة على العمل على عدة جبهات.  

أريد أن أبدأ بشكر
السيدة فردوس البحرة على كلماتها الافتتاحية في اللقاءات السابقة. ولكن تعرفون
ماذا حصل لآدم وحواء؟ 

بعد الفردوس وقعوا
على الأرض… 

ولكن كيف يمكن أن
نعود إلى الفردوس؟ ربما هذا السؤال مركزي في الأديان الإبراهيمية ولكن في عمقه
يحمل أيضا تساؤلاً سياسياً عن إمكانية خلق فردوس في عالمنا الذي لا نتردد في تدميره
وتلويثه وتهميش كائناته بالرغم من أننا منشغلون جداً في استضعاف وظلم بعضنا
البعض. 

هناك أسطورة
صومالية تقول بأن الرجال والنساء كانوا يحكمون العالم سويةً بسلام ووئام، ولكن
النساء اخترن أن تنجبن الأطفال، وكن سعيدات برعاية الأطفال، ومشغولات جداً في
بيوتهن، وعندما أردن أن يخرجن للعالم مرة أخرى اكتشفن بأن الرجال كانوا قد
استحوذوا على كل المواشي والقطعان واستلبوا الأرض وتقاسموا كل شيء فيما
بينهم… 

كما ونجد صدى لهذا
في قصة سليمان وبلقيس، ملكة سبأ، التي “أوتيت من كل شيء” والتي كما قال
القرآن كان “لها عرش عظيم،” ولكن سليمان فكر وخطط وتآمر وجند الجن
والإنس لسرقة عرشها. 

وفعلاً لن نفهم وضع
المرأة بدون فهم تقاطع قوى السياسة والدين في أخذ عرشها وإبعادها عن سدة القرار.
إن ثقافاتنا ونظم حياتنا مصممة للمحافظة على العرش المسروق وعلى تبرير، وشرعنة هذا
الإبعاد للمرأة عن الحكم. وتستعمل أطرنا وأنساقنا الثقافية كل الوسائل لإعطاء هذا
التهميش للمرأة (والآخر) بعداً من القداسة وأيضاً شكلاً من الحتمية التاريخية. 

ولكن علينا أن
نتأمل جيداً أوضاع العالم الذي سُرق فيه عرش المرأة. 

كيف يبدو هذا
العالم الذي ما تزال فيه بلقيس لاجئة، وسجينة، ومغتربة، وأماً وزوجة لشهيد
ومفقود؟ 

إذا تأملنا هذا
العالم عن قرب سنجد بأن وحداته الصغيرة تعبر عن شكل نظامه الأكبر (مثل الهولوغرام،
حيث الجزء الأصغر يحاكي الأكبر فالأكبر أو العكس)، فكما يقول الكاتب السوري ياسين الحاج
صالح بأن سوريا ليست في العالم ولكن العالم في سوريا، لأن ما يحدث في سوريا يشي
بما يحدث في العالم، ويكشف آليات عمل الهيمنة العالمية. فالأزمة السورية تعكس
أبعاد الأزمة العالمية. 

لقد حاول السوريون
والسوريات أن يستعيدوا كرامتهم، وأن يتشاركوا في صناعة عرش جديد، ولكن ما خفي
علينا أن العالم الذي نعيش فيه قد أُسس بنيانه على أدوات السرقة والفساد وسفك
الدماء، وخلق متلازمة عسكرية ذكورية بهيمنة اقتصادية عنيفة تجاه الإنسان والبيئة.
ولا يمكن فكفكة هذا العالم بنفس أدوات هذه المتلازمة، إلا إذا كنا نريد فقط أن
نسقط هذه الأنظمة لنجلس في مكانها. ولكن إن أردنا أن نخرج من المتلازمة كلها
ونتعافى من مرض الطاغوت، فعلينا أن نفكر جدياً بأدوات جديدة، فكما قالت الشاعرة
الأمريكية السوداء أودري لورد، “لا يمكن للعبد أن يفكك صرح السيد بأدوات
السيد.” وحتى إن نجح أحدهم في اختراق الصرح وسرقة العرش والجلوس عليه، فسيبقى
عرشاً مسروقاً في لعبة قد يتغير لاعبوها بينما نبقى سجناء لها في دورة تعيد تكرار
نفسها وكأن الزمان قد علق في حلقة واحدة من المسلسل التاريخي. التحدي ليس في
التغيير. التحدي يكمن في الخروج كلياً من لعبة تحافظ على نفسها مهما تغير لاعبوها. 

ولهذا لا يمكن أن
نفكر بطرق جديدة لتغيير اللعبة دون أن تعود بلقيس إلى الحوار. لا يمكن خلق مخارج
حقيقية وجديدة دون أن يعود الجميع إلى المحادثة. 

لماذا أقول
محادثة؟ 

لأنه هنا تكمن
بوابات التحول والبدائل الجديدة خارج الصندوق، صندوق الاستبداد والهيمنة الذي
يستعمل الحديد والنار ويبذر ويسرف في صرف الموارد للبقاء في القوة. بينما البدائل
الجديدة تكمن في الخروج من هذا الإسراف ومن هذا الهدر الهائل للطاقات والموارد
وتدخل في عملية التحول بأدوات جديدة وكذلك اقتصادية. 

أزمتنا في سوريا،
والمنطقة بشكل عام، عميقة ومعقدة. 

علينا أن نكون
صريحين مع أنفسنا. فكم من التحديات والعمل أمامنا عندما نرى حجم الدمار والخراب
والقلوب التي تنافرت والغل الذي عشعش في كل الزوايا، وكل المآسي والهجرات!

ولكن أريد أيضاً أن
أقول أن ما يبدو لنا عندما ننظر للمشكلات من وجهة نظر المتلازمة الذكورية العسكرية
الحربية التي تعتمد على الحديد والسلاح والمال، وعلى الهدر والدمار. إلا أن الأمر
يبدو مختلفاً كلياً عندما ننظر إليه من خارج هذا الصندوق، مع البدائل الجديدة. 

أكبر الأدوات التي
تصنع التحولات النوعية في التاريخ هي التحولات الفكرية، هي الانقلابات التي نعيد
فيها تأويل الأشياء من حولنا بطريقة جديدة كلياً. وهذا يعني أنها انقلابات تحدث
داخل اللغة. فالفيلسوف الألماني، هانس-جيورج غادمر، يقول إن كل الكائنات لا تقدر
العيش إلا في بيئة معينة، فالدب القطبي يعيش في الثلج، والجمل في الصحراء، والسمكة
في الماء، وهكذا دواليك، وصحيح أن الإنسان يعيش داخل بيئة طبيعية ولكن ما يختلف في
الإنسان أنه يعيش في “عالم.” أي أن عالمنا هو عالم مكون لغوياً. قيمنا،
أحلامنا، الماضي، الحاضر، المستقبل، ما نحب وما نكره، كلها، كلها، نعبر عنها داخل
اللغة. الآن وأنتم تنصتون لي ذهبنا إلى أماكن عديدة وتحركنا كثيراً، ولكن كلها حدثت
داخل اللغة. 

إذا فكرنا فيما
يقوله الفيلسوف غادمر فإننا نجد أن لغتنا هي فعلاً حدود عالمنا لأنها هي الإطار
التفسيري الذي نعيش من خلاله كل شيء. ولذلك ممكن أن تتحول لغاتنا إلى سجون تعيقنا
وممكن أن تتحول أيضاً إلى بوابات تفتح لنا آفاقا أوسع وتبدأ بخلق عوالم جديدة
وفضاءات رحبة. فاللغة قادرة أن تخلق الكراهية وقادرة أن تخلق الحب، وقادرة أن تخلق
الاستبداد وقادرة أن تخلق الحرية. 

أقول لكم هذه
الفكرة لأنها أحد أدوات المنظومة البديلة التي يمكن أن نفكر فيها لنخرج من
المتلازمة الذكورية العسكرية. وفي اللحظة التي نعتبر فيها الكلمة هي الساحة
الحقيقية عندها نكون حيدنا السلاح كقيمة مفصلية لتقرير أي مصير. وعندما تصبح
الكلمة هي الساحة فإننا نكون بدأنا بثورة فكرية لا يعود ممكنا بعد بدئها التراجع
عنها، لأن هذه هي طبيعة الفكر. لا يمكن أن يرتفع وعيكِ لمرحلة أخرى ثم أن يكون
بإمكانك الرجوع عنها. لا يمكن لطفلة أنهت الابتدائية أن نطلب منها أن تعود أمية.
هكذا طبيعة الفكر، لا يمكن عندما نطلِع ويتوسع أفقنا أن نعيد تضييقه ولا يمكن بعد
فتح عقلنا أن نعيد إقفاله. 

هذا العالم الذي
نعيش فيه عندما نكتشف مفاتيحه فإننا ندخل في فردوس مليء بمجالات وأبواب وحقول شتى
في القانون، والعلوم، والأدب، والفلك، وتصبح عملية لا يمكن إيقافها. 

هكذا ندخل في مس
الكود الوراثي في أي ثقافة. بدل مقارعة الاستبداد وهدر الموارد، والبقاء في عالمه
الذي خلقه بشعارات عن أبديته، مُوقفاً حركة الزمان والتحولات، وفارضاً لفكر موحد لا
يسمح فيه للآخر بالوجود، أي أنه عالم بثنائيات حادة لا يسمح إلا بالأبيض والأسود،
بدل كل هذا وبدل مقارعته داخل عالمه علينا أن نفكر جيداً بأننا فعلا نمتلك أدوات
ثمينة لنخلق عالماً بديلاً. ولهذا ومن هذه الزاوية خارج صندوق الاستبداد فإن
الرأسمال الحقيقي هو قدرتنا على انتاج فكر جديد، ونظريات سياسية جديدة، وقوانين
جديدة، وأدب جديد يليق بنا ويعوض عن كل العذابات التي مر بها السوريون
والسوريات. 

عندما نفهم قوة
الإبداع والفكر سيتغير مفهومنا عن الحرية بشكل جذري، وسنعرف بأن حريتنا لا تقبع على
كرسي دكتاتور علينا التخلص منه لنيلها، وإنما تقبع وراء خوفنا، وتقبع تحب تقديسنا
لأدوات الإكراه، وتقبع في عدم تقدير ثرواتنا العظيمة التي بيدنا. حينما نفهم هذا
نكتشف أننا أصلا أحرار، وأننا أصحاب أدوات هائلة لخلق أفكار جديدة وعوالم
جديدة. 

هذا هو عرش بلقيس،
عرش الإبداع والفكر، ولهذا قال الهدهد “إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل
شيء ولها عرش عظيم.” 

لهذا قال جلال
الدين الرومي: 

لا تخف… (أو
فلنقل لا تخافي) 

قم وخذ فأساً واكسر
به سجنك المظلم الذي صنعته من الأبيض والأسود 

وأخرج إلى عالم
مليء بالألوان. 

أشكركن كثيراً وأعرف
أنكن قادرات على كسر سجون كثيرة، والخروج إلى عالم مليء بالألوان، بالفكر،
بالعدالة، وبالسلام.  

أيتها الصديقات، أدعو لكن في هذا الشهر المبارك بأن تؤتوا من كل شيء
يخدم العدالة ويحقق الديمقراطية في سوريا وبأن تستعدن عرشكن العظيم، ونراكن في سدة
صناعة القرار.