مؤتمر بروكسل الثامن: بين التعافي المبكر وجمود الحل السياسي

 

في 27 أيار 2024، انتهت المرحلة الثانية من مؤتمر بروكسل في نسخته الثامنة لدعم مستقبل سوريا والمنطقة، الذي نظمه الاتحاد الأوروبي، والمتمثلة بالاجتماع الوزاري الذي ارتكز على نتائج “يوم الحوار” الذي عقد في 30 نيسان. حيث تمَّ نقل النقاط الرئيسية من يوم الحوار من قِبل ثلاثة مقررين من المجتمع المدني السوري. ولقد أكد الاجتماع الوزاري الذي ضم مندوبين/ات من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والدول المجاورة لسوريا والدول الشريكة الأخرى والجهات المانحة والمنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، على الحاجة إلى عملية سياسية في سوريا تتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وضرورة تجنيد الدعم المالي الحيوي لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً للشعب السوري والمجتمعات المضيفة لهم.

كانت المرحلة الأولى من مؤتمر بروكسل، التي عقدت في 29 و30 نيسان، بهدف تعزيز دور المجتمع المدني السوري سياسياً، وحشد التمويل والدعم. وهو ما كان فرصة للحوار والنقاش بين السوريين/ات الذين حضروا بأعداد كبيرة من مختلف المناطق السورية ودول اللجوء، ما قد يصب في تبني مقاربة جديدة للقرار 2254 لتحريك العملية السياسية المجمدة، وإعادة النظر في القرار وتكييفه مع التطورات في الواقع السوري الجديد، بعد مرور سنوات من إصداره في 2015.

هذا التنوع والحشد لهذا العام، ربما عكس حالة العجز التي أبدتها الدول الغربية والأمم المتحدة إزاء الملف السوري، مما يعني ترك مساحة أوسع للحوار (السوري – السوري) من خلال اللقاءات والأحداث الجانبية الكثيفة التي رافقت يوم الحوار، الذي حضره أكثر من 600 مشارك/ة توزعوا على ست حلقات نقاش مواضعية ركزت على: العملية السياسية والقرار 2254؛ والتعافي المبكر والقدرة على الصمود؛ الصحة والتعليم؛ فرص كسب العيش؛ وقضية المفقودين/ات والمساءلة.

ونتج عن المؤتمر بمرحلتيه، تعهدات الجهات المانحة بتقديم مساعدات مالية بقيمة 7.5 مليار يورو (8.1 مليار دولار) على شكل منح وقروض (إجمالي التعهدات سيكون 5 مليارات يورو على شكل منح، بينها 3.8 مليار يورو لعام 2024، و1.2 مليار يورو للعام المقبل وما بعده، أما باقي المبلغ “2.5 مليار يورو” فسيكون على شكل قروض.( وهو ما جعل المبلغ الإجمالي يتجاوز ما كانت الأمم المتحدة قد ناشدت لجمعه والبالغ (4,07) مليار دولار، لكنه بقي أقل بكثير من المبلغ الذي تم التعهد به العام الماضي الذي شهد زلزالاً مدمراً ضرب تركيا وأربع محافظات سورية، وكذلك أقل من الأعوام السابقة عموماً. وهو ما يؤشر إلى إرهاق المانحين، حيث يتركز اهتمام العالم على الصراعات في أماكن أخرى، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا والسودان وغزة. بالإضافة لذلك فمبلغ التعهدات والقروض سيتم توزيعه على دول الجوار التي تستضيف لاجئين/ات سوريين/ات، أما المبلغ المخصص لداخل سوريا فإن 66% منها سيخصص لمناطق النظام.

إن غلبَة ملف اللاجئين/ات السوريين/ات على باقي الملفات لهذا العام، قد يكون مرده أن المؤتمر يأتي وسط أحداث كثيرة تعصف بالمنطقة عموماً، وبالجغرافيات السورية المتنوعة خصوصاً، إذ تصاعدت موجات العنصرية في لبنان تجاه اللاجئين/ات السوريين/ات، والمطالبات بترحيلهم/ن، مما لم يكن كافياً معه تخصيص مبلغ مليار يورو خلال المؤتمر لدعم لبنان، والذي جاء مع اشتراط الحد من الهجرة غير النظامية عبر المتوسط، فلأول مرة تتفق جميع الأطراف السياسية اللبنانية حول قضية اللاجئين/ات وتتفق مصالحهم على تحميلهم مآلات الأزمات التي تعصف بلبنان، وتطالب بضرورة إيجاد حل سريع سواء بترحيلهم/ن إلى سوريا، أو إلى بلد ثالث.

كما ما تزال أعداد كبيرة من اللاجئين/ات السوريين/ات تعيش في دول الجوار الأخرى، ففي الأردن هناك 1.3 مليون سوري/ة، 10% فقط منهم يعيشون في المخيمات التي تعاني من النقص في الغذاء والكهرباء، وتطالب الأردن بزيادة الدعم المقدم لها (كي لا يحرم الأطفال/الطفلات السوريون/ات من استكمال تعليمهم/ن في المدارس الأردنية).

وفي العراق هناك ما يقارب 400 ألف سوري/ة، بينهم 200 ألف فقط مسجلون بشكل رسمي، وهم محرومون من مستلزمات المعيشة الطبية والغذائية.

أما في تركيا، فهناك ما يقارب 3.7 مليون سوري/ة، في ظل سياسات تشديد وترحيل مستمرة تمارس ضدهم/ن.

هذا وكانت تقارير عدة صادرة عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى منظمات حقوق الإنسان، بما فيها منظمة العفو الدولية، قد أجمعت على أن سوريا ما تزال غير آمنة للعودة في أي جزء منها، وأن اللاجئين/ات السوريين/ات معرضون لخطر انتهاكات حقوق الإنسان. حيث اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيف بوريل” أن “الوضع في سوريا اليوم أكثر خطورة مما كان عليه قبل عام. في الواقع، لم يكن الوضع يوماً بهذه الخطورة كما أن الاحتياجات الإنسانية لم تكن يوما بهذا الحجم”. وأضاف “حالياً يحتاج 16.7 مليون سوري/ة إلى مساعدات إنسانية، وهو أعلى مستوى منذ بداية الأزمة قبل أكثر من 13 عاما”.

من جهة أخرى، لا تتوفر الأرضية المناسبة للحوار (السوري-السوري) الذي تدعو له منظمات المجتمع المدني، لاسيما أن النظام يسعى بوضوح إلى استخدام المنظمات والأفراد القادمين من مناطق سيطرته، لتمويل عجزه والتحايل على المجتمع الدولي لاستجرار الدعم، مع استمرار إصراره على عدم تقديم أي تنازُلات في الحلّ السياسي. 

بمعنى آخر، يريد النظام إلقاء عبء فشله وعَجْزه السياسي والحكومي والاقتصادي على المجتمع المدني، عَبْر دفعه لمطالبة المانحين بتقديم الأموال لمشاريع الخدمات والتعليم والصحة والبِنْية التحتية، التي فشلت مؤسساته في توفيرها.  

كل ما مضى يفسر استغراق المشاركين/ات في تحليل الواقع السوري وتوصيفه معظم وقت المؤتمر، دون القدرة على الانتقال إلى عنوانه الرئيسي بالحديث عن دعم مستقبل سوريا والسوريين/ات، وأدوات ذلك واستراتيجياته، وما يجب أن يفعله الفاعلون المحليون والدوليون بدلاً من الحديث عما فعلوه، وما قامت به المنظمات من أعمال لم تغطِ الكثير أمام تقييم الاحتياجات.  وقد يكون مرد ذلك هو النظام السوري نفسه الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم؛ حيث ما زال يُعطّل الحل السياسي، ويرفض تعديل سلوكه الأمني مما يعوق مساعي المجتمع الدولي لمعالجة قضايا المعتقلين/ات والمفقودين/ات، ويكرس صورة سوريا كبلد غير آمِن وغير مستقرّ.

وعلى الصعيد الداخلي السوري، ما تزال أحداث كثيرة تعصف بسوريا في مختلف جغرافياتها، حيث يستمر الحراك في الجنوب السوري في السويداء متمثلاً بالاحتجاجات والمبادرات من قبل المجتمع المحلي الذي يصر على استمرارها بشكلها السلمي، مع محاولات النظام لاحتوائه متمثلاً بتغيير المحافظ، بينما تستمر حالات الخطف المتبادل لأسباب متعددة منها تحرير معتقلين/ات أو مخطوفين/ات. ويستمر الوضع العام بالتأزم سواء اقتصادياً، أو بيئياً أو سياسياً.

ومن جهة أخرى، تستمر الاحتجاجات الشعبية في شمال غرب سوريا ضد سلطة هيئة تحرير الشام، للمطالبة بالمعتقلين/ات ولتحسين أوضاع الحياة الاقتصادية والحريات. في ظل زيادة التوتر الأمني بين الفصائل المتواجدة هناك، واعتقال ناشطين من الحراك.

وبالتوازي يستمر تردي الأوضاع الاقتصادية في مختلف المناطق، مع ارتفاع الأسعار وانخفاض الليرة إلى مستويات قياسية. ففي شمال شرق سوريا جاء تسعير القمح ليقسم ظهر المزارعين/ات السوريين/ات، ويزيد من سوء وتردي الأوضاع الاقتصادية وخاصة بالنسبة للفئات الفاعلة اقتصادياً وزراعياً. وهو ما قامت به الإدارة الذاتية رافضة حتى تسعير القمح حسب العام الماضي، مما تتجلى في زيادة التضخم في المنطقة كما في باقي المناطق السورية التي تعتمد على قمح الجزيرة في إنتاج الخبز.

كما جاء الإعلان عن مرض أسماء الأسد باللوكيميا، وهو ما اعتبره الكثيرون/ات (دون التشكيك بمرضها)، بأنه إعلان إقصاء لها عن ساحة التحكم بالاقتصاد السوري والتمويلات الخاصة بالمجتمع المدني، خاصة أن إعلان المرض جاء بعد أيام من مقتل مرافقها الشخصي علاء مخلوف.

كما اجتمع وزير الداخلية محمد رحمون مع فروع الأمن وعلى رأسها الأمن الجنائي وفرع مكافحة المخدرات، وأكد على عدم التعذيب الجسدي والمعنوي للموقوفين/ات لأنها تخالف المادة 53 من الدستور السوري! 

في الوقت الذي صدر تقرير مسرب عن مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية يتحدث عن تورط وكالات الأمم المتحدة العاملة في مناطق النظام بأنها تبيع وتشتري من شخصيات معاقبة دولياً، وبعضهم متهم بانتهاكات ضد الإنسانية، كسامر فواز وهشام عقاد.  

وسط ذلك تأتي انتخابات مجلس الشعب التي ترشح لها /12000/ مترشح ومترشحة، وقد طلب النظام حضور مراقبين/ات خارجيين/ات لمراقبة الانتخابات وشفافيتها! 

وعلى الصعيد الإقليمي، جاء مقتل الرئيس الإيراني والوفد المرافق له في تحطم الطائرة الرئاسية، منذراً بتغيرات خاصة في ضوء الخلافات الداخلية في إيران. وما قد يكون له أثر على المنطقة وخاصة الدول التي يوجد لإيران نفوذ سياسي وعسكري فيها. ويلاحظ تأخُر النظام السوري في إعلان الحداد العام لمدة ثلاثة أيام، حيث جاء بعد إيران ولبنان وهو ما يطرح تساؤلات حول تطورات قد تشهدها سوريا، خاصة أن هذا ترافق مع افتتاح السفارة السعودية في دمشق الذي جاء بعد القمة العربية، وتوريد قطع تبديل وصيانة للطائرات السورية لمطار دمشق الدولي من قبل السعودية. وعودة رحلات الطيران بين البحرين وسوريا، والسعودية وسوريا. 

دولياً، أصدرت محكمة باريس الجنائية بتاريخ 24 أيار، ولأول مرة، حكماً غيابياً بالسجن المؤبد على ثلاثة مسؤولين سوريين (علي مملوك، جميل حسن، عبد السلام محمود) والذين ما يزالون على رأس عملهم، بتهمة التواطؤ على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وذلك في القضية الخاصة بتعذيب وقتل مواطنين فرنسيين من أصول سورية وهما مازن وباترك الدباغ. 

وسط كل ذلك، جاء مؤتمر بروكسل للمانحين مع الترويج الدولي لعملية التعافي المبكر كبديل عن إعادة الإعمار المرتبط بالحل السياسي المجمد حالياً.

إننا في الحركة السياسية النسوية السورية نؤكد على مطالبنا الخاصة بالتمويل والمنح في إطار عملية التعافي المبكر والمتعلقة بـ:

  • ضمان التوزيع العادل للمساعدات ولعمليات التعافي المبكر بين كل المناطق السورية، وكذلك بين اللاجئين/ات في دول اللجوء. وضمان عدم استغلال المساعدات سياسياً أو سرقتها. مع مراعاة الاعتبارات الجنسانية في الوصول إلى الخدمات.
  • ضرورة وجود آليات رقابة أممية ودولية في كل عمليات ومشاريع التعافي بغية تجاوز كل ما يتعلق بالفساد أو غياب الاستراتيجيات الاجتماعية الفعالة، والتأكد من أن منظمات المجتمع المدني تعمل على تمكين النساء وخلق فرص عمل لهن، وتجاوز الأدوار النمطية في بيئة العمل.

إن الحركة السياسية النسوية السورية، ومن خلال ورقتها السياساتية المتعلقة بالتعافي المبكر من وجهة نظر النساء السوريات تؤكد على أن:

  • تقاطع الأوضاع الاجتماعية مع المعيقات البنيوية المتعلقة بالعادات والتقاليد المترسخة، مع مستويات المعيشة المتدنية تنعكس سلباً على إمكانيّة التعافي الاقتصاديّ للمجتمع، وتعزّز حرمان النساء من حقوقهن، في الصحة والتعليم وزيادة الأميّة في صفوف الفتيات، وارتفاع حالات الزواج المبكر، والحرمان من العلاج.
  • ضرورة إشراك النساء في التخطيط والتنفيذ لعمليّة التعافي أمراً لا غنى عنه، للوصول إلى تطوير إدارة الموارد والحياة الاقتصاديّة. مع تأمين بيئة حماية مناسبة لهم وخاصة في بيئة العمل مع وجود قوانين وسياسات حمائية لهن.

 

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية