ترى هل ما زال النضال اللاعنفي متاحاً في سوريا؟
هل ما يزال المستقبل مفتوحاً على احتمال عودة الثورة إلى سيرتها الأولى في نضالها اللاعنفي؟
أثبت النضال اللاعنفي في العديد من التجارب عبر التاريخ القديم والحديث أهمية استخدامه في مواجهة الواقع القمعي، وقدرته على تحرير الشعوب من الأنظمة الاستبدادية أو الاحتلالات الخارجية على حد سواء، ولعل أبرزها في القرن الماضي التجربة الغاندية في مواجهة الاحتلال البريطاني، والتجربة اللوثرية لحركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ لتحرير الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية من العنصرية، وما حصل في جنوب أفريقيا ضد الاستبداد العرقي بقيادة نيلسون مانديلا، وكذلك ما حصل في العقد الأخير لنظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر.
لا شك أن أي نظام استبدادي هو نظام عنيف في الجوهر، وإن التاريخ المعاصر لا يذكر أن الانتصارات العسكرية ولدت نظاماً ديمقراطياً في حال انتصار المعارضة في حربها ضد نظام مستبد، فالوقائع غالباً ما تشير إلى ولادة نظام استبدادي آخر بحجة الحفاظ على ما يسمى “مكتسبات الثورة”، فالثورة التي تنتصر بالعنف لا تحكم عادة إلا بالعنف، والحركات السياسية التي تنخرط بالأعمال العسكرية تضعف فيها مع الوقت قدراتها المؤسساتية وتغيب عنها الديمقراطية.
من جهة أخرى، تفضي عسكرة الثورة بالضرورة لإقصاء شريحة واسعة من المجتمع عن النضال ضد النظام الاستبدادي القائم، بحيث تقتصر المقاومة على أولئك القادرين على خوض الأعمال العسكرية والمؤهلين لها، ومثالها الحسي ما حدث للثورة السورية التي أنهت عسكرتها النضال الشعبي اللاعنفي، مُزيحة بذلك الثورة عن أهدافها وطبيعتها اللاعنفية، واستبعدت مئات الألاف من الأصوات التي صدحت شهوراً عبر مظاهراتها واعتصاماتها وأساليبها اللاعنفية بالمطالبة بالحرية والكرامة لجميع السوريات والسوريين. وبشكل خاص المرأة التي شاركت في كل تفاصيلها وكانت فاعلاً أساسياً وفي صفوفها الأولى ضد النظام الحاكم الذي يعمل على السيطرة على النساء بحجة الحرب والدين، وضد كل السلطات والممارسات والقوانين التي قيدتها.
وما حدث في سوريا أن عسكرة ثورتها كانت عاملاً من عوامل افقادها الكثير من شرعيتها وعدالتها، بل يمكن القول أن الخيار العسكري للثورة السورية أفضى إلى كارثة أدخلتها في دوامات العنف المتبادل بحيث أصبح من الصعوبة – كما يرى البعض- عودة النضال اللاعنفي، فالحامل الأساسي للنضال الشعبي السلمي لم يعد متوفراً في مجتمع أنهكته الحرب وطبيعة الصراعات التي ابتعدت كثيراً عن مسارات الثورة الأولى، خاصة في ظل وجود أمراء الحرب والميليشيات المتعددة والفصائل الإسلامية المختلفة في الرايات، والمتفقة على اعتبار الممارسات الديمقراطية كفراً لا مكان له في مجتمعنا، وفي ظل تبعية العديد من التجمعات والتكتلات السياسية للدولة المتدخلة والاحتلالات المتعددة في سوريا، إضافة طبعاً لارتهان النظام السوري للدول الداعمة له والممثلة بالاحتلالين الروسي والايراني.
إن السردية السابقة لا تلغي بأي حال من الأحوال أن الفاعل الأساسي في تحويل الثورة السورية السلمية إلى نضال عنفي هو النظام الاستبدادي الحاكم في سوريا منذ خمسة عقود، والمتمرس في قتل الحياة السياسية ودفع معارضيه لاستخدام الوسائل التي يجيد التعامل معها.
نظام أزهق الكثير من الأرواح تعسفاً ومارس شتى أنواع القمع والبطش وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتهجير القسري والتغيير الديمغرافي.
نظام أجاد اللعب على العصبيات القومية والدينية والطائفية داخل المجتمع السوري، ينقل الصراع عبر دوامات من العنف من احتجاجات عامة هادفة لإسقاط نظام قمعي إلى صراعات فئوية، تكون مسوغاً لتحركاته العسكرية التي استخدمها لقمع الثورة مستجدياً تحالفات إقليمية ودولية، وجاعلاً من سوريا بلد مرهونة للتجاذبات بين مصالح الدول.
لقد عرفت الثورة السورية ما يزيد عن العام نضالاً سلمياً واسعاً بأشكال متعددة ضد الاستبداد من مظاهرات في معظم المحافظات ذات طابع فني شعبي، كتابات على الجدران، لافتات معبرة تميزت بها بلدتا كفرنبل وعامودا، اعتصامات أشهرها اعتصام الساعة في حمص، والتي تحولت لمجزرة راح ضحيتها ما يزيد عن مئتي مواطنة ومواطن.
ثورة مارست الإضرابات وأهمها “إضراب الكرامة”، ولونت نوافير المياه باللون الأحمر، وبثت الأغاني الثورية والخطابات عبر مكبرات الصوت المدفونة بين الأشجار أو داخل الحاويات.
ثورة أنتجت الفن والأدب والموسيقى، وامتهنت الثقافة التطوعية وبخاصة الإغاثية، التي تجاوزت في مراحلها اللاحقة قدرات السوريات والسوريين.
ثورة ظهرت فيها التنسيقيات المنظمة لتقود الحراك السلمي الشعبي، والمجالس المحلية لإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وغيرها العديد من أشكال النضال اللاعنفي ضد الاستبداد.
هي نفسها الثورة التي ابتعد عن نبضها بعض النخب السياسية السورية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهي ذاتها الثورة التي افتقرت إلى كتلة أو جسم أو حركة سياسية، تحظى بثقتها وتمثيلها، تنظم حركتها وتضبط إيقاعها بين التصعيد والتهدئة.
هي الثورة التي ما كان لأي نظام قمعي أن يتعامل معها إلا بخوف من مآلاتها، فكان أن اعتقل أبرز ناشطاتها ونشطائها، أَخفى بعضهن/م وقتل الأخر، سهل تهريب الأسلحة وادخال المقاتلين الأجانب عبر حدوده، أطلق سراح بعض الجهاديين من سجونه، ليشكلوا لاحقاً ما عرف بالفصائل ثم اختزل الثورة بهم، يحاربهم سياسياً وعسكرياً بوصفهم إرهاباً.
ثورة شاركت المرأة في كل تفاصيلها وكانت فاعلاً أساسياً وفي صفوفها الأولى، ضد النظام الحاكم الذي يعمل على السيطرة على النساء بحجة الحرب والدين، وضد كل السلطات والممارسات والقوانين التي قيدتها، لكن طالها القمع كما طال جميع المحتجين في كل المناطق السورية.
وقد يكون من المفارقة القول إن أكثر السمات وضوحاً حول مستقبل سوريا هو “الغموض“، فبعد تسعة أعوام من انطلاق ثورتها والمراحل المختلفة التي مرت بها، لا يزال هذا المستقبل مفتوحاً على احتمالات عديدة لعل منها ترجيح عودة الثورة إلى سيرتها الأولى؛ احتجاجات ومظاهرات، وأشكال متعددة للنضال السلمي في مواجهة أنظمة استبدادية قمعية واحتلالات خارجية متعددة وبفعالية الجموع السورية المختلفة بانتمائها والمتوحدة حول الضرر المشترك من مآلات الأوضاع الراهنة، خاصة بعد ما شهدته ساحات درعا والسويداء في الأشهر الأخيرة.
تؤكد الحركة السياسية النسوية السورية في رؤيتها السياسية أن مختلف مناطق سوريا مؤهلة لأن تكون ساحات نضال ضد الاستبداد، وهي تعتبر أن العمل على استنباط استراتيجيات للنضال اللاعنفي والوسائل المحددة لها جزء من القوة التي تحرص الحركة على امتلاكها في مواجهة الاستبداد بكافة أشكاله سعياً للحرية والكرامة، وتلبية لمبادئ حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة.
إذ أن تعزيز القدرة على إدارة المواجهة بشكل واعٍ ومنضبط وتحديد الوسائل الواجب استعمالها في كل مرحلة من مراحل مواجهة النظام أو الاحتلال الخارجي تعتبر مقياساً للقوة والضغط باتجاه تحقيق الحرية والكرامة والديمقراطية الكاملة، إن التحدي الأبرز لمواجهة الأنظمة الاستبدادية يكون برفض استخدام العنف الذي تستعمله هذه الأنظمة كسلاح.
هذا ما تذهب إليه الحركة السياسية النسوية السورية عند تحشيد القوى الفاعلة على الأرض وأن يكون صوتهم حاضر في كل المحافل الدولية، حيث تعمل الحركة من خلال فريق مختص لوضع تصور استراتيجيات بديلة لا عنفيه وشاملة في سوريا لإضعاف النظام، وضمان إشراك المرأة في جميع عمليات السلام وصنع القرار السياسي.
وتؤكد الحركة السياسية النسوية السورية على ضرورة استمرار هذا النضال فإن القاعدة في النضال اللاعنفي ترتكز على أساس العمل السلمي المستمر ضد الاستبداد والذي قد يمتد عقوداً من الزمن، واللاعنف ليس مجرد معركة آنية ضد نظام ديكتاتوري بل هو ابتكار متجدد للطرق الخاصة في مواجهته ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه، والبحث في الأساليب الاستراتيجية لمقاومته.
لا شك أن الوصول إلى بناء دولة المواطنة والمساواة يستلزم ضرورة الاستفادة من المرحلة السابقة فيما يخص تنظيم الثورة والاستقطاب السياسي للشارع السوري، لذلك وجب الانتباه إلى جوانب القصور في العمل السياسي وبخاصة منها ما يمكن تسميته “أزمة التمثيل”.
إن عودة النضال اللاعنفي إلى الساحات السورية يستلزم بالضرورة استعادة تفاعل السوريات والسوريين، كما يتطلب ابتعاد القوى السياسية عن خطاباتها القومية أو الدينية أو الطائفية أو حتى النخبوية، خاصة وأن هذه الخطابات لم تنجح على ما يبدو في الوصول إلى قلوب أو عقول معظم السوريات والسوريين، وكذلك الابتعاد عن التعالي السياسي على أساس الارتباط بالنفوذ الدولي أو الاقليمي.
تلعب الحركة السياسية النسوية السورية دوراً حيوياً من خلال عضواتها وأعضائها في النضال الفكري والقانوني والسياسي بالنضال اللاعنفي الذي سيستمر من أجل تحقيق تغيير حقيقي في المجتمع السوري، والقضاء على كافة الأنظمة الاستبدادية، ومحاسبة الذين ينتهكون حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، وخاصة حقها في أن تكون فاعلة في مراكز صنع القرار، لأننا في الحركة مؤمنات ومؤمنون كما تنبأت “أوليف شراينر” في “المرأة والعمل” بأن اليوم الذي تتخذ فيه المرأة مكانها إلى جانب الرجل في الحكم وتنظيم الشؤون الخارجية لجنسها؛ سيكون هو اليوم الذي يؤذن بالقضاء على الحرب كأداة لتسوية الخلافات بين الناس.
رويدة كنعان