الاعتقال والتغييب القسري قضايا عادلة لا تنتهي بسقوط النظام
- updated: 21 ديسمبر 2024
- |
بعد عقود طويلة من القمع الممنهج وطمس الحياة السياسية بقبضة من حديد لتكميم الأفواه التي طالبت بالحرية، اندلعت الثورة السورية العظيمة في آذار من عام 2011، قدم خلالها الشعب السوري تضحيات كبيرة، كانت أهم أدوات نظام الأسد الساقط لقمعها أداة الاعتقال والتغييب القسري والتعذيب حتى الموت، ولم يستثن في ذلك أي فئة من فئات المجتمع بنسائه ورجاله من كافة الأعمار والخلفيات الإثنية والدينية.
يعود تاريخ ملف الاعتقال في سوريا إلى حقبة الأسد الأب، الذي استخدم الاعتقال والتغييب القسري لقمع الحراك السياسي في سوريا طيلة فترة حكمه، ويعد سجن تدمر الشهير ومجزرته شاهدين بارزين على تلك الحقبة المظلمة، كما أن سجن صيدنايا، الذي تحول إلى مسلخ بشري أصبح رمزاً آخراً للوحشية الممنهجة التي مارسها النظام.
بعد سقوط النظام الأسدي المخلوع، والدخول لبعض السجون، نجد أنفسنا في لحظة قاسية حاسمة، تتطلب منا وقفة جادة للعمل على تحقيق العدالة في هذا الملف الشائك، العدالة التي لا تستثني أي معتقل/ة أو مُغيب/ة أو شهيد/ة تحت التعذيب في سوريا، وهي السبيل الوحيد لتجاوز هذه المحنة.
إن العمل الآن على هذا الملف ضرورة قصوى، وخصوصاً بعد تكشف الحقائق التي توضحت بسقوط النظام، كما أن العمل عليه حق مطلق لكل المجتمع السوري وخاصة معتقلي ومعتقلات الرأي في كافة السجون والمعتقلات ومراكز الاحتجاز المنتشرة على مساحة الأرض السورية.
بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك مالا يقل عن (157634) شخصاً بينهم (5274) طفلاً و(10221) سيدة، ما يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار 2011 وحتى آب 2024. حيث بلغت أعداد المعتقلين/ات في سجون الأسد قبل فراره (136614) أي ما يعادل نسبة (86.67 %) من مجمل المعتقلين/ات في سوريا، فيما بلغت نسبة المعتقلين/ات لدى “قوات سوريا الديمقراطية” (3.35 %) أي ما يعادل (5281) معتقل/ـة، بينما بلغ عدد المعتقلين/ات لدى جميع فصائل المعارضة المسلحة و”الجيش الوطني” (4371) معتقل/ـة، بنسبة (2.77 %) من عدد المعتقلين/ات بشكل عام، في الوقت الذي تم توثيق (2684) معتقل/ة لدى “هيئة تحرير الشام” أي بنسبة (1.7 %)، أما عدد المعتقلين/ات والمختفين/ات في سجون تنظيم داعش الإرهابي (8684) أي بنسبة (5.51 %).
لم يتم التحقق حتى الآن من الإفراج عن جميع معتقلي/ات الرأي والضمير في أقبية المخابرات السورية بما في ذلك المعتقلات السرية غير المصرح عنها من قبل النظام الساقط، فقد غادر هذا النظام المجرم دون أن يسلّم أيُّ وثائق تخص السجون في سوريا، وتخص المعتقلين/ات بها.
وهو ما يجعلنا في الحركة السياسية النسوية السورية ندعو حكومة تصريف الأعمال إلى التصريح الرسمي الموثق لتوضيح التفاصيل الكاملة بعدد المعتقلين/ات المطلق سراحهم ومن لم يُعرف مصيرهم بعد، وكشف كل الوثائق المتعلقة بهذا الشأن بكل شفافية.
نتيجة لعدم قيام النظام البائد بتسليم الحكم بشكل نظامي، ومنها تسليم السجون، ولهروب رأسه وانهياره بشكل مفاجئ، تم فتح السجون من قبل الأهالي الملتاعين، بطريقة فوضوية دون وجود خبرات وجهات مختصة، مما يثير القلق بضياع أو تلف الملفات والوثائق، ويزيد من معاناة ذوي المعتقلين/ات والمفقودين/ات، ويدفعهم لليأس بالوصول إلى الحقيقة التي كانت هاجسهم الأكبر طيلة فترة اعتقال ذويهم، هذا الدخول الفوضوي لأعتى قلاع الأسد بشكل غير احترافي قد يتسبّب في تعطيل العدالة وإخفاء جرائم لا بد من محاسبة فاعليها، مما يثير مخاوف أن يفقد البعض الثقة بتحقيق العدالة، وهو ما قد يعرض عملية السلم الأهلي للخطر.
إننا وفي الوقت الذي نتفهم فيه أهمية تسليط الضوء إعلامياً على انتهاكات نظام الأسد، وضرورة فضح ما حصل في السجون والمعتقلات السورية، لكننا نرجو ضمان أن تكون التغطية مهنية وإنسانية تحترم كرامة المعتقين/ات والناجين/ات.
تبرز الآن أولوية تقديم الرعاية الصحية والدعم النفسي والمادي للمعتقلين والمعتقلات المفرج عنهم، مع إيلاء اهتمام خاص بالنساء اللواتي تعرضن للعنف الجنسي والجسدي، وحمايتهنّ وتأمين بيئة آمنة لهنَّ ولأولادهنَّ وتأهيلهنَّ للعودة إلى الحياة الطبيعية بكرامة فهن منتهكات وضحايا عنف قاهر، وهذا ما يجب أن تقوم به منظمات المجتمع المدني السورية بالتعاون مع السلطات الموجودة وبدعم من المجتمع الدولي فوراً.
وعلى الآليات الأممية وعلى رأسها الآلية الدولية المحايدة والمستقلة بشأن سوريا (IIIM) والمؤسسة الدولية لكشف مصير المفقودين (IIMP) ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، والهلال الأحمر في سوريا التدخل الفوري والقيام بالمهام المنوطة بها والتنسيق مع روابط عائلات الضحايا للمساعدة ووضع آلية للحماية والرعاية والدعم للمفرج عنهم، وتعويض المعتقلين/ات وذويهم عن الأضرار التي لحقت بهم نتيجة الاحتجاز غير القانوني والانتهاكات غير الإنسانية التي تعرضوا لها، والعمل على مساعدة الأهالي الذين انتظروا عودة معتقليهم/ معتقلاتهن دون جدوى لتجاوز هذه المحنة والمضي بعدها للمشاركة في بناء سوريا العدالة والكرامة لكل أفرادها، وعلينا التذكير بأنه لطالما كان التعسف والتغييب القسري انتهاكاً جرائميّا يدمر البنية المجتمعية ويضع عائلات المفقودين/ات في أزمات نفسية ومادية تعطل قدراتهم على الحياة الطبيعية .
وفقًا للمادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لا يجوز تعريض أي إنسان للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.”
كما تنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على: “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
نحن في الحركة السياسية النسوية السورية إذ نثمن انتهاء حقبة الاعتقال السياسي التي استمرت طيلة حكم نظام الأسد في عهد الأب والابن، ندعو إلى:
فتح كافة السجون، لدى كل الأطراف في سوريا، والإفراج عن المعتقلين والمعتقلات، وتعزيز إنفاذ معايير حقوق الإنسان، التي تضمن الكرامة الإنسانية لكل مذنب وحقه في معاملة قانونية عادلة، أيّاً يكن الجرم الذي ارتكبه، وإنهاء طرق الاعتقالات التعسفية وحجز الحريات، والتأكيد على أن حرية التعبير هي إحدى الحقوق التي لا مساومة عليها ويجب ضمانها دون خوف من التعرض للاعتقال أو التضييق أو الانتقام، وهي الخطوة الأساسية لبناء مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان مع التركيز على حقوق النساء وتحقيق المساواة التامة.
نؤمن بأن تحقيق العدالة لمعتقلي الرأي، وخاصة النساء، هو خطوة أساسية نحو بناء سوريا جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان والعدالة والمساواة، وندعو المجتمع الدولي لدعم هذه الجهود والمساهمة في تحقيق العدالة الكاملة غير المجتزأة لجميع الضحايا، تتضمن المحاسبة والمساءلة القانونية والقضائية العادلة لمجرمي الحرب من كافة الأطراف.
ونؤكد على أن ملف المعتقلين والمعتقلات لدى نظام الأسد المجرم لم يغلق، ولن نقبل بأن يغلق بهذه الطريقة. وأن ملف الانتهاكات التي وقعت على معتقلي ومعتقلات الرأي عند كل الأطراف السورية لم ينظر في أمرها بعد، ونشدد على الدعوة للعمل عليها بأسرع وقت ممكن.
حق الحياة حق لا يمكن سلبه من أي إنسان، وهو حق مجتمعي ضروري لبناء دولة حديثة ديمقراطية عادلة.
اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية