الأوضاع المعيشية في مهب سنة من التغيير
- updated: 17 ديسمبر 2025
- |
تتنازع الأوضاع المعيشية للمواطن/ة السوري/ة بعد سقوط نظام بشار الأسد موجات من الغلاء في نهاية العام الأول من حكم السلطة الانتقالية، مترافقة مع عدم تحقيق الأمان والأمن الذي وُعِدَ به مع زوال النظام الديكتاتوري، ويتزامن ذلك مع زوال صفة الإرهاب عن شخصيات سياسية في السلطة الجديدة، واتخاذ الكونغرس الأمريكي قراره في إنهاء العمل بقانون قيصر، ومحاولة عودة السوريين/ات إلى حياتهم في شكلها الطبيعي مثل بقية شعوب الأرض.
الغلاء المتجدد:
تعود الحكومة السورية الجديدة إلى ذات سياسات بشار الأسد الاقتصادية، فرغم كل حديثها عن التمويل والاستثمار القادم إلى البلاد وتحسن الدخل للمواطن/ة السوري/ة في ظل السلطة الجديدة، إلا أنها أمام أول امتحان عملي لها أعادت سياسات حكومات بشار الأسد، حيث أعلنت عن رفع أسعار الكهرباء إلى مستويات تصل إلى 60 ضعفاً، إذ أن الشريحة الأولى حتى (300) كيلو واط لكل دورة شهرين، مدعومة بمقدار ثلثي كلفة إنتاجها، إذ بلغ سعر الكيلو واط (600) ليرة سورية، أي ما يعادل خمسة سنتات، أما الشريحة الثانية ما فوق (300)كيلو واط سعر الكيلو واط الساعي (1400) ليرة، أي ما يعادل (13) سنتاً، مع استمرار الدولة في تحمل جزء من تكلفة الإنتاج، لكن في الوقائع يؤكد أكثر من خبير أن قرار رفع الأسعار هو رفعاً كاملاً للدعم عن معظم المواطنين/ات، فالشريحة الأولى التي أعلنت الحكومة أنها مخصصة “لأصحاب الدخل المحدود” هي شريحة افتراضية.
وتم تحديد الشريحة الثالثة المعفون من التقنين (المؤسسات الحكومية-الشركات- المصانع) التي تحتاج كهرباء على مدار (الساعة 24/24)، سيكون سعر الكيلو واط الواحد (1,700) ليرة سورية، أي ما يعادل (13سنتاً)، والشريحة الرابعة المعامل والمصانع ذات الاستهلاك الكهربائي العالي (معامل الصهر وغيرها) سيكون سعر الكيلو واط الواحد (1800) ليرة سورية، أي ما يعادل (15سنتاً).
وجاءت ردود الفعل المباشرة في أكثر من مدينة سورية، وكان الأكثر انتشاراً وحضوراً احتجاج مدينة السلمية، بينما أكدت احتجاجات دمشق وغيرها من المدن على أن الشرائح الشعبية السورية غير قادرة على تحمل تبعات مثل هذا القرار، لأنه يبتلع أغلب الزيادة في الأجور التي حصلت بعد رحيل النظام البائد.
كما أن قرار شركة الاتصالات (سيريتل) في زيادة أسعار الباقات أثار استياء وغضب شرائح متعددة من المواطنين/ات السوريين/ات، إذ فوجئ المستخدمون/ات بارتفاع غير مسبوق، دون أي تحسن في خدمة الشركة التي تقدمها لهم، حيث أعيد تسعير الباقات بطريقة تظهر الفارق الكبير بين الأسعار السابقة والجديدة، فقد أصبحت الباقة الأسبوعية التي تتضمن 200 دقيقة و200 رسالة و3 جيجا بايت من الانترنت تباع بـ(12 ألف ليرة)، بعدما كانت لا تتجاوز ألفي ليرة فقط. ووصلت كلفة إحدى أكبر الباقات الشهرية والتي تمنح 800 دقيقة و800 رسالة و75 جيجا بايت من الانترنت إلى 300 ألف ليرة. وخفضت الشركة حجم البيانات في الباقات مع الإبقاء على السعر ذاته، حيث أصبحت باقة (10 جيجا بايت) الشهرية التي كانت متاحة بسعر 25 ألف ليرة تباع بحجم (1,5, جيجا بايت) فقط بالسعر ذاته، ما يشكل ارتفاعاً فعلياً في السعر ونقصاً في القيمة المقدمة للمستهلك/ة. وكذلك قامت بإلغاء الباقات اليومية التي كان يعتمد عليها الطلاب وأصحاب الدخل المحدود، وكانت كلفتها لا تتجاوز (500 ليرة)، أما اليوم فالخيار الأسبوعي يباع بـ(12 ألف ليرة)، واليومي بستة آلاف، ما يعني أن المستخدم/ة يحتاج إلى ما يقارب (180 ألف ليرة) شهرياً لتأمين الاتصال بالإنترنت.
وبمقارنة واقع خدمات الاتصالات في سوريا مع الدول العربية، تظهر الصدمة الكبيرة في مجال جودة الاتصالات من حيث التكلفة والسرعة، حيث نجد أن سوريا تسجل أدنى سرعة إنترنت بين الدول العربية (3,31 ميجابايت/ثانية) مع أعلى تكلفة للميغابايت (8 دولارات)، ما يعني أن المستخدم/ة السوري/ة يدفع أعلى سعر مقابل أسوأ خدمة، فهي الأضعف من حيث الجودة.
وضحت وزارة الاتصالات من خلال بيان رسمي لها أن الشركتين “خاصتان ومستقلتان مالياً وإدارياً”، وهذا يخالف واقع الشركتين اللتان تعلنان كل عام عن أرباح خيالية، والمواطن/ة السوري/ة هو الذي يدفع هذه الأرباح إلى هاتين الشركتين مقابل الخدمات المتواضعة التي تقدمانها، فشركة سرياتيل أعلنت عن صافي ربح بلغ 489 مليار ليرة سورية عن النصف الأول من العام 2025 فقط، كما أعلنت عن توزيع أرباح نقدية على مساهميها بنسبة مذهلة بلغت (8,840%)، بينما شركة MTN السورية، حققت صافي ربح قدره 114 مليار ليرة سورية خلال الفترة ذاتها.
هذه الأرقام تضع تبريرات الشركات بارتفاع التكاليف التشغيلية والحاجة إلى القطع الأجنبي موضع شك، وتكشف التناقض الواضح بين تصريح “عدم الكفاية” وأرقام “الوفرة” في البيانات المالية المنشورة للشركتين.
إن الوضع القائم لقطاع الاتصالات في سوريا يوضح أزمة الحوكمة والعدالة الاجتماعية، والتناقض بين أرباح الشركتين بالمليارات ومعاناة المواطنين/ات من أسعار باهظة وخدمة رديئة، إلى جانب غياب الفعالية والمنافسة العادلة، مما يخلق حلقة مفرغة تدفع بالمجتمع إلى مزيد من العزلة والتهميش. والحل الجذري يتطلب إرادة سياسية حقيقية لإعادة هيكلة القطاع، وفرض رقابة صارمة على الأسعار، وكسر احتكار الشركتين لضمان حق كل مواطن/ة في الوصول إلى خدمة اتصالات عادلة وبأسعار معقولة.
بذار القمح والخبز أيضاً
في 27 تشرين الثاني من العام الجاري أعلنت وزارة الزراعة تسعير بذار القمح بـ(500 دولار) للطن، كما أوردت صحيفة قاسيون العدد (1254) بتاريخ 1 كانون الأول 2025، الصادرة عن حزب الإرادة الشعبية، أن طن البذار يكفي لزراعة 33 دونما، أي أن تكلفة البذار للدونم الواحد تبلغ نحو 15دولارًا، قد يبدو هذا الرقم بسيطًا لولا أن كل ما حوله ينفجر بالغلاء. فالفلاح يدفع للدونم الواحد نحو 10 دولارات للفلاحة، وقرابة 9 دولارات لأجور البذار، وما لا يقل عن 40 دولاراً ثمن أسمدة.
أي أن الدونم قبل أن يسقى، وقبل أن يرش، وقبل أن يعشب، وقبل افتراض حصول أي كارثة طبيعية أو قلة أمطار، يكلف ما يقارب 75 دولارًا بالحد الأدنى، هذا الرقم مجرد الحد الأدنى الورقي. بينما الفلاحون/ات يؤكدون أن التكلفة الواقعية مع السقاية والمبيدات والعلاجات والتعشيب تتراوح بين 90 و100 دولار للدونم الواحد، وقد ترتفع بسهولة مع أي طارئ بسيط.
الكارثة الكبرى أن العائد في حال كان الموسم جيداً بمتوسط 400 كغ للدونم, فهذا يعني أن عائد الدونم 160 دولار فقط، لأن الوزارة تتسلم القمح بـ(400 دولار) للطن، أي أقل من سعر البذار ذاته، وأقل من المنطقة الزراعية.
من جهة ثانية أعلنت المؤسسة العامة للمخابز عن تعديل مواصفات ربطة الخبز التمويني المدعوم, بحيث يبقى السعر ثابتاً عند (4000) ليرة سورية، وبات الوزن الإجمالي البالغ (1,2كغ)، وإنقاص عدد الأرغفة من 12 إلى 10، وتحديد قطر الرغيف بـ33 سم.
إن تخفيض عدد الأرغفة مقابل الحفاظ على الوزن يعني افتراضياً أن الرغيف الواحد أصبح أكبر وأثقل “قرابة 120 غراماً بدلاً من 100 سابقًا”، أي أن القرار لا يستهدف تقليص الدعم بشكل مباشر، بل رفع جودة المنتج، وتحسين شكل الرغيف، الذي تراجع في الأشهر الماضية من حيث قطر السماكة والمذاق.
إذًا المواطن/ة السوري/ة يعاني من صغر حجم الرغيف ورداءة خبزه، فالخبز هش وسريع التفتت، ومع ضعف الرقابة وتفاوت الأداء بين المخابز، تحول نهب الخبز من ميدان السعر إلى نهب الوزن والمواصفات.
بالمقارنة مع الحد الأدنى للأجور في زمن نظام بشار الأسد كان (278,910 ليرة سورية) وهو أقل من 20 دولاراً، وفقاً لسعر الصرف الرائج آنذاك، بينما أصدر الرئيس أحمد الشرع في حزيران الماضي مرسوماً يقضي بزيادة رواتب الموظفين/ات والمتقاعدين/ات بنسبة 200%، وبموجبه أصبح الحد الأدنى للأجور 750 ألف ليرة سورية شهرياً، أي ما يعادل 60 دولاراً.
نظرياً إن الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أفراد، كانت تحتاج أيام النظام السابق إلى نحو 70 ربطة خبز في الشهر، ثمنها نحو 35 ألف ليرة، بينما أصبحت تكلف اليوم نحو 280 ألف ليرة، أي أن ثمن الخبز أيام النظام السابق كان يكلف الأسرة التي تتقاضى الحد الأدنى أقل من ربع دخلها الشهري، أما حالياً فأصبح يكلفها نحو (40%) من دخلها الشهري.
ولا بد من الإشارة، أن قرار تخفيض أسعار الوقود في الشهر الأخير انعكس بشكل واضح على حياة المواطن/ة السوري/ة إذ انخفضت أجور المواصلات داخل العاصمة دمشق إلى الثلثين تقريباً، بالإضافة إلى أن أسعار المواد الاستهلاكية انخفضت بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبنسبة تصل في بعض المواد إلى (50%) بسبب انفتاح الأسواق على بعضها البعض بعيداً عن الحواجز والترفيق والشبيحة الذي كانت تمارسه حواجز الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد.
كما دخلت بضائع كثيرة من دول الجوار مع حالة الانفتاح التي شهدتها البلاد بأسعار أقل بكثير من أسعار المواد في السوق المحلية. وبحسب إحصائيات دولية تعاني سوريا من نسب فقر كبيرة، إذ يعيش أكثر من (90%) من السكان تحت خط الفقر، وتضاعف الفقر المدقع إلى (66%)، في حين تبلغ معدلات البطالة (25%)، ويعتمد نحو (75%) من المواطنين/ات على المساعدات الإنسانية، فحسب أرقام برنامج الغذاء العالمي إن نحو 12 مليون سوري/ة يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
يعد رفع أسعار الكهرباء والاتصالات والبذار هو امتثال لشروط المستثمرين الذين ينوون الدخول إلى هذه القطاعات، من أجل ضمان عوائد على استثماراتهم، إذ أعلن “جوناثان باس” الرئيس التنفيذي لشركة أرجنت للغاز الطبيعي المسال الأمريكية، أن شركته ستعمل بالتعاون مع بيكرهيوز وهانت إنرجي الأمريكيتين، لإعادة خطة شاملة لإعادة تشغيل قطاع النفط والغاز وتوليد الكهرباء في سوريا.
أن مئات الآلاف من العائلات السورية لن تتمكن من دفع فواتير الكهرباء والنت بالأسعار الجديدة، ما لم تعدل الحكومة الحالية قرارها نحو زيادة تدريجية تتناسب وتتزامن مع ارتفاع الأجور وتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعاشية للمواطنين/ات السوريين/ات، بالإضافة إلى أن مجمل القرارات الاقتصادية للحكومة السورية وتصريحات مسؤوليها تؤكد على مسألة العدالة الاجتماعية في السياسية الاقتصادية الجديدة، وهي قضية أساسية للدولة والمجتمع.
ورغم تقدم الحكومة ونجاحها بالدبلوماسية الخارجية، وسعيها لجذب المستثمرين والاستثمارات، فإنها لا تولي العدالة الاجتماعية واحتياجات المواطن/ة الأهمية التي تستحقها، فهي تستطيع إيجاد حلول مؤقتة ريثما تتحسن الأوضاع الاقتصادية، فتكاليف التشغيل التي تحتاجها الحكومة لإنتاج الكيلواط ساعي أقل بكثير مما أعلنت عنه الحكومة.
إننا في الحركة السياسية النسوية نقف إلى جانب الفئات المهمشة من شعبنا السوري التي سيدفعها قرار رفع الأسعار إلى مزيدٍ من الإفقار والنهب المنظم وصولاً إلى الفقر المدقع، لا سيما مع ازدياد أعداد النساء العاملات بسبب ضغوطات الواقع المعاشي، وبقاء حصصهن الاقتصادية الأصغر في المجتمع والأسرة، واستمرار تبعيتهن للرجل، ما يوقع عليهن معاناة مضاعفة بسبب غياب التشاركية على مستوى الأسرة والمجتمع.
اللجنة السياسية
الحركة السياسية النسوية السورية